حمام الأيك.. وحنين الشوق

يُروى أنّ أديبًا مغترباً رقيقَ الحس قد كُفّ بصره يدعى اليمان بن أبي اليمان، مرَّ هو وقائده بسوق يسمى [باب الطاق] في العراق، فسمع حمامة تنوح في دكان خباز فانصرف عن مقصده في السوق وأمر قائده أن يميل به إلى الخباز … فدخل عليه وسلم ولاطفه ثم التمس منه إطلاق الحمامة رأفة بها وبما تنوح عليه لعلّ شملا يجتمع بعد طول فراق .. فأبى الخباز، ففاوضه فيها بالمال إلى أن اشتراها منه ثم أطلقها…..وحينها أنشد:

ناحتْ مطوَّقة ببابِ الطاقِ 

فجرتْ سوابقُ دمعي المهراقِ 

حنّتْ إلى أرضِ الحجازِ بحُرقةٍ 

تسبي فؤادَ الهائم المشتاقِ 

ورمى الفراقُ بها العراق فأصبحتْ 

بعدَ الأراكِ تنوحُ في الأسواقِ 

فجعتْ بأفراخٍ فأسبل دمعها 

إن الدموعَ تبوحُ بالأشواقِ 

إني سمعتُ حنينها فابتعتها 

وعلى الحمامةِ جدتُ بالإطلاقِ 

بي مثل ما بكِ يا حمامة فاسألي 

من فكّ أسركِ أن يفكَ وثاقي

الشوق في القلب يُصلي المحب فيحمله على الحنين للمحبوب غير أنّ حمام الأيك له نكهة خاصة عند الأدباء فهو يغرد لهم وكأنه ينشدهم شعرا يذكّرهم فيه بالعهود الجميلة فتنبعث قرائحهم وتسيل مدامعهم.. وتعيد إليهم ذكريات الماضي فهذا أحدهم يقول باكيا ليلاه عندما سمع غناء حمامة:

تذكّرتُ ليلى أن تغنّت حمامةٌ 

وأنّى بليلى والفؤادُ قريحُ 

ومن دونِ ليلي سبسبٌ متماحلٌ 

يجيبُ صداهُ البوم حين يصيحُ 

وكدتُ من الشوقِ المبرّح إذ بكتْ 

بأسرارِ ليلى في الفؤادِ أبوحُ

إن الحمائم عندما تنوح على موائس الأغصان في الرياض، وتتنقل بين الأيك والحياض، وترجّع صداها بين الخمائل والغياض، تبعث المواجع، وتسيل المدامع، فهي تطارح الأشجان، وتأتي من الألحان بالفنون على الأفنان.

ومن يفتش دواوين العرب يجد أنه قد تَرَدَّدَ ذِكْرُ الحَمامِ في كثير من الأشعارِ ويلمس ما يَهِيجُهُ نَوْحُها مِن كوامِنِ الأشواقِ، ومآسي الفراق,  ولَوْعَةِ البعاد، ودموع الجَوَى عند المبعدين والمشتاقين, ففي رقَّةِ تَسْجيعِهِ ما يَبْعَثُ على الحنين, ويثير الشجون, ويُجدِّدُ رقَّةَ القلبِ؛ حتَّى يجعل البكاءَ فَرْضًا معها.

يقول المنفلوطي: “ما كان العربي في مبدأ عهده ينظم الشعر ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير وحفيف أوراق الأشجار وخرير الماء وبكاء الحمائم فلذّ له صوت تلك الطبيعة المترنمة, ولذ له أن يبكي لبكائها، وينشج لنشيجها، وأن يكون صداها الحاكي لرناتها ونغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه إلا أنه ذلك الخيال الساري المتمثل في قريحته…”

لقد ارتبطت الحمامة والحمام في الشعر العربي غالبا مع البين والفراق، وحنين الأشواق، ذلك أن نَوْحَ الحمامِ يُثيرُ الشُّجونَ، فأكثرهم وقفوا عليها، وهي على الغصون تشجو، فمنهم من أيقظت فيه مواجع الغربة والاغتراب، ومنهم من أحزنته، ومنهم من تعاطف معها، ومنهم من أشفق عليها وعلى بكائها، ومنهم من قام يشدو معها.. وكانت بينهما ألفة قوية وشجن ظاهر واستنطاق بديع..

ولقد هام الأدباء بذكر حمام الأيك لأنّ هديلها ورنتها المشجية تُبدي المواجع، وتوقظ الحنين للحبيب والإلف والوطن، وترقق أفئدة الغرباء، وتجدد قديم الذكريات فكأنّي بهم قد جمعهم مجلس سمر حول حمام الأيك فقام أحدهم ينشد:

أهيمُ وما أظهرتُ في الحبِ بدعةً 

ولو أنهم ذاقوا الغرامَ لهاموا 

أحِنُّ إذا فاحتْ من الغَورِ نفحةٌ 

وناحتْ بأعلى الدوحتينِ حمامُ

ثم قام الثاني يستفهمه عن سبب حنينه فقال :

دعاني الهوى والشوقُ لما ترنّمتْ 

على الأيكِ من بين الغصونِ طروبُ 

ألا يا حمام الأيك مالك 

باكيا أفارقتَ إلفا أم جفاكَ حبيبُ؟

ويستغرب أحدهم من صبره في الغربة مقارنا نفسه بحمام الأيك فيقول:

أيبكي حمامُ الأيكِ من فقدِ إلفهِ 

وأحبسُ دمعي إنني لصبورُ 

أُلامُ على فيضِ الدموعِ وإنني 

بفيضِ الدموعِ الجارياتِ جديرُ

غير أن هذا المذهب شاذ فهو يخالف مذهب قيس الذي نام في قفر تحت شجرة فأيقظته حمامة بهديلها فقام ينشد:

لقد هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ

 على فنَنٍ تبكي وإني لنائمُ 

فقلتُ اعتذارا عند ذاك وإنني

 لنفسي فيما قد رأيت للائمُ 

أأزعم أني عاشقٌ ذو صبابةٍ

 بليلى ولا أبكي وتبكي البهائمُ 

كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا

 لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ

ويلومونها إذا هيجتهم وولّت كما يقول الجرمي:

ألا قاتلَ الله الحمامة غُدوة 

على الغُصنِ ماذا هيّجَت حين غنّتِ 

تعلّت على الأفنان في تلَعِ الضحى 

فهاجت حزينا بالبكاءِ وولّتِ

بل وصل بهم الحال أن يستحلفها أحدهم عن سبب بكائها فيقول:

أحمامة فوق الأراكةِ بيّني 

بحياةِ من أبكاكِ ما أبكاكِ 

أمّا أنا فبكيتُ من حرقِ الهوى 

وفراقِ من أهوى فأنتِ كذاكِ؟

وبينهم شجو وعلاقة وطيدة وتبادل مشاعر من الحنين يلخصها ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد فيقول:

وإنّ ارتياحي من بكاءِ حمامةٍ 

كذي شجَنٍ داويته بشجونِ 

كأنّ حمامَ الأيكِ لمّا تجاوبَت 

حزينٌ بكى من رحمةٍ لحزينِ

ويستغرب منها كيف تشجيه ثم لا تتفاعل معه فيقول:

لقدْ سجعتْ في جُنحِ ليلٍ حمامةٌ 

فأيّ أسى هاجتْ على الهائمِ الصبِّ 

لكِ الويل كم هيّجتِ شجوا بلا جوى 

وشكوى بلا شكوى وكربا بلا كربِ 

وأسكبتِ دمعا من جفونِ مسهّدٍ 

وما رقرقتْ منكِ المدامعِ بالسكبِ

ويستغربون من إثارتها لحنينهم وفصاحة لفظها مع أنها لا تفتح فمها فيقول ابن ثور نائبا عنهم:

عجبتُ لها أنّى يكون غناؤها 

فصيحا ولمْ تفغَر ْبمنطقها فما 

فلم أرَ مثليْ شاقَهُ صوتُ مثلها 

ولا عربيا شاقهُ صوت أعجما

وكما استغرب ابن ثور على فصاحتها مع عدم فتح فمها استغرب آخر من بكاءها دون دموع وهو ابن الدُّمَيْنَة فقد حاول أن يُعلّل وجود اللبس بين البكاء والغناء تعليلاً منطقياً , فهو يرى أن الحمام حتى وإن بكى فأين دموعه التي تجري , وأجفانه التي تتقرح, بينما الإنسانُ تجري دموعه إذا بكى غزيرة مدرارة , فصور الفرق واضحاً بين بكاء الإنسان وبكاء الحمام… فقال وهو يخاطب حماماتِ اللوى: فيقول:

ألا يا حماماتِ اللوى عُدن عودةً 

فإنّي إلى أصواتكنّ حزينُ 

فعُدنَ فلما عُدنَ كِدن يمتنني 

وكِدتُ بأسراري لهنّ أبينُ 

فلم ترَ عيني مثلهنّ حمائما 

بكين ولم تدمعْ لهنّ عيونُ

ولكن ابن المعتز أثبت لها البكاء لكن بقلبها فكأني أراه مقبلا على العشاق في سمرهم ويردد:

وبكيتُ من حزنٍ لنوحِ حمامةٍ 

دَعَتِ الهديل فظلّ غير مجيبها 

ناحَتْ ونُحنا غير أن بكاءَنا 

بعيونِنا وبكاءَها بِقلوبها

وكانوا في خلاف هل هي تنوح أم تبكي فدلف عليهم محمد بن يزيد من باب خلفي وأثبت لهم أنها تنوح أحيانا وتغني أحيانا..ثم أنشد:

أشاقكَ برقٌ أم شجتك حمامةٌ 

لها فوقَ أطرافِ الأراك رنيمُ 

أطاف إليها الهمّ فقدان آلفٍ 

وليل يسدُّ الخافقين بهيمُ 

تميلُ إذا ما الغصنُ حادتْ متونَهُ 

كما مالَ من ريّ المدامِ نديمُ 

غناءٌ يَروعُ المنُصتين وتارةً 

بكاء ٌكما يُبكي الحميمَ حميمُ

والمتأمل في دواوين الشعر يرى أن العربَ تجعل صوتَ الحمام مرةً سجعاً , وأحيانا بكاء,  ومرة غناء , وأخرى نوحاً , وتضرب به المثلَ في الإطراب والشجْوِ  والحنين لإلفه, وبجميعه جاء الشعر وهي كلما سجعت تنبهوا لسجعها بل يقومون حتى من نومهم، يقول نصيب كما في كتاب الكامل في اللغة:

ومما شجاني أنني كنتُ نائما 

أعلّلُ من بَردِ الكَرى بالتنسّمِ 

إلى أن بَكَت ورقاءُ في غُصنِ أيكةٍ 

ترددُ مبكاها بحسنِ الترَنمِ

ثم يقدمها على نفسه في الحنين فيواصل نشيده:

فلو قبلَ مبكاها بكيتُ صبابةً 

بسُعدى شفيتُ النفس قبلَ التندُّم 

ولكن بكتْ قبلي فهيّجَ لي البكا 

بُكاها فقلتُ الفضلَ للمتقدّمِ

إن الحمامةَ في غالب الأحيان هي التي تبدأ بكاءَها وشجوها فيهيّج نوحُها المدنف العليل حيث يأتي بكاؤهم بعد بكاء الحمامةُ لأنها هي التي تذكّرهم بالأحبة وعهود الوصال, وقد اعترف لها بفضل السبْق والتقدُّم وهو في هذا موافق للشعراء غير أن هذا الإجماع خرقه ابن الجعد فهاجم حمام الأيك وأعلن حملة شعواء ارتدت عليه أحد فأساء إلى الحمائم واتهمها بالكذب إذ يقول:

أحقا يا حمامةُ بطن وادٍ 

بأنكِ في بكائكِ تَصدُقينا 

غلبتُك في البكاءِ بأنّ ليلي 

أواصله وأنّكِ تهجَعينا 

وإني إن بكيتُ بكيتُ حقّا 

وأنكِ في بُكائكِ تكذبينا

وكما أنها توقظهم من منامهم فهي أيضا تُسهرهم ما دام أنها تنوح كما قال أحدهم:

ألا يا حماماتٍ على نهرِ سالمٍ 

سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ 

تعالَين نبدي النوح كلٌ بشجوهِ 

فإن اكتتام الوجدِ غير مطاقِ 

فها أنتِ قد هيّجتِ لي حرق الجوى 

وأبديتِ مكنون الهوى لرفاقي 

وأسهرتني بالنوحِ حتى كأنما 

سقاكِ بكاساتِ التفرقِ ساقي

فحمام الأيك يبعث الشجن وكل من سمع نوحها لابد أن يتأثر فكيف إن كان السامع لها مقيدا مسجونا بعد العز والنعمة والراحة والعيش في القصور.

لقد كان المعتمد بن عباد صاحب دولة وصولة كان أميرا مطاعا أديبا شجاعا مهابا ثم دالت دولته وبينما هو في سجنه إذ وقفت قريبا من سجنه حمامة وقامت تنوح وكان حينها معتقل في أغمات فألهبت مشاعره وحركت لواعجه فقام يردد:

بكتْ أن رأت إلفين ضمّهما وكرُ 

مساء وقد أخنَى على إلفها الدهرُ 

وناحتْ وباحتْ فاستراحت بسرّها 

وما نطقتْ حرفا يبوحُ بهِ سرُّ 

فما لي لا أبكي أم القلب صخرةٌ 

وكم صخرةِ في الأرضِ يجري بها نهرُ

ولما جاء دور شمس الدين الكوفي وقف على الأطلال يبكي الأحبة وينظر آثارهم ويتحسس لوعة في قلبه تبدي مواجعه وتجري مدامعه ثم أنشد قائلا:

ويُذيبُ روحي نَوحُ كُلِّ حَمامةٍ 

فكأنّمـــا نوحُ الحَـــمامِ حِمـامُ 

من كانَ مِثلي للأحبة فـاقداً 

لا تعذِلوهُ فالكلامَ كِــلامُ 

إن كُنتَ مثلي للأحبة فاقداً 

أو في فؤادك لوعةٌ وغـرامُ 

قِـف في ديار الظاعنين ونادها 

يا دار ما فَعلتْ بكِ الايامُ ؟

وكانت معهم بعض كتب التاريخ القديم فوجدوا أن سبب بكاء الحمائم كما تزعُمُ العربُ أن جارحاً في زمان الطُّوفانِ – طوفان نوح –  اخْتَطَفَ فرخَ حمامةٍ يسمَّى الهديل. قالوا: فكلُّ حمامةٍ تبكي فإنما تبكي على الهديل ووجدوا ما قاله أحدهم:

أبكيكَ ما بكت الحمامُ هديلَها 

وأحنّ ما حنّت إلى الأوكارِ

ووجدوا أن أبا العلاء المعري أيضا له مشاركة في هذا حيث سمعوه وهو يخاطب الحمائم التي بقيت على وفائها ما نسيت هالكها القديم فيقول:

أبناتِ الهديلِ، أسعِدنَ، أو 

عِدنَ قليل العزاءِ بالإسعادِ 

إيهِ! للهِ دَرُّكُنَّ، فأنتنَّ 

اللَّواتى تُحسِنَّ حفظَ الوِدادِ 

ما نسيتُنّ هالكًا، فى الأوانِ الخالِ 

أودَى من قبلِ هُلكِ إيادِ

وقد كان متشككا في بداية القصيدة إذ يقول:

أبَكتْ تِلْكمُ الـحَـمْـامـةُ أَمْ غَنَّــتْ 

عَلَى فَـرْع غُصْـنِها الَمْيّـاَدِ؟!

وحمام الأيك في مذهب أبي تمام – وكان متربعا في زاوية المجلس – يبعث الهوى في قلب من لا يهوى بقوله:

بَعثنَ الهوى في قلبِ من ليس هائما 

فقُل في فؤاد رُعنه وهو هائمُ 

لها نغَم ليست دموعا فإن جرت 

مضتْ حيث لا تمضي الدموع السواجمُ

وهي أحيانا تُسعد بشجوها عند عمر بن أبي ربيعة وهو الناطق الرسمي باسم الأدباء إذ يقول:

غنّت على فنَنٍ فأسعد شَجوها

وُرقٌ أجبنَ كما استجابَ المأتمُ

وكما قال توبة:

حمامة بطنِ الواديين ترنّمي 

سقاكِ من الغرِ الغوادي مطيرُها

وحمام الأيك يخرج مكنون الأسرار عندهم فيقول شقيق:

لقد هيّجَت مني حمامةُ أيكةٍ 

من الوجدِ وجدا كنتُ أكتمهُ جهدي 

فقلتُ هلمّي نبكِ من ذكر ما خلا 

ونُظهرُ منه ما نُسِرّ وما نبدي 

فإن تسعديني نُجرِ عبرتنا معا 

وإلا فإني سوفَ أسفُحها وحدي

ويستغربون ممن يسمع نوح الحمام ولا تتحرك صبابته يقول مرة النهدي:

أإن سجَعتْ يوما بوادٍ حمامةٌ 

تجاوب أخرى ماء عينيك دافقُ 

كأنّكَ لم تسمعْ بكاءَ حمامةٍ 

بشجوٍ ولم يحزنك إلفٌ مفارقُ

وتوصف الحمامة بالمطوقة لجمال الطوق الذي تقلدته كما قال جهم بن خلف:

وقد هاجَ شوقي أن تغنّتْ حمامةٌ 

مطوّقة ورقاءُ تصدحُ في الفجرِ 

إذا فترَت كرّت بلحنٍ شجٍ لها 

يهيجُ للصبِّ الحزينِ جوى الصدرِ

وسواء كانت الحمامة تغني أو تنوح , فإنها عند الشاعر أحمد بن محمد بن عبد ربه تُبدي ما أخفاهُ القلبُ من أسى الفراق, ولواعج الشوق , وحُرَقِ الصبابة , لذلك يقول في أسى وتفجع :

أناحتْ حمـاماتُ اللِّوى أم تغنّتِ؟ 

فـأبـدَتْ دواعي قلـبه ما أجنّتِ 

فديتُ التي كـانت ولا شيءَ غيرها 

منـى النفسِ أو يقضي لها ما تمنّتِ

والأدباء المتيمون سرعان ما ينوحون تجاوبا لحمائم الأيك فالشوق واللوعة والحنين ومشاعر الغرام قد انطوت على جوانحهم إبان فراقهم للوطن والحبيب والأليف يقول أحدهم:

أنُوحُ لتغريدِ الحمائمِ بالضّحى

 وأبكي لِلَمعِ البارق المتبسّمِ

 وأرسلُ طرفا لا يراكِ فأنطوي

 على كبد حرى وقلب مكلّمِ

فكما شاطرها الأول النوح فهذا يقاسمها الدمع بالنوح:

وآلفة التغريدِ قاسمتها الهوى 

فكانَ عليها النوحُ والدمعُ من عندي

ونفس المعنى أنشده خليل وهو مدنف عليل :

وربّ حمامةٍ في الدوحِ باتتْ 

تجيدُ النوح فنّا بعدَ فنِّ 

أقاسمها الهوى مهما اجتمعنا 

فمنها النّوحُ والعبراتُ منّي

فالحمام بهديله الساجي وسجعه المثير في الليل الداجي سميرُ المحزونين, ونَجِيُّ الثّكالى والمدنفين, وبلسمٌ لجراحاتِ المتألّمين, وأنس للغرباء المبعَدين… وقد يختلف اللفظ أحياناً عند الأدباء بين الغناء والنواح وهم لا يقصدون البهجة إذا ذكروا غناء الحمام غالبا, بل يقصدون الحنين والشوق وهنا انبرى المجنون يحدثهم بأنه قد ضمّن ذكر الحمامة أشهر قصائده -اليائية التي يقول فيها- :

أعدُّ الليالي ليلةً بعدَ ليلةٍ 

وقد عشتُ دهرا لا أعدّ اللياليا 

وأخرج من بينِ البيوتِ لعلّني 

أحدثُ عنكِ النفس بالسرِّ خاليا 

أراني إذا صلّيتُ يممّتُ نحوها 

وجهي وإن كان المصلّى ورائيا 

أقومُ فلا أدري إذا ما ذكرتها 

أثنتينِ صلّيتُ الضُّحى أم ثمانيا

وهي قصيدة طويلة شهيرة بديعة تحرك الشجى يقول فيها:

لعمري لقد أبكيتِني يا حمامة ال 

عقيقِ وأبكيت العيونَ البواكيا

ثم يواصل قصيدته الطويلة ويعود لذكر الحمام مرة أخرى فيقول:

ألا يا حمامي بطن نعمانَ هجتما 

عليّ الهوى لّما تغنيتما ليا 

وأبكيتماني وسطَ صحبي ولم أكنْ 

أبالي دموع العينِ لو كنتُ خاليا

وكان حاضرا يزيد بن معاوية ممثل الخلفاء فأنصت له الكل فأنشد:

أراكَ طروقا والِها كالمتيّمِ 

تطوفُ بأكنافِ السّجافِ المخيمِ 

أصابك سهمٌ أم بُليت بنظرةٍ 

فما هذه إلا سجيّة من رُمي 

على شاطئ الوادي نظرتُ 

حمامةً أطالتْ عليّ حسرتي والتندّمِ

وقال بعضهم هو الوأواء الدمشقي متنكرا بزي الخليفة في حين أن بعضهم يقول هو عدي بن الرقاع وهو ما رجحه أحد شيوخنا الشناقطة.

وهي بنوحها تنكأ الجرح الذي دب فيه البرؤ كما قال جحدر:

وكنتُ قد اندملتُ فهاجَ شوقي 

بكاءُ حمامتين تجَاوبانِ

ويتذكرون في مجلس سمرهم الشيق الممتع أبا فراس الحمداني وهو في الأسر فقد سمع حمامة تهتف على شجرة عالية ذات يوم وهو في قيوده يشكو البعد عن وطنه فاستبد به الحزن فقال:

أقولُ وقد ناحَت بقربي حمامةٌ 

أيا جارتا هل باتَ حالُك حالي؟ 

معاذ الهوى ما ذقتُ طارقةَ النّوى 

ولا خطَرَت منكِ الهموم ببالي 

أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا 

تعالي أقاسمكِ الهموم تعالي 

تعالي تري روحا لديّ ضعيفة 

تردد في جسمٍ يعذب بالٍ 

أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ 

ويسكتُ محزونٌ ويندب سالي 

لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة 

ولكنّ دمعي في الحوادثِ غالي

والشيء بالشيء يذكر فيذكرون صفي الدين الحلبي صاحب كتاب أنس المسجون وهو يكتب أبياته المحزنة على جدار السجن بلوعة الحنين وحرقة الجوى:

وحمائم غنّينَ في دارِ الضحى 

طرَبَا فقلتُ مقالة المحزونِ 

غَنّين فالوجد الذي تبدينه 

وجدي المكّتّم والشجونُ شجوني 

ما جامدات الدّمعِ كالجاري ولا 

حالُ الطليقِ كحالةِ المسجونِ

وهي تشب النار ففي كتاب مصارع العشاق للقاري ورد أن فتى كان يرعى الغنم فورد محلة قوم فتعلقت نفسه بجارية وتعلقت به فمنعها أهلها من الظهور فارتحل فرأى حمامة على أراكة تنوح فهاجت بلابله فأنشد:

دعت فوقَ أغصان من الأيكِ موهنا 

مطوّقة ورقاء في إثرِ آلفِ 

فهاجَت عقابيلُ الهوى إذ ترنمتْ 

وشبّتْ ضِرام الشوقِ بين الشراسفِ 

بكتْ بجفونٍ دمعها غير ذارفِ 

وأغرتْ جفوني بالدموعِ الذوارفِ

ثم إنه وصله نعيها وهو في الطريق فمات كمدا في الحال.

وبعض الشعراء جعل من نوح الحمام مطيةً للموت والهلاك والْحِمام , كما فعل القاضي عبدُ المنعم الواسطيُّ وقد كان ممثلا عن القضاة في مجلس الأدب حيث جعل من نوح الحمام حِماماً وموتاً فقم ينشد بنغمته الشجية ,:

ولما جزعنا الرّمل رمل عنيزةٍ 

وناحتْ بأعلى الدوحتين حَمامُ 

صبوتُ اشتياقا ثم قلتُ لصاحبي 

ألا إنما نَوح الحَمام حِمامُ

وهنا حانت التفاتة من الكل لحاملي راية الأدب الأندلسي فانبرى المقري يروي من كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” قول أحدهم:

ذكرتني الورقاءُ أيامَ أُنسٍ سالفاتٍ

 فبِتُّ أذري الدّموعا 

ووصلتُ السّهادَ شوقا لحبّي 

وقد هجرتُ الهجوعا

وقول الثاني:

وهواتفٌ فوقَ الغصون يجيبني 

منهنّ تغريدُ الحمامِ السّجّعِ 

ناحتْ على عذبِ الفروع وإلفها 

منها بمرأى فوقها وبمسمعِ 

ما فارقتْ إلفا كما فارقته 

كلا ولا أجرت سواكب أدمعٍ

فجاء الصفدي صاحب كتاب “لوعة الشاكي ودمعة الباكي” فأنشدهم مقاطعا :

رُبّ ورقاء هتوفٍ في الضّحى 

ذات شجو صدحتْ في فننِ 

ذكَرتْ إلفا وعيشا سالفا 

فبكَتْ حزنا فهاجتْ حزني 

فبكائي ربما أرّقها 

وبكاها ربما أرّقني 

ولقد تشكو فما أفهمُها 

ولقد أشكو فما تفهمني 

غير أنّي بالجوى أعرفها 

وهي أيضا بالجوى تعرفُني

وكان ممثل العلماء والقضاة والفقهاء القاضي عياض شيخ الإسلام في زمانه وصاحب المصنفات التي سارت بها الركبان وكان منفيا من بلاده سبته – ردها الله من أيدي الأسبان- نفاه أمير دولة الموحدين إلى “داي” فلما طال اغترابه رأى حمامة مرت به فتملكه شعور الحنين للوطن إذ في رقة تسجيعها ما يبعث على التذكر، فخاطبها:

أقمرية الأدواحِ باللهِ طارحِي 

أخا شجنٍ بالنوحِ أو بغناءِ 

فقد أرّقتني من هديلكِ رنةٌ 

تهيجُ من شوقي ومن بُرَحائي 

لعلّ الذي كان التّفرق حُكمهُ 

سيجمعُ منا الشملَ بعد تنائي

وكان الوزير الطغرائي حاضرا السمر إذ هو ممثل الوزراء فأنشدهم- وكان غريبا بعيدا- بقوله:

يا طائرَ الأيكِ ما غُرّبتَ عن سَكن 

يوما ولا كنت عن مأوى بمطرودِ 

أنا الذي إن بكَى وجدا يحقّ له 

كم بين باكٍ من البلوى وغرّيدِ

وكأنه تذكر قول الشاعر:

إنّ الغريب ذليلٌ أينما سلكا 

لو أنه ملك كل الورى ملَكا 

إذا تغنّى حمامُ الأيكِ في غصنٍ 

حنّ الغريب إلى أوطانه فبكى

فالحنين للوطن يشغل النفوس المحبة ويحركها نحو الديار وتذكر مرابع الأهل والخلان كما قال أحد الشعراء الذين حضروا السمر وعانوا من لفح هجير الغربة:

وتطارحتْ ورقُ الحمائمِ بالحمى 

طرقَ السجوعَ بطيّبِ الألحانِ 

فبكيتُ أوطاني وربعَ هوايَ في 

زمنِ الصبا حييت منْ أوطانِ

وفي مجلسهم الأدبي الماتع أثار ابن الخطيب – وهو فحل من فحول الشعر-  قضية مهمة وكان في صف شعراء الأندلس فقد استغرب من نوح الحمامة فهي لم تسكن مسكنا ثم تفارقه، وأين الحبيب الذي فارقته وتحن إليه؟ وكيف هذه اللوعة والكف خضيب والأطواق زاهية مزركشة؟ وعلام هذا الحنين والتصابي واللوعة والوجد الدائم والحال مسعد ؟ فاسمعه إذ يقول:

حمامة البانِ ما هذا البكاء على 

مرّ الزمان وهذا الشجو والشّجنُ 

لا مسكـنٌ بنت عنه أنت تندبهُ 

ولا حبيبٌ ولا خلٌ ولا سكنُ 

كفٌّ خضيبٌ وأطواقٌ ملونةٌ 

ما هكذا البثّ يا ورقاء والشـجنُ 

لو (كان نفثك) عن شوقٍ منيت به 

يوماً لصــار رماداً تحتك الغصنُ

والأدباء يجعلون نوح الحمام دليلا على اقتراب بروق عمود الصباح فإذا سمعوها تنوح في كل ناحية عرفوا رحيل ليلتهم السانحة وساعاتهم الجانحة وفي هذا انبرى الصفدي يقول:

وأنذرتْ بوفاةِ اللَّيل ساجعةٌ 

كأنَّها في غدير الصُّبح قد سَبَحَتْ 

مخضوبةُ الكَفِّ لا تنفكُّ نائحةً 

كأنَّ أفراخَها في كَفِّها ذُبِحَتْ

فلما أن رأوا أنه الصفدي صاحب لوعة الشاكي ودمعة الباكي قالوا له جميعا أسمعنا من طرفك يا أديب الأدباء ونابغة النبغاء فقام يقول:

سرحنا الناظر في تلك الربى والرياض، وشرحنا الخاطر في تلك الخمائل والغياض، وأصغينا إلى نغمات طيورها الصَّوادح، واستنشقنا أرجَ نسيمها الفائق الفائح، والأطيار قد أخذت في الأفنان بفنون ألحانها، وخلعت القلوب بشدوها على دفها وعيدانها، وناحت فناجت كل مشوق بأنواع الأشواق، وصدحت فصدعت قلب كل متيم ومشتاق، وشدت فشذت في حسن الرَّمل فهيجت بلابل العشاق، وناحت في النواحي تشكو ألم الفراق، ولها ألف ألف، ولم تكن كالعاشق المسكين ينوح على غصن القوام، (وفي هذا المَعنى، ما يزيد على المغنى):

وهاتفةٍ في البان تُمْلِي غرامها 

علينا وتتلو من صبابتها صُحفَا 

عجبتُ لها تشكو الفراقَ جهالةً 

وقد جاوبتْ من كُلِّ ناحية إِلفا 

فلو صدَقَتْ فيما تقول من الأسى 

لما لبِسَتْ طوقاً وما خضبَتْ كفَّا

فتأمل ما يقول إذ وافق ابن الخطيب في نقده الحمامة إذ كيف تنوح وهي مخضبة ولابسة الأطواق..؟

وقد وصل الحال بالأدباء أن يستفتحوا بذكر الحمام مطلع قصائدهم فهذا ابن خفاجة يمدح الأمير بن تاشفين بقصيدة مطلعها:

سَجَعتُ وقد غنّى الحمام فرجّعا 

وماكنتُ لولا أن يغنّي فأسجعا 

ولم أدرِ ما أبكِي أرسمُ شَبيبةٍ 

عفا أم مَصيفا من سُليمى ومربعا

ثم يسترسل في ذكر نزوحه وشوقه لوطنه، لقد هاج الحمام حنينه لوطنه ومرابع أهله باكيا أيامه الجميلة وذكرياته الخوالي فيالِله ماذا فعل به حمام الأيك فسالت دمعته وانبعثت لوعته فلم يتمالك نفسه أمام الملك..؟

وها هو يقول في قصيدة أخرى:

ألا ساجلْ دموعي يا غَمامُ 

وطارحني بشجوكَ يا حَمام

وسار على منواله ابن شهيد فقد استفتح قصيدة له بقوله:

ومما شجاني في الغصـونِ حمائــمٌ 

تجاوب في جنـــــحِ الظلام حمائما 

يُرجّعن ألحانا لهنّ شواجيــا 

فيرسلن أسرابَ الدموعِ سواجما 

سَقى الله أيكا ما يزالُ حمامُه 

يهيجُ مشتاقا ويسعدُ هائما

والأدباء يهيمون بنوح الحمام في الأسحار فيتمايلون وجدا ويذرفون الدمع صبا، وأي قلب لا يذوب عند استماع ذلك المنطق الشهي الرخيم؟

وأي صب لا يتحرك إلى محاسن الحبيب التي هي ألطف من مر النسيم؟

وأي فؤاد لا يميل عند قوام ذلك الغصن القويم؟ وأي كبد لا يظمأ عند ترجيع ذلك الصدى الذي هو أحلى من التنسيم؟

وكان معهم ضيف من اليمن فسألوه أتجيد الشعر؟ 

قال: كيف لا أجيده؟ 

قالوا : هات أطربنا . 

فقام ينشد:

تُناديني الحمائمُ نائحات 

ألستَ إلى ديارك في اشتياقِ؟ 

فأسكتُ والعيونُ تجيبُ عنّي

 تسحّ الّدمع كالماء المُراقِ

فأعجبهم رنته وأسفوا على بعده عن وطنه فسألوه عن اسمه فأخبرهم أن اسمه عبدالمجيد الجميلي فمجدوا شعره الجميل.. وحيوا ذوقه النبيل.

وفي سمرهم الماتع سمع ابن زيدون هديل حمامة فثار وجده وتحركت لواعج أشواقه وقد كان مبعدا عن وطنه فقام يهتف مواصلا نمط رفاق دربه يقول:

وأرَّق العيــــــنَ والظلماءُ عـاكفةٌ 

ورقـاءُ قـــد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ 

فبتُّ أشكو وتشــــكو فوق أيكتِها 

وباتَ يهفُو ارتياحًا بينــنَا الغُصنُ

وترى الأدباء إذا دخلوا روضًا قد أخذ زخرفه وتزين، وضحك زهره وفله من روعة الجمال وتلون، وانسابت جداول جوانبه كالأراقم، وصفقت ساقيته طربا لرقص الغصون على غناء الحمائم، يهيمون بهذا الحسن وهذا الجمال فتنطلق قرائحهم بالقصيد والسجال وهم في سمرهم هذا يرتعون في رياض الحسن والجمال, تجود قرائحهم بمعاني الحب والدلال, غير أن الألبيري الشاعر الواعظ وقف مستأذنا ليتحفهم بما عنده وهو عالم ناصح أواه يسلب القلب بجميل عباراته, ويجري دموع العين بوقع كلماته فوعظهم وأبكاهم وكان مما قال:

أحمامة البيدا أطلتِ بكاكِ 

فبِحسن صوتكِ ما الذي أبكاكِ 

إن كان حقاً ما ظننتِ فإنّ بي 

فوق الذي بكِ من شديدِ جواكِ 

إني أظنّكِ قد دهيتِ بفرقةٍ 

مِن مؤنسٍ لكِ فارتمضتِ لذاكِ 

لكنّ ما أشكوه من فرط الجوى

 بخلافِ ما تجدين مِن شكواكِ 

أنا إِنما أبكي الذنوب وأسرها 

ومناي في الشكوى منال فكاكِ 

وإذا بكيتُ سألتُ ربي رحمةً 

وتجاوُزا فبكاي غير بكاكِ

فأجرى الألبيري دموعهم وأعلنوا لله توبتهم ورجوعهم, وكان هذا فاصل قصير ثم عادوا لموضوع الحنين والشوق فقام الشاعر يحي بن هذيل يصف حمامة تنوح والغيم يظللها برداءين من طل ومطر يهطل من السحب وهي تترنم بغناء مزجته بالأنين وقد اتخذت الغصن أريكة ومقعدا فتذكر إلفه وانبعث الحنين من فؤاده فأنشد:

ومُرنّةٌ والدّجن ينسجُ فوقها

 بُردين من طللٍ ونوء باكِ 

مالت على طيّ الجناح وإنما 

جعلت أريكتها قضيبَ أراكِ 

وترنّمت لَحْنَينِ قد حلّتهما 

بغناءِ مُسمعة وأنّةِ شاكِ 

ففقدتُ من نفسي لفرطِ تلهّفي 

نفس الحياة وقلت من أبكاكِ؟

وقد شكلت الرياض الأنيقة مكانا رحبا لحمام الأيك وهو يمرح على أفنانها، ويتمايل على أغصانها، ويطرب المسامع على روابيها، ويصدح بوحي من سحر أنغامه العذبة الشجية فيثير الشجون، ويُصلي القلب المحزون.

وحمام الأيك مصدر أيضا لانبعاث الذكريات الجميلة وزمن البهجة والأنس المثير فهو يذكر بعهود السرور والجمال والبهجة والأنس عند بعض الشعراء كما قال أحدهم:

ونشوان غنّتهُ حمامةُ أيكةٍ 

على حينِ طرف النجمِ قد همّ أن يكرى 

فهب وريح الفجر عاطرة الجنى 

لطيفة مسّ البردِ طيبةِ المسرى 

وطاف بها والليل قد رثّ بردهُ 

وللصبحِ في أخرى الدّجى منكب يعرى 

ويصغي إلى لحنٍ فصيحٍ يهزهُ 

كما هزّ نشر الريحِ ريحانة سَكرى 

تهشّ إليه النّفسُ حتى كأنّه 

على كبدٍ نعمى وفي أذنٍ بُشرى

ولكن قد سبقه ابن خفاجة إذ يقول واصفًا حمام الأيك يغني وسط روضة غناء فاتنة والنسيم العليل يهب، والهلال يرسم لوحة بديعة، والغمام يرسل القطر، ورفاقه يتمتعون بذلك المنظر الجذاب الذي يسلب الفؤاد في مجلس أنس بين أحضان تلك الطبيعة الساحرة تحت تلك الشجرة -شجرة السرح- فيقول:

سُقيا ليومٍ قد أنختُ بسرحةٍ 

ريا تلاعبها الرياح فتلعبُ 

سَكرى يغنيها الحمام فتنثني 

طربا ويسقيها الغمام فتشربُ 

والروض وجهٌ أزهرٌ 

والظل فرعٌ أسودٌ والماء ثغرٌ أشنب 

في حين أطربنا الحمامُ عشية 

فشدا يغنينا الحمامُ المطربُ 

واهتزّ عطفُ الغصن من طربٍ بنا 

وافتر عن ثغر الهلال المغربُ 

فكأنّه والحسنُ مُقترنا به 

طوقٌ على بردِ الغمامةِ مذهبُ

لكن أغلب المواضع التي يذكر فيها حمام الأيك هي مواضع الحنين للحبيب والوطن والأهل والتألم من الفراق والغربة فالحمائم تهيج أشجان الفؤاد وتولد حالات المرارة فهي تبكي وتنوح وتتوجع وكأنها والهة محزونة مفجوعة لفقد الإلف مما جعل الأدباء يترنمون معها بهذه الترنمات المطربة، ويقفون معها مواقف الشجى والأسى، وينفثون نفثات القرائح المجروحة المبكية .

فهذا علي بن حصن يصف الحمام وصفا دقيقا بكل براعة وجمال واقتدار ويمزج ذلك الوصف الساحر بمشاعره الحزينة وأحاسيسه وانفعالاته فيقول:

وما هاجني إلا ابنُ ورقاء هاتفٌ 

على فَننٍ بين الجزيرةِ والنّهرِ 

مفستقُ طوق لازورد كلكلٍ 

موشّى الطلى أحلى القوادم والظهرِ 

أدار على الياقوت أجفانَ لؤلؤٍ 

وصاغَ على الأجفان طوقا من التبرِ 

توسّدَ من فرع الأراكِ أريكةً 

ومالَ على طي الجناح معَ النحرِ 

ولما رأى دمعي مُراقا أرابه 

بكائيَ فاستولى على الغصنِ النضرِ 

وحثّ جناحيهِ وصفّقَ طائرا 

وطارَ بقلبي حيث طارَ ولا أدري

إنها لوحة من لوحات الجمال الفاتنة التي تثير الوجدان حيث الغصون الراقصة، وخرير الماء الرقراق، واللحن الجميل الذي تهيم معه الروح في مسارح الجمال فتنتشي بالشوق والتذكار.

وكان ابن عربي ممثل الشعر المتصوف حاضرا الديوانية فقالوا له: وأنت ما عندك؟ 

فأطرق إلى الأرض برأسه وقال:

ألا يا حماماتِ الأراكة والبانِ 

ترفّقن لا تضعفن بالشّجو أشجاني 

ترفّقن لا تظهرن بالنوح والبكا 

خفيّ صبابات ومكنون أحزان 

أطارحها عند الأصيلِ وبالضحى 

بحنّةِ مشتاق وأنّةِ هيمانِ 

تناوحَت الأرواح في غيضةِ الغضا 

فمالت بأفنان عليّ فأفناني 

وجاءت من الشوقِ المبرح والجوى 

ومن طُرَف البلوى إليّ بأفنانِ 

فمن لي بجمعِ والمحصبِ من منى 

ومن لي بذاتِ الأثل من لي بنَعمانِ

وفي رثاء المحبوب تذاكروا نوح حمائم الأيك فحمام الأيك يبعث الحزن والالتياع, ويجدد اللوعة والأسى ويثير المواجع يقول أحدهم:

ولا زلت أبكي ما تغنّت حمامةٌ 

عليكِ وما هبّت صبا وجنوبُ 

وما حمَلت عينٌ من الماء قطرةً 

وما اخضرّ في دوحِ الأراكِ قضيبُ

فجاء دور العباس بن الأحنف ومن مثل العباس في أدبه وشجنه وقد زاد حنينه لوطنه واشتدت لوعته فسمع حمامة تبكي فزاد بكاؤه فأنشدهم وكأنه يخاطب أحدهم :

يا غريبَ الدارِ عن وطنهْ 

مفردا يبكي على شجنهْ 

شفّهُ ما شفّني فبكى 

كلنا يبكي على سكنهْ 

ولقد زاد الفؤادَ شجى 

طائرٌ يبكي على فنَنِهْ 

كلما جدّ البكاء بهِ 

ذابتِ الأسقام في بدنِهْ

والصبابة عند الأدباء كجمرة تتّقِد خاصة عند نوح الحمام كما قال أحدهم معاتبا:

أشاقكَ طائرٌ غرِدُ 

فدمعُ العينِ مطّردُ 

وفي الأحشاءِ من لذعِ الصبابة 

جمرةٌ تقِدُ 

أئنْ سجعتْ حمامةُ أيكةٍ 

أبديتَ ما تجدُ

ويتمنى رئيس المذهب قيس أن لو كان هو وليلى حمامتين فيقول:

ألا ليتنا كنا حمامَيْ مفازة 

نطير ونأوي بالعشي إلى وكرِ 

وليتنا نحيا جميعا وليتنا 

نصيرُ إذا متنا ضجيعينِ في قبرِ

وفي جلستهم سألوا هل هناك من شاعر وصف الحمامة وصفا دقيقا ففتحوا كتاب الزهرة  فوجدوا مبحثا في نوحِ الحَمامِ وأنه أُنسٌ للمنفردِ المُستهامِ ,وقرأوا ما قاله أحد الشعراء:

وقبليَ أبكَى كلَّ مَنْ كانَ ذا هوًى 

هتوفُ البواكِي والدِّيارُ البلاقعُ 

وهنَّ علَى الأطلالِ مِنْ كلِّ جانبٍ 

نوائحُ ما تخضلُّ منها المدامعُ 

مزَبْرَجةُ الأعناقِ نمرٌ ظهورُها 

مخطَّمةٌ بالدُّرِّ خضر روائعُ 

ومِنْ قطعِ الياقوتِ صِيغتْ عقودُها 

خواضبُ بالحنَّاءِ منها الأصابعُ

والتفتوا إلى شقيق بن سليك الأسدي وكان حاضرا معهم هذه الجلسة الأدبية الماتعة فقالوا له ماذا قلت يا شقيق فأنشد باكيا والدموع سواجم على خديه:

ولمْ أبكِ حتَّى هيَّجتْني حمامةٌ 

تغنّي الحمام الوُرق فاستَخرَجتُ وجدِي 

فقد هيَّجتْ منِّي حمامةُ أيكةٍ 

منَ الوجدِ شوقاً كنتُ أكتمهُ جُهدِي 

تُنادِي هُديلاً فوقَ أخضرَ ناعمٍ 

غذاهُ ربيعٌ باكرٌ في ثرًى جعدِ 

فقلتُ تعالَيْ نبكِ مِنْ ذكرِ ما خَلا 

ونذكرُ منهُ ما نُسرُّ وما نُبدِي 

فإنْ تُسعدِيني نبكِ عبرتَنا معاً 

وإلاَّ فإنَّي سوفَ أسفحُها وحدِي

وجاء فارس على خيله وقد أثار النقع فأماط اللثام عن وجهه فإذا به فارس الفرسان عنترة وقد بعثه شعراء الجاهلية ليكون نائبا عنهم في هذه الأمسية الظريفة اللطيفة فحياهم وحيوه وكان هذا وسط احتدام القرائح وفوح عبق الروائح فأنشدهم ارتجالا قصيدته التي يقول فيها:

سأُضْمِرُ وجدي في فؤَادي وأكْتُم 

وأَسْهرُ ليلي والعواذلُ نوَّمُ 

وأطْمعُ من دَهري بما لا أنالهُ 

وألزمُ منه ذلَّ من ليسَ يرحمْ 

وأرجو التداني منكِ يا ابنة مالكٍ 

ودونَ التَّداني نارُ حَرْبٍ تُضَرَّمُ

فاستمرّ ينشد إلى أن قال وهو يتذكر محبوبته عبلة:

ألم تسمعي نوحَ الحمائمٍ في الدّجى 

فمِنْ بعض أشجاني ونوحي تعلّموا

ثم واصل ينشد فعاد لذكر الحمام مرة أخرى وذلك في نفس قصيدته هذه فقال:

أَحِنُّ إلى تلكَ المنازلِ كلّما 

غدَا طائرٌ في أيكَةٍ يترَنَّمُ

فذكر الحمام ثلاث مرات لشدة تعلقه بما يوحيه إليه الحمام من ذكرى لعبلة..

فلما أكمل القصيدة قالوا يا عنترة: أطربتنا فأشجيتنا, وأسمعتنا فأمتعتنا, لفظك جميل, وخطابك عليل, ومقامك فينا نبيل, فهلا تحدثنا أكثر عن طير الحمام وهل دار يوما ما حوار لك مع الحمام فجال بفكره وسرح بخاطره ثم أنشد حوارا لطيفا خصصه لطير الحمام يقول فيه:

يا طائِرَ البانِ قَد هيَّجتَ أشجاني 

وزِدْتَني طرَباً يا طائرَ البانِ 

إن كنتَ تندب إلفاً قد فجعتَ بهِ 

فقد شجاكَ الذي بِالبينِ أشجاني 

زدني من النَّوح واسعدني على حزني 

حتى تَرى عجباً من فَيْضِ أجفاني 

وقِفْ لتَنْظُرَ ما بي لا تَكنْ عَجِلاً 

واحذَرْ لِنَفْسِكَ من أَنْفاسِ نيراني 

وطرْ لعلك في أرض الحجازِ ترى 

رَكْباً على عَالِجٍ أوْ دون نَعْمان 

يسري بجاريةٍ تنهلُّ أدمعها 

شوقاً إلى وطن ناءٍ وجيران

 ناشدتُكَ الله يا طيرَ الحمامِ إذا

 رأيتَ يوْماً حُمُولَ القوْمِ فانعاني 

وقلْ طريحاً تركناهُ وقد فنيت

 دُموعُهُ وهوَ يبكي بالدَّم القاني

فانهلت مدامعه, وازدادت مواجعه, واشتد نوحه, وانبعثت جروحه, كيف لا؟ وهو المتيم في عبلة الذي أنشد فيها القصائد, وتحدث عنها بالشعر وأصبح خيالها لا يفارقه غدوة وعشيا, حربا وسلما, نوما ويقظة, ليلا ونهارا, ثم إنه ودعهم بمقطوعة ثالثة قال فيها:

وقد هتفَتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ 

مغردةٌ تشكو صروفَ زمانِ 

فقلتُ لها لو كُنْتِ مثْلي حزينةٌ 

بكيتِ بدمعٍ زائدِ الهملانِ 

وما كنْتِ دي دوْحٍ تَميسُ غصونهُ 

ولا خَضّبتْ رجلاكِ أحمَر قاني 

أيا عبلَ لو أنَّ الخيال يزورُني 

على كلِّ شهرٍ مرّةً لكَفاني 

لئن غبتِ عن عيني يا ابنة مالكٍ 

فشخْصُكِ عنْدِي ظاهرٌ لعياني

وقد شك بعض القوم في شعره فظنوا أن هذا الشعر ليس شعره وأن هذا الشخص إنما هو منتحل لشخصية عنترة، وفي القوم شاعر جاء يغبّ السير فأنشد من غير استئذان يقول:

أأن هَتَفت وَرْقَاء فِي رونق الضُّحَى 

على فنن غض النَّبَات من الرندِ 

بَكَيْت كَمَا يبكي الْوَلِيد وَلم تكن 

جليدا وأبديت الَّذِي لم تكن تبدي

ثم استمر في قصيدته قائلا:

وَقد زَعَمُوا أَن الْمُحبّ إِذا دنا 

يَملُّ وَأَن النأي يشفي من الوجدِ 

بِكُل تداوينا فَلم يُشفَ مَا بِنَا 

على أنّ قربَ الدَّار خير من الْبُعدِ 

عَلى أَنَّ قُربَ الدارِ لَيسَ بِنافِعٍ 

إِذا كانَ مَن تَهواهُ لَيسَ بِذي وُدِّ

فاستأذن جمال الإسلام بن المتوكل الصنعاني لينشدهم من ديوانه البديع فأصغوا له الأسماع فتحركت قريحته يقول:

وإذا تغنّتْ في الغصونِ حمامةٌ 

هاجتْ بلابلُ قلبِ صبّ موجعِ 

سَجَعتْ على غصنٍ ولم تدرِ الهوى 

مثلي ولم تدرِ الغرام ولم تعِ 

أحمامة الوادي بشرقيّ الغضا 

إن كنتِ مسعدة الكئيب فرجّعي 

إنّا تقاسمنا الغضا فغصونه 

في راحتيك وجمرُهُ في أضلعي

فنظروا من بعيد فرأوا رجلا مقبلا عليهم وقد لبس لباسا غريبا وهيئته غريبة فاستوحشوا منه, فقالوا: أأنت عربي؟

قال: نعم, قالوا أشاعر أنت؟ قال: نعم ,وقد بعثني قومي إليكم, فقام إليه أحدهم فعرف من خلال كلامه أن اسمه البارودي وأنه أشهر من نار على علم في عصر قومه : ثم إنهم رأوا على وجه لوعة الحزن فسألوه عن سر حزنه فقام ينشد ساخرا من الحمامة آمرا إياها بالانصراف عنه وهو مذهب جديد أنشأه بعد مقارنة لطيفة بينه وبين الحمائم إذ يقول:

سلْ حمامَ الأيكِ عنّي 

إنّهُ أدرى بحزني 

نحنُ في الحبِّ سواء

 كلنا بيكي لِغصنِ 

غير أن الوجدَ منهُ 

ليسَ مثل الوجدِ مني 

أنا أبكيْ من غرامي 

وهو في الغُصنِ يُغنّي 

وهو بالدمعِ بخيلٌ 

ودموعيْ ملء عيني 

لستَ في الصبوةِ مثلي 

فانصرفْ يا طيرُ عنّي

فحزنوا لحزنه, والتاعوا لالتياعه وأعجبهم حلو حديثه فقالوا: زدنا, فأنشدهم والغرام يجرح قلبه, والهوى يحرك لواعجه, والحنين يثور من داخله لمحبوبه قائلا:

ألا ياحمامَ الأيكِ إلفكَ حاضرٌ 

وغُصنك ميّاد ففيمَ تنوحُ 

غدوتَ سَليما في نعيمٍ وغبطةٍ 

ولكنّ قلبي بالغرامِ جريحُ 

فإن كنتَ لي عونا على الشوقِ فاستعرْ 

لعينكَ دمعا فالبكاء مريحُ 

وإلا فدعني من هديلكَ وانصرفْ 

فليسَ سواء باذلٌ وشحيحُ

إنه تصوير بديع وجمال يخلب اللب وشعور مرهف يأخذ بالوجدان, ثم أنشدهم قصيدة ماتعة جميلة في غاية الحسن والجمال البهاء تكاد أن تكون من عيون الشعر وبديعه وفيها حكم ودرر وفوائد وفيها قلائد وجواهر وفرائد ولو ألحقت قصيدة من قصائد الشعر المعاصر بالمعلقات لكانت هذه, وكان مما قال فيها:

هَذِي يَدِي ، جَسَّهَا الآسِي ، وَخَامَرَهُ 

يَأْسٌ ؛ فَغَادَرَهَا صَرْعَى مِنَ الْوَهَنِ 

فَلَمْ أُجِبْ ، غَيْرَ أَنَّ الدَّمْعَ نَمَّ عَلَى 

وَجدي ، وَ دلتهُ أنفاسي على شجني 

عَطْفاً عَلَيَّ ؛ فَلَمْ أَطْلُبْ إِلَيْكِ سِوَى 

أنْ أمتعَ العينَ منْ تمثالكِ الحسنِ 

تِلْكَ الْحَمَائِمُ لَوْ تَدْرِي بِمَا لَقِيَتْ 

أهلُ المحبة لمْ تسجعْ على فننِ

فأعجبوا به أيما إعجاب, وأثنوا عليه أيما ثناء, فقال لهم وأين أنتم من أمير الشعراء في عصرنا أحمد شوقي؟

فسألوا عنه, فقام شوقي حالا ينشد قصيدة من أشهر قصائده:

يا نائِحَ الطَلحِ أَشباهٌ عَوادينا 

نَشجى لِواديكَ أَم نَأسَى لِوادينا 

ماذا تَقُصُّ عَلَينا غَيرَ أَنَّ يَداً 

قَصَّت جَناحَكَ جالَت في حَواشينا 

رَمى بِنا البَينُ أَيكاً غَيرَ سامِرِنا 

أَخا الغَريبِ وَظِلّاً غَيرَ نادينا 

كُلٌّ رَمَتهُ النَوى ريشَ الفِراقُ لَنا 

سَهماً وَسُلَّ عَلَيكَ البَينُ سِكّينا 

إِذا دَعا الشَوقُ لَم نَبرَح بِمُنصَدِعٍ 

مِنَ الجَناحَينِ عَيٍّ لا يُلَبّينا 

فَإِن يَكُ الجِنسُ يا اِبنَ الطَلحِ فَرَّقَنا 

إِنَّ المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا

لقد كان في هذه القصيدة التي أنشأها في منفاه يخاطب فيها نائح الطلح وهو الحمام, ومعنى” أشباه عوادينا” أي نكباتنا متشابهة وأنا وأنت في محنة واحدة، فأـعجبهم مطلعه ومقطعه, ولما وصل الدور عند أسامة بن منقذ أنشدهم ثلاثة أبيات وقلبه يسيل لوعة وهياما وحبا وغراما متذكرا تلك الحمامة التي هيجت عليه شوقه القديم فقال:

وهاجَ لي الشّوقَ القديمَ حَمامةٌ 

على غصن في غيضة تترنّم 

دعتْ شجوَها محزونةً لم تفِضْ لها 

دُمُوعٌ، ففاضت أدمُعي، مَزْجُها دمُ 

فقلتُ لها: إن كنت خنساءَ لوعة 

ووجداً فإنِّي في البكاءِ متمِّم

يخاطبها أنها إن كانت مثل الخنساء في لوعتها وبكائها وحزنها فهو كمتمم بن نويرة الذي ملأ الدنيا بكاء ورثاء على أخيه مالك بن نويرة وهو معنى لطيف ومقارنة جميلة, ومثل هذه المقارنة قام ابن نباتة ينشد ويقول:

ولقد يُذكرني حنينُ سواجعٍ 

بالقلبِ كم هاجت على غصنٍ معي 

شتّان ما بيني وبينَ حمامةٍ 

صدحتْ فمن مسترجعٍ ومرجعِ 

غُصني بعيدٌ عن يديّ وغصنُها 

ضمّتْ عليهِ أناملُ المستمتعِ

إنه يشبّه الحبيب كغصن ناء عنه فكيف يضمه لصدره بينما هي غصنها قريب منها في متناول أناملها..

إنها زفرة من زفرات الجوى عند ابن نباتة وهو يتخيل هذا المعنى اللطيف فيود لو أن من يحبه كغصن يضمه كلما اشتاق إليه..

ثم إنهم أجمعوا وهم في أمسيتهم أن يتصلوا بأبي القاسم على الهواء مباشرة وقد كان مريضا طريح الفراش يعاني شدة الآلام فأخبرهم أنه ذات مرة سمع في رونق الضحى بكاءَ حماماتٍ لهن هدير , فهيجنَه ببكائهن , وزِدْنَ لوعته, وفجرنَ اشتياقه , وعُدنَ به إلى عهدٍ سلفَ , ودهرٍ مضى, فنراه مخاطباً عبدةَ:

ألَمْ تَسْمَعِي: أي عَبْدَ في روْنَـق الضُّحَى 

بكـاءَ حَـمَامَـاتٍ لُهَنَّ هَدِيرُ؟

 بَكَيْنَ فهيَّـجْـن اشـتِيَـاقِي وَلوْعـتي 

وقَدْ مَـرَّ مِـنْ عَهْد اللّقَاءِ دُهُور

فقام عرقلة الكلبي وقد وصل الدور إليه فأنشد في لهفة وشوق:

بروق الغوادي أم بروق المباسمِ 

أَشاقاكَ وهْناً، أَم هديل الحماِئمِ 

كأنّ بكِ الوجد الذي بي من الأسى 

وقد عيلَ صبري بين واشٍ ولائمِ 

تؤرِّقُ ورقُ الغوطتين لواحظي 

ومُنحِل جسمي حب غزلان جاسِم

فجمع معانٍ عديدة وهي بروق الغوادي, وبروق المباسم, وهديل الحمائم, وكلها معان تبعث الصبابة وتحرك الشوق الكامن وسط الحنايا, وتبعثه من بين الجوانحهم, فأنصت الكل حتى كأن على رؤوسهم الطير وما ذاك إلا لأنهم رأوا الأخرس قد شد حيازيمه وبدأ ينشد قصيدة بديعة وهي طويلة ممتعة ملهبة عرج فيها على ذكر الحمائم فكان مما قال فيها:

بالله أيّتها الحمائمُ غرّدي 

ولطالما أشجى المشوقَ غناؤهُ

 نُوحي تجاوبكِ الجوانح أنةً 

وتظلّ تندبُ خاطري ورقاؤهُ 

هيهات ما صدق الغرامُ على امرىءِ 

حتى تذوب من الجوى أحشاؤهُ

إنه يستحلفها أن تطربه بغنائها الجميل لتتجاوب أنّاتُ حبه مع تغريدها فيهيم شوقا بذلك وهو معنى من المعاني اللطيفة الجميلة التي تطرب لها المشاعر, وكأن الحمائم في منابر أيكها تملي الغناء الجميل بالصوت الرخيم والطلّ يكتب في الورق ذلك الحداء الذي تنتشي له الأحاسيس, ثم قالوا وقد نظروا للبحتري: هات ما عندك يا بحتري:

فقام ينشد:

وَوُرْقٍ تَداعَى بالبُكَاءِ بَعَثْنَ لي 

كَمينَ أسًى بَينَ الحَشَا وَالحَيازِمِ 

وَصَلْتُ بدَمْعي نَوْحَهُنّ، وَإنّما 

بكَيتُ لشَجوِي، لا لشَجوِ الحَمائمِ

فهو من شدة أساه وصل دمعه بنوحها, وانفلتت مشاعره لسماع بوحها..

إن  المتأمل في الشعر يرى أن الشعراء كانوا يسامرون النجوم, ويرعونَ الكواكب, ويرقبون البدر, وهم ذوو أفئدةٍ رقيقةٍ يُشجيهم نوح الحمائم, ويُبهجهم سجعها, ويُطربهم غناءها …وهم ذوو آذانٍ مُصغية حيث تنصتُ آذانُ قلوبِهم إلى ترانيم الطبيعة وخرير المياه, وهديل الحمام, وكثيراً ما نراهم يشاركون الطيور شداها, فتهيجُ أشواقهم الدفينة, وفي جلستهم تلك أعجبهم هيئة شخص جاء في حلة جميلة فسألوا عنه فإذا هو الحكم بن أبي الصلت فطلبوا منه المشاركة فأنشدهم:

أنوحُ لتغريدِ الحمائمِ بالضّحى 

وأبكي لِلَمعِ البارقِ المتبّسمِ 

وأرسلُ طرفا لا يراكِ فأنطوي 

على كبدٍ حرّى وقلبٍ مكلمِ 

وما أشتكي فَقدَ الصباح لأنني 

لفقدكِ في ليلٍ مدى الدهرِ مظلمِ

وهكذا الغرام والأسى والشوق يفعل بأصحابه عند سماع نوح الحمام فما بين باكٍ على الفقد, وما بين شاكٍ من كثرة الوجد..

فالتفتوا إلى عوف بن محلم وهو صامت وكان مغتربا عن أهله منذ ثلاثين سنة وكان برفقة الأمير عبد الله بن طاهر يُتحفه في مجالسه بالأدب – وكلما أراد أن يستأذنه للسفر إلى أهله يأبى عليه – فمرّوا سَحَرا برحلتهم تلك على واد كثيف الشجر فإذا قمرية (حمامة) تغرد على فنن فقال عبد الله: أحسن والله أبو كبير في قوله:

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ

 وغصنك ميّاد ففيمَ تنوحُ

ثم قال: يا عوف أجزها، أي: قل مثل هذا القول، فاعتذر لكبر سنه وضعف بديهته فهو قد جاوز الثمانين، وضعفت قريحته.. فعزم عليه الأمير، فأنشد:

أفي كلّ عامٍ غربة ٌونزوحُ 

أما للنوى من هدْأة فيريحُ 

لقدْ طلّح البينُ المُشِتّ ركائبي 

فهلْ أرينّ البين وهو طليحُ

 وأرّقني بالريّ نوحُ حمامةٍ 

فنحتُ وذو الشجو القريح ينوحُ 

على أنها ناحتْ ولم تذر عبرة 

ونحتُ وأسراب الدموعِ سفوحُ 

وناحتْ وفرخاها بحيثُ تراهما 

ومن دونِ أفراخي مهامِهُ فيحُ 

عسى جودُ عبداللهِ أن يعكسَ النوى 

فيلقي عصا التّطوافِ وهي طريحُ

فقال الأمير كم الأبيات؟ قال: ستة، فأمر له بستين ألفا ومركبا وكسوة وأمره بالرجوع إلى أهله…

فرجع ولكنه مات في الطريق قبل أن يصل إلى أهله فواحسرتاه…

وهذه الأبيات فيها من الشجى واللوعة ما يسيل المدامع ويبعث الحنين ويحملك قسرا على ترك الاغتراب والعودة للوطن وهو ما حمل الدكتور سلمان العودة على قطع رحلة من رحلاته وعاد لصغاره عندما قرأها أو قُرئت عليه.

وكان في سمرهم ممثلة النساء الخنساء أعظم شاعرة عربية فتذكرت صخرا فأنشدت دون شعور:

تذكرتُ صخرا أن تغنّت حمامةٌ 

هتوفٌ على غصنٍ مِن الأيكِ تسجعُ

ونوح الحمام يثير لديك الحب الفطري كحب الوالد لولده كما قال أمية بن الأسكر وهو شيخ عجوز عندما سمع نوح الحمام وقد اشتاق لولده الوحيد الذي ذهب للجهاد وكان يسقيه اللبن صباح مساء ففاض حنينه وتحركت لواعج قلبه، وبرّح به الشوق فملأ الدنيا شعرا يفيض رقة وعذوبة لولده ومهجة فؤاده فكان مما قال:

إذا هتَفتْ حمامةُ بطنُ وجٍ 

على بيضاتها ذكرا كلابا 

تركتَ أباكَ مُرعشةٌ يداهُ 

وأمّكَ ما تسيغُ لها شرابا

فَرَقّ له عمر رضي الله عنه فأرسل لولده فرده عليه في قصة مشجية مبكية لا يتمالك الإنسان دمعه عند سماعها, والشاهد أن الأشواق ثارت لولده عند سماع أيك الحمام..

وفي حديثهم عن الحمام وسجْعه وغِنائه فتحوا الحماسة البصرية وكانت مرجعا من مراجعهم فوجدوا رنة شاعر لجأ إلى نوع من الواقعية في المقارنة بين حاله وحالة الحمامة التي تنوح بقربه فيرى أن الحمامة تُعلن وجدها وهو يُخفيه, وهو يواصل بكاءه ليلَ نهارَ أما هي فتهجعُ ليلاً, وهو صادقٌ في دعوى وجده وشوقه أما الحمامة فيراها غير صادقة في نوحها باعتقاده بل صرح بكذبها, فوجدوه ينشد في لوعة:

أحَقَّاً يا حَمامَـةَ بَطْـنِ وَجٍّ 

بِهذا النَّوْحِ أَنَّـكِ تَصْدُقِينا ؟! 

فإنِّي مِثْلُ ما تَجِـدِينَ وَجْدِي 

ولكنِّـي أُسِـرُّ وتُعْـلِنِيـنا 

غَلَبْتُك بالبُكـاءِ بـأَنَّ لَيْـلِي 

أُواصِلُـهُ وأَنَّكِ تَهْجَعِيـنـا 

وأَنَّى أَشْتَكِي فأَقُـولُ حَـقَّاً 

وأَنَّـكِ تشْتَـكِينَ فَتَكْذِبِيـنا

ثم عادوا إلى المجنون يستنشدوه ما قال في حمام الأيك فقام وكأني به يقول قد شكا الناس قبلي ألم البعد والفراق، وقاسوا عظيم الوجد والاحتراق، ولكن لمثل حبي ما مشى بشر ولا سعى، وبمثل وجدي ما سمع أحد ولا رأى ثم أنشد:

وصاحت بوشك البين منها حمامةٌ 

تَغَنَّتْ بِلَيْلٍ في ذُرَى نَاعمٍ نَضْرِ 

أَرَنَّتْ بِأَعْلَى الصَّوْتِ مِنْها فَهيَّجَتْ 

فؤاداً معنى بالمليحة لوتدري 

فَقُلْتُ لَهَا عُودِي فَلَمَّا تَرَنَّمَتْ

 تَبَادَرَتِ الْعَيْنانِ سَحَّا عَلَى الصَّدْرِ

ثم إنهم سألوه لما رأوا غرامه وشدة كلفه هل ستنسى ليلى يا قيس فأجاب بالبديهة:

فو اللهِ ما أنساكِ ما هبتِ الصبا 

وما ناحتِ الأطيارُ في وَضَح الفَجْرِ 

وما لاحَ نجمٌ في السماءِ وما بكت 

مُطَوَّقة ٌ شَجْواً على فَنَنِ السِّدْرِ

إنه الحب الذي تمكن من حشاشة قلبه, وتغلغل في فؤاده وسيظل يذكر ليلى ما هبت النسائم وغنت الحمائم…

ذكرتُ في نهاية هذه الجلسة صورة لزوجين من الحمام وهما على غصن شجرة قد تعانقا ووضع كل منهما منقاره في منقار الآخر في مشهد يبعث الشجى والغرام وقد تبارَى أصحابي في وصف تلك الصورة المعبّرة في إحدى الأماسي ذات ليلة على ضفاف النيل وقد أدلى كل بأبياته الشعرية وكان السمر سمرا أدبيا حافلا فقلتُ:

هامَ الفؤادُ وذابتِ الأشواقُ 

وتلاقتِ الأرواحُ والأعناقُ 

أنا عاشقٌ ولقد ضممتُ حبيبتي 

يا لوعةً يَهفو لها العشاقُ 

ورشَفتُ من فمها رضاباً خالصاً 

عسلُ الشفاهِ لمهجتي ترياقُ 

ما الحبُ إلا رشفةٌ في ضمةٍ 

والقلبُ من كأسِ الهوى خفّاقُ

لا يذهب بكم التفكير بعيدا فإنما وصفت زوجين من الحمام فحسب..!!

ولست أديبا إنما أعمل عمل المنسق بين مشاركات هؤلاء الذين استضفتهم في هذه الأمسية ممن انبروا يتحدثون عن حمام الأيك ولم أكن إلا صاحب ضوئهم وقهوتهم.

وأعتذر إن أطلت عليكم ولكن كَثُر ضيوفي وألحوا علي بالمشاركة وأنتم -معاشر القراء- جمهور كريم لهذه الأمسية والمستفيد منها كالمسابق إلى المقاعد الأمامية…فخذوها وكأنها جولة ماتعة في واد كثير الأيك تسمعون فيه هديل الحمام…

ولقد جرّني إلى كتابة هذا الأمسية هذا الجو الماتع على ضفاف النيل في روضة خضراء معشبة مورقة في هذه الليلة الغراء المقمرة التي طربت فيها لهديل الحمام الذي يتجاوب فوق أغصانها ولا صوت هنا غير صوت خرير مياه السواقي وعلى رمية حجر أمواج النيل المتدفقة في هذا الليل الساجي فقمتُ أسجّل هذه الأمسية بعد تلك الأربعة الأبيات مع أصحابي الذين طاب بهم السمر ولقد جعلتني الغربة والبعد عن الأهل والولد أعيش حقيقة مع نوح حمام الأيك…

ولا أجد لكم وصفا غير وصف العبدري الشاطبي:

أولئك صحبي لا عدِمتُ حياتهمْ 

ولا عدِموا السعد الذي هو دائمُ 

أُغنّي بذكراهم وطيبِ حديثهمْ 

كما غرّدت فوقَ الغصونِ الحمائمُ

وهكذا نجِدُ أنَّ أكثرَ المواضِعِ الَّتي مر عليها في ذكرهم للحمام هي مَواضِعُ الحنين، ومواقِفُ الحزن؛ فحينَ شَكَا الشَّعراء الغربة، ووصَفَوا الشوق؛ وهاموا في المحبوبين, رأيناهُم يذكرون الحَمامَ، ويستعينُون بها في تصويرِ وَجْدِهِم، مستعملين في كُلِّ ذلك – ألفاظًا حزينةً، ملائمةً للسِّياقِ؛ فالحمائمُ (تنوحُ)، و( تشتاق) و(تبكي)، و(تنطِقُ بالأشواق)، و(تهيجُ كوامن الفؤاد)، وهي (محزونة)، ( باكية)  ( أسيفة) (مفجوعة) بأليفِها.

وبينما الأدباء جميعا في خيمتهم يتبادلون أطراف الحديث وحمام الأيك هو محور حديثهم يتفاعلون معه وينوحون لنوحه ويطارحونه الوجد فالبعض يتذكر الحبيب والبعض يتذكر موطنه وقد أخرج منه قسرا أو هاجر مضطراً للبحث عن لقمة العيش، أو سافر في طلب العلم كلهم يجمعهم الحنين ورقة المشاعر يتذكرون عهود السنا وملاعب الصبا فحان الختام فسمعوا من يردد:

وصلى عليكَ اللهُ ما لاحَ بارقٌ 

وما سحَّ ودقٌ تحتَ رعدٍ مجلجلِ 

وما سجَعتْ ورقُ الحمائمِ في الحمى 

وغردَ قمريٌّ لتغريدِ بلبلِ

وبينما هم على وشك القيام إذ مرّ سرب من الحمام فانبرى المجنون يرسل معه رسالة قائلا:

إذا مرّ سِربٌ من حمامٍ فقلْ لهُ 

ألا ليتَ شعري كيفَ ليلى وحالها

واستمر يركض وعيناه تتابع سرب الحمام فانتظروه لكنه هام في البرية والقفار فلمّا لم يعد انفضّ المجلس.