أدب

جمال الغيطاني : بين الأدب والصحافة والتراث

عرفته متأخرًا، قبيل وفاته بمدةٍ قليلة، حضرت آخر ندوة له، لتوقيع أحدث كتبه حينها “حكايات هائمة”. كان يملك شفافية غريبة في الحديث، وقدرة لطيفة على قراءة الأشياء بمنظورٍ مختلف، حكى في هذه النَّدوة عن ليلة قضاها في الهرم، كان الظلامُ شديدًا، لدرجة أنه قال: “الظَّلام كان كثيفًا، حتى أنَّي شعرتُ بملمسه”. 

ربما قبل هذا اللقاء الأول والأخير، أكون قد قرأت له كتابًا أو عدة كتب، أما بعده، فقد انجرحت الصدفة، وخرج اللؤلؤ، التهمت عشرات الكتب والروايات والمقالات له، كنت أقرأ لجمال الغيطاني بنهم وشغف وحب، كنتُ مندهشًا من العالم السِّحري الذي يكتب عنه.

الغيطاني الذي استلهم التُّراث وحكاياته، كان أكثر أبناء جيله عناية بكتب التراث، قراءة ومطالعة ومناقشة واستلهامًا، وخدم شغفه بكتب التراث مشروعه كله، بدأه بمجموعة قصصية حددت المشروع الفكري للغيطاني، بعنوان “أوراق شاب عاش من ألف عام”. وحدثت طفرة كبرى في مشروعه حين كتب رواية (الزيني بركات)، عن شخصية كبير البصاصين في عهد السلطان الغوري، لينقد بها القبضة الأمنية في عصره.

تنوع إنتاج الغيطاني، فكتب الرواية والمجموعة القصصيَّة، والحكايات الأدبية، وكتبًا في السِّير الذاتية، ومساحات أخرى من التَّجريب والسَّرد.

فكتب في القصة القصيرة: “أوراق شاب عاش من ألف عام”، و”نفثة مصدور”، “من دفاتر العشق والغربة”، و”منتصف ليل الغربة”.

كانت قصصه القصيرة أول قراءاتي له، وكنتُ أقرأها بدافع من اكتشاف جديد وعذب بالنسبةِ لي، عذوبة اللغة والنَّمط المدهش من التكثيف، لم أستسغه في حينها، وسأعيد اكتشاف الغيطاني فيما بعد، في الروايات سيكون الأمر مختلفًا تمامًا.

كتب في الروايات فأبدع، فكان مما كتب: “الزيني بركات”، و”وقائع حارة الزعفراني”، و”رسائل البصائر في المصائر”، و”خطط الغيطاني”، و”رسالة في الصبابة والوجد”.

كانت الدهشة من الزيني بركات عظيمة، وهي أحلى أعماله تقريبًا. قدَّم الغيطاني نفسه فيها، واكتشف كأديب كبير ومتمكن من أدواته، دارت أعماله في مساحات من التَّاريخ أو إعادة تقديمه في شكلٍ جديد، حتى على مستوى الأسماء. فكتب الخطط بإيحاء من كتب الخطط التاريخية، وكانت حارة الزعفراني عالمًا فانتازيًا وغرائبيًا بامتياز، وفي الصبابة والوجد كان الحب عاليًا، فكتب رسالة ممتعة وعلى درجة عالية من اللذة.

في رسالة البصائر، يقدم الغيطاني نقدًا لاذعًا لحالة ما بعد الحرب، والتجار الذين أصبحوا أغنياء من مخلفات الحروب، كيف تبدَّل الحال، وصعدت طبقات جديدة، لا تملك أي مقوم من مقومات الحضارة والعلم والثقافة، سوى المال، سلطة جديدة تفرض نفسها في واقعٍ جديد.

الغيطاني ابن الصعيد مولدًا، والقاهريُّ إقامة، والعربيُّ ثقافة واطلاعًا، والرحالة في بطون الكتب، وعلى أبوابِ المساجد، وفي شوارع العالم. لم يكتف الغيطاني بالكتابة الأدبية في القصة، والرواية، ولكنه قدم جهدًا كبيرًا في العمارةِ الإسلامية، كان الدافع لذلك هو شغفه بها، وأنه ابن منطقة الجمالية في قاهرة المعز.

كانت هذه المنطقة ممتلئة بعشرات الآثار من المساجد والأسبلة والبيوت، تفتَّحَ وعيُ الغيطاني عليها. وحين كبر، مزج بين المشاهد الحسي، وبين قراءات الكتب، فكانت كتاباته من النمط الممتع، لم يكتب عن العمارة كتابة أكاديمية جافة، وإنما كانت كتابة مُحبة وشغوفة، فاستعاد المسافر خانة، وكتب عنه كتابًا حزينًا، لأنَّ هذا البيت الذي شاهده الغيطاني من سطح منزله، قد تهدَّم واحترق، فأعاد بناءه من الذاكرة.

الغيطاني بين الأدب والصحافة والتراث 3 جمال الغيطاني : بين الأدب والصحافة والتراث

وكتب عن القاهرة عدة كتب نذكر منها: “ملامح القاهرة في ألف عام”، و”تجليات مصرية: جولات في القاهرة القديمة – قصائد الحجر”، و”قاهريات مملوكية”. كانت هذه الكتب مدخلًا لطيفًا، ومُحرضًا ثقافيًّا بالنسبة لي، لأن أقتني عشرات الكتب عن القاهرة وحياتها وتاريخها وشوارعها ومساجدها وبيوتها، وأن أحضر ورشة بعد تلك القراءة بعشرة أعوام تقريبًا عن العمران للدكتور خالد عزب، لمدة شهرين، وأن أكون متنبهًا، ومشاركًا، وفاعلًا، ومثيرًا للأسئلة، ومجاوبًا على النِّقاشات، وكل ذلك من أفضال كتب الغيطاني في العمارةِ الإسلامية.

كانت هذه الكتب تقدِّمُ تعريفًا وقراءة فلسفية وصوفية للمساجد والأسبلة والبيوت، قراءة تجعل الغيطاني قادرًا على استنطاق الحجر، والغوص فيما وراء البيوت والمساجد، في فلسفةٍ بديعة، لا تجعل القارئ لكتبه، ثم المشاهد لهذه العمائر الدينية والدنيوية، لا يكتفي بما هو مشاهد ومرئي، وإنما محاولة فهم أسباب وخفايا الحجر، لذلك كان الغيطاني يتعامل مع الحجر باعتباره قصائد، في حاجة لفك رموزها وخفاياها.

لذلك ليس غريبًا أن يقوم المؤرخ العمراني الكبير ناصر الرَّباط بإهداء كتابه: تقي الدين المقريزي “وجدان المجتمع المصري”، إلى روح جمال الغيطاني وآخرين باعتبارهم من المقارزة الجدد.

وتجده عن تسلمه وسام العلوم والآداب الفرنسي من درجة فارس، يقول: “اهتمامي بالعمارة هو لأن الرواية بنيان وعشقي للموسيقى لأنَّ الرواية إيقاع”.

الغيطاني بين الأدب والصحافة والتراث 5 جمال الغيطاني : بين الأدب والصحافة والتراث

كان الغيطاني من أنبغ تلامذة الأستاذ نجيب محفوظ، وأكثرهم منه قُربًا، الأمر الذي جعله يكتب كتابًا بعنوان: “المجالس المحفوظية”، ويعد هذا الكتاب أحد المداخل لسيرة نجيب محفوظ، مع كتاب الأستاذ رجاء النقاش “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”. ولم يكتف بهذا الكتاب في السير الذاتية، فكتب كتابين بعنوان: “توفيق الحكيم يتذكر”، و”مصطفى أمين يتذكر”، إلا أنَّ هذينِ الكتابين لم يشتهرا أو يقبل عليهما القراء، مثلما حدث مع المجالس المحفوظية.

ولم يكتب الغيطاني تراجم ذاتية للآخرين ونسي نفسه، بالعكس، فواحد من أعمدة كتبه وأكبرها حجمًا، وأعمقها لغة وفكرًا، كان التَّجليات، يحكي فيه عن نفسه وأهله وما جرى له في الزمان الوعر، ولم يكن التجليات فقط في سيرة الغيطاني، بل كتب عن محنة مرضه، فقد أصيب في إحدى سفرياته بانحصار البول، فكتب كتابًا عذبًا على ما به من ألم، جعل عنوانه: أيام الحصر.

وأصيب بأزمةٍ قلبية، أوصلته لمستشفى كليفلاند الشهير، وأخضع لعملية في قلبه، كتب عنها كتابًا، جعل عنوانه: “الخطوط الفاصلة”، وفي مرحلة التعافي كتب: “مقاربة الأبد”، وتكررت الأزمة وأعيد إلى كليفلاند مرة أخرى، فكتب “الأبيض والأزرق”، وأعيدت تجميع هذه الكتب الأربعة ضمن أعماله الكاملة عن هيئة الكتاب المصرية، بعنوان “كتاب الألم”.

ولم تكن علاقة الغيطاني بكتب التراث استلهامًا فقط، لإعادة التقديم فيما يكتبه من قصص وروايات، وإنما أنتج كتابين ممتعين، أحدهما بعنوان: خُلاصة التوحيدي “من نثر أبي حيان التوحيدي”، وهو من كتب المختارات الأدبية الممتعة، ومدخلًا لطيفًا لكتب أبي حيان التوحيدي، للتعرف على أسلوبه وكتبه، وأنتج كتابًا آخر بعنوان: “منتهى الطلب إلى تراث العرب”، قدَّمَ فيه مداخل وتعريفات لكتب وأعلام، دون تعقيد أو كتابة مملة، فيجد القارئ في هذا الكتاب مقالات ممتعة عن معمار ألف ليلة وليلة، ومقالات عن أسامة بن منقذ وكتبه، ومقالات عن مؤرخين كبار أمثال ابن تغري بردي، ومقالة عن كتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين، وهذا الكتاب من أمتع ما قرأت من تعريفات ومداخل لكتب التراث أو أعلامه، وهذا الكتاب مع كتاب خلاصة التوحيدي، مما أنصح بهما لمن يريد القراءة في كتب التراث.

كان الغيطانيُ طموحًا لخدمة التراث يقول في منتهى الطلب: آثرتُ أن أبدأ بعرض عدد من كتب التراث المختلفة، على أن أتبع هذا بآخر مخصص للتعريف بكتب التراجم في التراث العربي، وثالث أقدم فيه مصادر القص العربي، ورابع أقدم فيه أهم ما كتب عن العمارة الإسلامية من القدماء والمحدثين”.

على أنّ المنيّة قد اخترمته، ولم يكتب ما كان يطمح إليه.

يصرَح الغيطاني عن زمانه: “فيا أهل الوقت الذي لا نعرف من أمره شيئًا، يا أهل أزمنةٍ لن نبلغها، ستقصر عنها أعمارنا، يا من ستسعون في دنيا لن نتنفس هواءها، لن نبصر مباهجها، لن نعرف ملذاتها، يا من لم تعرفوا ما عرفناه، ولم تشهدوا ما عشناه، ولم تعاينوا ما عايناه، اعلموا أن ما مر بنا ثقيل، وأن ما عرفناه مضنٍ، وما قاسيناه صعبٌ مر”.

الغيطاني بين الأدب والصحافة والتراث 4 جمال الغيطاني : بين الأدب والصحافة والتراث

كان الغيطاني فنانًا، عمل في صناعة السجاد في شبابه، ولعلَّ هذه الصناعة قد تركت في نفسه الشيء الكثير، فصار يختار الألفاظ الجميلة والمعاني اللطيفة، وصارت عنايته بكتابته عالية جدًا، لا يكتب إلا كل ما هو جميل، وبإمكانك أن تصفه لأي إنسان أن هذا الرجل هو الجميل/ جمال.

ولا يصح أن ننسى الجهود الصحفية لجمال الغيطاني، فهو قبل الأديب والقاص، كان صحفيًا بأخبار اليوم، ومراسلًا حربيًّا لها على جبهة القتال، وكتب عن فترته في الجبهة، كتابين أحدهما بعنوان: “حراس البوابة الشرقية”، والآخر عن العميد إبراهيم الرفاعي، قائد المجموعة 39، إلا أن النقلة الكبرى لجهوده الصحافية كانت في تأسيسه جريدة أخبار الأدب، التي ملأت فراغًا كبيرًا في الساحة الثقافية، بما قدمته من جهود لتغطية أخبار الأوساط الأدبية والفنية، ومتابعات نقدية، واستعراض الإصدارات العربية والعالمية، والآن وقد تخطّى عمر أخبار الأدب الثلاثين عامًا، ما تزال أخبار الأدب من أقوى المجلات الأدبية في الساحة الثقافية المصرية، وإنما هي من جهود الغيطاني التي لا تُنكر، فقد كان داعمًا لصحفيين صغار وقتها، الآن أصبحوا رؤساء تحرير وكتابًا كبارًا، لم يكن الغيطاني يبخل عليهم.

ومن جهوده في خدمة التراث، كانت رئاسته لسلسلة الذخائر الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية، وكانت فترة شديدة الثراء، أنتجت فيها عشرات الكتب الأمهات في الشعر والأدب والتاريخ، نذكر منها “ديوان المتنبى”، “ألف ليلة وليلة”، “خطط المقريزي”، “قصة حلاج بغداد”، “الإشارات الإلهية” للتوحيدي، و”تجريد الأغاني” لابن واصل الحموي.

كان الغيطاني حارسًا من حراس الثقافة المصرية، وأحد كبارها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة تراثها الأدبي والفكري والمعماري، وعلى كثرة وتنوع ما أنتج في المعارف المختلفة،  بين الصحافة والأدب والتراث والرواية والقصة، نجده في حسرة من أمره، يقول: “ما ورائي أكثر مما يبدو أمامي، ما خلفته أغزر مما استقبلته، أكرر رغبتي، أمنيتي المستحيلة: أن أمنح فرصة أخرى للعيش، أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة، أجيء مزودًا بتلك المعارف التي اكتسبتها من وجودي الأول الموشك على النفاد، أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع، وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم، وتلك النظرة تعني الود وتلك تعني التحذير، وتلك تنبئ عن ضغينة.

كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات، ومازلت أتهجى بعض مفردات الأبجدية، كم من أمور ستعبرني ولن أدرك كنهها، لن أقف على دقائقها، أدركت ما يتعلق بغيري، ولم أقف على ما يتصل بي، فيا حسرة على العباد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى