أدب

حب في ماسنجر

“غثاثة المحبوب تحمينا من السُّقوط فيه.

نحن مدينون بعافيتنا من الألم المحب لهذه الغثاثة التي تظهر على شكل حذلقات، أو اعوجاج سوقي في حركةِ الفم، أو وقفة قبيحة، أو اصطناع أحاسيس وانفعالات، أو انتهاج سلوك وضيع، أو رثاثة أصلية في الخُلق، أو طريقة مقزِّزة في الأكل، أو أي سيماء تفصحُ عن غثائيةِ المحبوب وسماجته”.

“النِّساء المُذابات في العوالم الافتراضية ماهنَّ إلا فواكه من بلاستيك”.

“أن نقضّي ليلة كاملة، على النِّت، فذلك شهيد على حقارة زاهية أخذت شكل الوجود، ويا للفظاعة!”.

“وقضاء عشر ساعات في محادثة مع امرأة على ماسنجر كافٍ لأجرجَر إلى مِنصَّة إعدام. لا عذر لي سواء تحادثنا في المطلق، أو تماتعنا إيروسيا”.

“المرأة عدوة الحلم. هي صقيع. هي مغارةٌ بَلِيلةٌ ظلماء. هي مدفنٌ خانق.. وموتٌ أكيد”.

“الحب مهزلة ونقص. الحب تطلبٌ وابتزاز. والحب استباحة للذَّات، ونسيانٌ لها. وهو نقيض أن توجد”.

“هل أنت عاشق؟ – نعم. أواه! أنت تفنى، وستقرأ عن “لذَّة” الفناء هذه، وعن عظمة الاحتراق وجْدًا؛ ذلك لأنَّ الأحمق يمجِّدُ حمقه بوصفه قداسة. عظماء المتصوفة وكبار الشُّعراء الرومانطيقيين كانوا من هذه السُّلالة.

لا أقايض فرناندو بيسوا بشيللر وهولدرلين مجتمعَيْن. لا أتنازل عن الشَّمس لآخذ مصباح مصطنع مضلِّل”.

“ألعنُني وألعنُها وألعنُ العالَم.. ما أنا إلا غبار “.

كتب هذا السَّخطَ الغنائي مغفلٌ أزهقَ ليلته في حديثِ إلكتروني مع فتاةٍ يحبها.

كان حديثًا فارغًا كسائر أحاديث النَّاس.

أعلن سليم، ذو الثلاثين عامًا، انقطاعه عن الحديث معها بغتةً بالنسبة لها، أمَّا هو فقد ظلَّ يتردد في إقفال النِّت منذ ساعتين، ولكنه لم يجرؤ. كان ضعيفًا ومراعيًا ومضحيًا.

وعند الرابعة صباحًا أغلق المحادثة عليها دون توديع ولا استئذان ولا لياقة. كانت عيناه تحترقان ألمًا، وفي رأسه ارتجاجٌ مدوخ، وتشوَّكت عروق ظهره وعنقه. أطلق صرخةً مريرةً وانطلق يشتُم ويبتهل ناضحًا بالماء البارد عينيه “أنا جبان.. أنا تافه.. أنا منحط.. الخسيسة.. سنة كاملة يا ربي ولا أعرفها… وجهها؟!! على الأقل أرى وجه الضبعة هذه… لماذا لا حظَّ لي؟ لماذا يا إلهي…؟ أحلفُ أنَّ لها أكثر من شخص.. أحلف أن لها عشيقًا تتعرى أمامه، وتتلوَّى.. يارب! يا رحيم ليس عينيّ.. ليس عينيّ “ثم أطفأ نور غرفته وخرَّ ساقطًا بطوله، دافنًا وجهه في بطانيته المتجمِّعة وينتحبُ كالثكلى.

ظلَّ يرسل لها بأكثر من صورة له، يذهب إلى المَحْلَقة فيحرص على زينته، ويتوهم أنَّ جميع صوره تلك سوف تُخْرِج منها صورة واحدة. ولكن لا فائدة؛ فوجهه بلا وجاهة. وليس جديرًا بوجه نجوى السِّحري.

لم تكن ترسل له إلا بصور مبتورة، تحت إلحاح توسلاته المنحطة: صورة تظهر فيها كفها وأصابعها النَّحيلة الجميلة مصبوغة الأظافر، وصورة يظهر فيه كتفها الأبيض الضَّامر وخصلات من شعرها، وصورة تظهر شفتيها منفرجتين قليلًا لوضع حافة كوب البُن بالحليب، وصورة لقدمها بحذاء جديد لامع مع ظهور طرف البنطلون الأسود، وجميع الصور على هذه الشَّاكلة.

صدحت المآذن السَّامقة المهيبة بالموشحات الدُّعائية الضَّارعة بنغمٍ حنينيٍّ عميق. الهزيع الأخير يضفي جلالًا على هذه الابتهالات. أصوات ديكة بعيدة منه تعلن مقدم الضياء. مازال مغشيًا عليه في وعي، ينتظر ابتراد عينيه، وهدوء رأسه.

هو الفجر؛ فجر صنعاء القديمة الخاشعة في فتنة قدُسية. أقيمت الصَّلاة واختلطت أصوات الأئمة، وضاع صوت جميل في زحمة أصوات هَرِمَة تُسحب كالصفيح.

شعر سليم برغبة في تنفس هواء الفجر الصَّافي، فنهضَ واستقام، وفتح نافذة حجرته، واستقبل النسيم البارد اللطيف وهدأ ألمه هدوءًا يكاد يكون كليًّا.

أحسَّ يد الصباح تضمُّ عينيه بحنانٍ شافٍ، وتناهى إليه صوت بعيد يبعث في القلب شجى وحزنًا لإمام شاب يتلوا من سورة الواقعة. فدمعت عيناه وكان قد تذكر سليم اليافع المعتكف في جامع القرية الصغير المليء بالثَّعابين وهو يختلجُ في حضرة هذا القول الرَّهيب. هذا الصَّوت الطري يلمع لمعانًا في كومة الأصوات اليابسة.

يَرى من تحته سطوحًا قد شُكَّت، في الليل، على حبال نحيفة، أسرابٌ من ملابس مغسولة، كما لو أنه فعل تهريب. لا يستطعن النساء الخروج نهارًا لنشر الغسيل إلا في تغطية شبه مُطبِقة لجميع الجسد، ولأن التغطي عبء ثقيل، فلابد من انتظار الليل ليقمن بمختلف الأنشطة التي لا يجوز للنهار رؤيتها.

وسط هذه العباءة الكونية تنشطُ الخفة.

01 حب في ماسنجر

لاح الضوء فأغلق النَّافذة، وأنزل الستارة، وحاول النومَ فلم ينم. تنابتت في ذهنه، كالفِطر، عبارات لها ضجيج، فلم يفلح في محوها وإخراسها، فنهض لاعنًا ساخطًا مزيحًا الستارة ليتسرب الضوء، وأخذ القلمَ يدون مستندًا على أرضية النَّافذة، فكانت تلك الجُمَل التي استهللت بها الحكاية.

لم يفارقه الشعور بالعار؛ لأنه قضى ليلة في ماسنجر!

ولكن لم تكن هذه الأولى، فعلامَ غضبه العارم؟

إنه الألم. وحده من حرره وأنقذه. وما كتاباته تلك إلا تصريف عنف فائض، كانت المرأة هي الأضحية.

هذا العنف متأتٍّ من وعي بَرْقي بالسخف المحب، أشعله الوجع، في الوقت الذي ظل فيه العقل بليدًا لا يفقهُ كحاله دائمًا.

بعد إفراغ توتره في شتائم؛ عاهد نفسه ألّا يعود إلى تلك الملعونة مطلقًا: فنجوى وحدها من تجعله مرتبطًا إلى شاشة تلفونه طوال هذا الوقت، وغالبًا ما كان يحدق على غرفة الدردشة الخاصة بها ساعات طويلة طالما اللمبة الخضراء تعلن حضورها، ويسمع، في داخله، لغطا مزدوجًا:

“ماذا تشاهد الآن؟ مع من تتحدث؟ لمن تتكشَّف هذه الساعات الطويلة بينما أنا انتظر مثل كلبٍ مطرود؟ مَن هذا النَّذل السَّافل الذي يحظى بها الآن ويتحدثُ إليها؟ ومن يدري فربما هو يدللها الآن؟ يبووووه! يبوووه!    خسارة!  دمار! مؤكد أنهما يتعابثان.. لا لا لا ليس إلى هذا الحد.. هي طاهرة وبريئة.. أنت تكذب، بل هي آثمة فوق ما تتخيل، على كل معصية قادرات، ياربي لا.. يا ربي لا..  وليش لا؟  لا تستبعد… مستحيل.. بل هذا واقع ولعلها الآن في ذهول من نشوةٍ آثمة… ولكن لماذا آثمة؟  هي حرَّة.. لا لا أنا أؤكد أنها آثمة معي.. نعم آثمة معي جدًا.. مجرمة.. سفاحة..  لكن من أنا حتى تلتفت لي؟! .. ولكني أحببتها بصدقٍ جارف.. لا أحد يحفل بشعورك هذا.. ماذا تظن بحبك يا غبي… لا يساوي شيئًا، ولا له أية قيمة… وقت طويل مرَّ وأنا أنتظر رسالة منها وهي في النت ولا تذكرني… بادر أنت برسالة.. لا أستطيع لا أستطيع.. أريد أن تذكرني هي.. أريد أن أشعر أنني مهم.. لا أريد فرض ذاتي.. إذن انتظر حتى الموت.. لعلها الآن تكتب كلمة… يارب اخبرها بوقوفي هذا… لعلها الآن… لعلها الآن.. عليك لعنة الله يا نجوى لماذا لا تكلمينني؟ اغلق النت، واضطجع في نومة عميقة خير لك..لا نوم.. لا نوم”، وحين يقفل النت تظل هواجس الغيرة والمقت الذاتي يفتكان به ويفريانه فريًا.

كان يشعر بالتضاؤل في حضرتها على الماسنجر، ويسعى لأن يكون مطلوبًا. خاب سعيه.

يا للسخرية الحزينة! لم تظهر له في غير الماسنجر، رغم أنها في صنعاء ولا يكلفها لقاؤه سوى ربع ساعة مشيًا على الأقدام. وأي ظهور؟ كتابةً فقط.

مرتين سجلت له صوتها في بداية علاقتهما ليتأكد أنها امرأة، فهو مازال محتفظًا بذكرى محرجة شديدة الإيلام عن فتاة أحبها كالسَّيل تدفقًا، وباح لها بخاصة أسراره متوهمًا أنه وجد فتاة خياله التي رسمتها روايات رديئة وبعض الأغاني والمسلسلات العاطفية.  ونحن لا نحب إلا الصورة التي في خيالنا، والتي كونتها قراءات وأغان وهلوسات، وحين نصادف امرأة نقول لها لقد أحببتك من النظرة الأولى، وبعد مدة وجيزة نقول لها كنت أشعر أنني أحببتك من زمان، وجوته وهولدرلين لهم قصائد تحكي هذا الحب القَبْلي، والألمان هؤلاء أشاعوا أوهاما كارثية،وأفسدوا طبيعة العالم بحثا عن الروح.

المرأة تقول ذلك، أيضًا، حينما تحب. كلاهما يؤسطران قصتهما حالمَيْن كاذبَيْن. لينتظرا قليلًا فسوف يأتي الشِّتاء العاصف، ثم يقول كل واحد منهما “لقد خُدعتُ، لم تكن ذاك الذي تصورته”. ثم يفترقان وكلاهما يشكو أنه ضحية. وهذه الضحية لاتلبث أن تبحث عن ضحية أخرى من ضحية أخرى، فيتكاشفان الحب الهراء، ويتباكيان متذكّرَين أنهما ضحيتا حب ظالم مستغِل، فيصنعا من بؤسيهما “سعادة” يظناها أبدية، ويقسمان أغلظ الأيمان على الوفاء حتى الموت (الفاجران!  أفهمها؛ فالقَسَم يقال في لحظة انتشاء ذاهل وهو صادق حينها لأن تلك اللحظة تمثل الأبدية، وبالتالي ليسا بحانثين إن افترقا بعد ذلك؛ فاللحظة قد تلاشت وحل السَّأم)، ولكن ما تلبث أن تُبَاد العلاقة الجديدة كما في المرة الأولى، ويترجَّع النَّغم المكروب ذاته. ويستمر البحث عن المحلوم الذي صنعته الرداءة.

وكان اسم تلك الفتاة أماني. وقد أرسلت له بصورتها محجبة لا يظهر إلا وجهها، فأصبح لايستطيع النوم هياما بها، وأصبح لا يقدر على الأكل كفايةً. كان يشعر بامتلاء خاوٍ.كان لايقوى على تحمل عاطفته. ليلتين كاملتين لم يذق فيهما نومًا ولا راحة. حب قاتل. هذا وهي لم تحدثه إلا على الواتس، وأرسلت له بوجه. بينما هو أذاب كيانه كله فيها.

أخيرًا وجد امرأة تقول له “صباح الخير”.

ولكن حين رأته أماني على هذه الحال الدونكيخوتية الهستيرية، حظرتُه ليلاً رأفةً به، أو تطلعا لهستيريا أعنف. فكاد يفقد عقله تمامًا وأرسل لها بأحطِّ الرجاءات أن ترفع عنه الحظر. وحينها دوّى المكان بضحكة مجلجلة: فأماني ليست إلا زميله في الغرفة برقمٍ جديد!

لم يستطع نسيان ذلك ولم يغفر. وفارق الغرفة صباحًا، وظلَّ متنقلًا في عدد من اللوكندات الحقيرة، ولم ير وجه زميله قط، رغم محاولات الصُّلح بينهما.حين أخبرني بذلك، قلتُ له:”أنت لا تحقد عليه، إنما رؤيته تذكرك بغباوتك التي التصقت بحضوره وبشخصه إلى الأبد. أنت تخجل وتفر من بلاهتك. حرجك هو من يطاردك ولا يدعك في سلام، بينما هو قد نسي ولم يعد يتذكر. لا تقرض ذاتك بهذا الشكل إلا لأنك من معدن هو أسمى من هذا المعدن الرائج” أُعْجِبَ سليم بهذا الفهم كأنما خلَّصْتُه من عبء.  فأحبني وحرص على صحبتي.

يكفي أن نفهم عثرات الآخرين حتى نصير كهنة اعترافاتهم.

ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟

أولًا: طبيعة التمرأي لدى الإنسان بوصفه “حيوانًا اجتماعيًّا” فهو مجبول، بفعل النشأة والتربية، على أن يتكلم وعلى أن يجد من يستمع إليه. فمَن يتكلم هو يرفع حجاب اللامبالاة بينه وبين الآخرين، وحين لا يجد أحدًا يدخل في الجنون: عالم المرايا التي لا حدَّ لها ولا وجود لها، إنما الذَّات وحدها هناك تتعدد. إذن من يبوح للآخرين إنما ينأى عن منطقة الجنون، ولكن ليس جميعهم جديرًا بسماع الأسرار، وإذن لابد من بحث عن الذي يستحق أسرارنا، وفي هذه الحالة نمر بأشخاص خادعين، ولانعثر على المطلوب إلا وقد أُنْهِكنا وذاع سرنا، وسليم لا شك أنَّ أكثر من شخص قد عرفَ سره، وحين التقاني وتوطدت معرفته بي صار ينثر أسراره واثقًا من حفظي لها، ولكنه لم يخطر بباله أنني فضَّاحٌ جريء هوايته محاولة كشف اللامرئي في المعيوش. لقد أخطأ إذ قصدني، فما ذنبي؟!

ثانيًا: إننا لا نوبخ من يبوح بأسراره لنا (ما واقعُ السِّر إلا لحظة غباء وضعف، وكشفه أيضًا كذلك)، وإنما نشعره بالنقاوة وبالبطولة وبالصدق، وهكذا نجعل منه إمَّعة لا يُخفي شيئًا.

ثالثًا: لأننا ننصت إليه باهتمام ثم نتداول سره بالفهم والتأويل. يكفي أن تنصت إلى أحدهم باهتمام وإعجاب حتى يجعل منك إلها يُعبَد.

الآلهة آلهة لأنها لا تعترض ثرثرتنا بين يديها.

لكن ما إن يتعافى وجوديًا هذا المستشفي باستفضاح نفسه؛ حتى تتملكه رغبة شرسة في قتل كل أولئك الذين وجدوه في حالة ضعف لَعين. وأول ما يقتل آلهتَه.

IMG 7687 حب في ماسنجر

في أحد الصباحات البغيضة دائمًا (لا أحب صباح صنعاء، أتعدَّم فيه، وأظل أنتظر، في عذاب، حلول المساء المعيد إليَّ ذاتي) خرجت قاصدًا سمسرة وردة (مقهى وسط صنعاء القديمة، كان نُزلًا في الماضي، له باب خشبي سميك، ومدخل منخفض معتم فيه على اليسار تعد المشروبات الشَّعبية السَّاخنة ولا ندري كيف تجري سياسة النَّظافة في هذه العتمة. يفضي بنا الدهليز إلى باحةٍ شبه دائرية تحيطُ بها مقاعد اسمنتية مبلطة عدا الجدار الحاجز الجنوبي ففيه خزان ماء وسامانات أخرى وفوقه بيت صاحب المقهى، وكان له طفلة لطيفة ودودة وتحكي بسحر آسر عن بعض تصرفاتها في البيت والمدرسة وعن زميلاتها وأخوتها، لا أعلم أين هي الآن ولمْ أسأل. على مقعد الجدار الغربي ستارة بألوان صنعانية تحسبًا لوجود امرأة، أو أكثر، أو وجود زوجين، أو عاشقين، وهناك مقعدان طويلان في الوسط يُستخدمان كطاولة، وماذا أيضًا؟ ذهبتُ أمس فوجدت أن المكان كله أصبح للعائلات . اللعنة ! أين نذهب! ).

شربتُ شايا أحمر بالنعناع، وظللت أقلّب شاشة التلفون (فيما مضى كان يمكن أن نفكر بدون هذه الآلة القاتلة لخيالنا وللواقع، أمّا اليوم فلا نكاد نحيا بدونها، وأي حياة؟!) وقد جلس ثلاثة زبائن متفرقين على تلك المقاعد.

– أنت هنا، توقعت لقاءك. خذ، اقرأ، وقل رأيك.

كان سليم في حالة اهتياج هذياني حين باغتني بصوته، وأردف حين جلس إلى جانبي:

– اطلب لي شراب الملعونة… اطلب لي «بُن حليب مفور».. لقد تخلصت منها إلى الأبد… قبل قليل دمرتُها تمامًا.

طلبت له شرابه أو شرابها بالأحرى. فكان يرتشفه بخشوع كأنما يؤدي طقس مقدس، وكان ينظر إلى غرفة القهوجي الواقعة فوق الجدار متلمظا رشفات قهوتها بالتذاذ.. بالتذاذ.

حب في ماسنجر

– ماذا حدث؟ قل لي؟

– اقرأ أولاً واعطني رأيك؟ أو..

– إذا المكتوب متعلق بهذا “الدمار” قل لي قبل قراءته حتى أستطيع أقيم. (يا للعاشق!  تستطيع سحبه كنعجة. فقط خض في في موضع عشقه).

– باختصار غلقت النت في وجهها…

-لا وجه لها

– أكيد.. المهم أنني سئمت منها، كرهتها، لعنتها وألعنها دائما.. سنة كاملة وهي تلعب بي

-أنت تحبها..

-لم أعد..

أثناء ذلك دخلن شابات ثلاث إحداهن تحمل عصا سيلفي مصورةً السمسرة وصديقاتها، وكنّ جميعهن كاشفات وجوههن، وكنّ مرحات ومتأنقات جدا. انتفضت منبها إياهن إلى عدم التقاطنا، وتبعني سليم في تنبيهه بحدة زاجرة وغضب لا يخفى، بينما القاعدون ينظرون إلى هذه الدراما المفتعلة بعين البله، فلم يفهموا معنى أن شابين يرغبان في مشاجرة مع نساء جميلات. هل هن جميلات؟ لا والله.

قالت أجرأهن بازدراء ماحق: احنا بنأخذ سيلفي، وبعدين من يقذى يصور هذي الأشكال..

كنا قد جلسنا. وحقا أشكالنا مفزعة. لم ننم. وكلانا نهوي في العدم الأسود. وكلانا خيبنا ظنون كل المقربين منا. هو ظل يواصل ما يسميه حبًّا فيتردى كل مرة، وأنا أتردى لأسباب مختلفة. نلتقي معًا في دوَار لا نهاية له.

قال سليم متمتما زامًّا شفتيه:

اعرفهن.. اعرفهن.. شلة فارغات فارحات بارواحهن… هل احنا في باريس؟ واثق أنهن الفيسبوكيات من عيّنة نجوى التافهة ..

قارئات أردأ الكتب، العايشات دور مثقفة.

– وأنت اتركهن لشأنهن، ما…

– لا، وحياة أبي ما أتركهن.. الكلبات..

أثناء ذلك كنَّ يشربن قهوتهن ويتناخسن فيما بينهن، ويمررن، إلينا، نظراتٍ زاحفاتٍ خبيثات ساخرات في اختلاس.

– بالضبط شن عليهن ولا تتهاون.. هاه؟  ما لهن المثقفات؟

– اسمع.. أنا أكره كل ما يمت للثقافة بصلة، حتى المثقف الحقيقي يثير قرفي. الثقافة تضحِّل الحياة، فما بالك بالثقافة الفيسبوكية هذه، وبالمثقفين الطرابيل مدمني العوالم الافتراضية.. إنهم جنس مقزز.. أخس ما تقيأته الأرض… لكن مالي ومالهم.. الله يلعني… والآن.. والآن اطلب لي ولك بُنْ بالحليب، دعنا نشرب إلى روح جثة المقتولة قبل قليل.  يخادع قلبه بلا كلل .

ظللنا نشرب قهوتها هو يحلم قتيلته، وأنا أقرأ تلك العبارات المصدَّرَة.

-هاه؟

–  كلام صادق في لحظة يائسة. هل كنت كذلك؟

سرَد لي بعض ما مر به في ليلته، فلم أجد أية مثلبة على ما كتب، طالما هي كتابة ظرفية.

قال وقد ضرب على ركبتي:

الحقيقة… الحقيقة أنني أغلقت المحادثة بسبب ألمي.. عيوني.. رأسي.. كلي مريض.. كلي في طريقه إلى الموت… ولكن محال العودة لحبها محال، وهذا نصر.

قلت له: إنَّ الألمَ منقذه، وملاكه الحارس. راعيته بلا ملل. باركت له هذا الانعتاق العظيم. خضنا حديثًا مطولًا حول مآزق الحب وإخفاقاته. حاولنا فهم الدَّواعي التي تدفع بالإنسان إلى أن يحب، واجتهدنا لنفهم لماذا نغار، ولماذا تظل هواجس الغيرة لاتفارق المحب؟ ثم تدحرجنا في التفاهة إلى أن خرجنا.

بعد يومين يتصل بي ، ويلعن كل تحليلاتي. ما السبب؟ :

عادت له نجوى الماسنجرية فأضاء له العالَم.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. “الحُب لا يأتي كما تريده .. وليس إن فاتكَ تستعيده
    ذو جانبينِ وعدُهُ وعيده .. أخفه مؤنة وطيده
    ينبع من أهونه شديده .. يصيدني الظبي الذي أصيده”
    ومِن يجترئُ على الحب دونَ حقيقة قدرة، يهترئ تحت وطأته..
    أجاد قلمكم يا زين الله، أدب رفيع وفقكم الله

  2. الحقيقة أن زبن الله له روحٌ منفلوطية خالصة..
    لا حكّمه الله على شعب،، والله ليطيِّرنَّ الرؤوسَ قحفاً تلو قحف!

    إن الكاتب المبدع هو الذي يستطيع تحريف ما اعتاد عليه الناس واطمأنوا إليه؛ وزبن الله كاتب بليغ، وهو لا شك ممن يبدع باستلاب الروح ليجعلها مداساً لقلمه، وأنا موقنٌ لو أن صاحبه “سليم” كان قد وفِّقَ بحبه “الماسنجري” هذا.. لكان له رأي مغاير، والحقيقة الماثلة تقول.. لو أنه أراد أن يكتب عن فضائل الحب البعيد، وعن مآثر المرأة في الحب، وعن مهالكها فيه: لفَعل؛ ويسرنا ويسعدنا جداً أن يفعل.. بل علّنا في انتظار ذلك..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى