أدب

خذّلي عن الرحيلِ قدميكِ

قد كان طيفكِ الحقيقة التي تتربَّصُ الزَّمان لها يأتي فتتشكل عنده مخلوقة غاية في الكمال، جميلة من كل طرف، بهية من كلِّ ناحية.. يوحي إليّ طيفكِ ألوانًا من الحياة مرسومةٌ أنتِ في كُلّها..

يعزف طيفك على أوتار الزَّمان حكايا أشرقت على قلبك، وامتلأ بها.. ففاض عليّ كلماتك التي تكتبين، فأُسرعُ بقراءتك، أحاول جمعك من بين السُّطور، وقد حفظتُ عنكِ أكثر من مئة نص، خلّاقاتٍ للجمال فياضاتٍ به، لَكم وكَم تلألأ بها الليل…! يسألني: أأنت في تلك الخيالات؟ سخيفٌ أنت لو جزمت، سخيفٌ إن لم تفعل، لكن.. أأنت هو!؟

يا هذه، بيني وبينك الأفق، بيني وبينك ما أردتُ تقريبه دون الخوض فلم أستطع، ومن السوادِ ما أردتُ تمزيقهُ دون الثقل فلم ينقشع، تناوبنا على الدور، مرةً أنا الموجة، ومرةً أنتِ، وكم حاول الشاطئ رسم آثارك، لكنكِ تمحينها كلّ مرةً، ملقيةً أمامي لغزًا جديدًا… فيبقى “المجهول” العنوان بيني وبينك، وتبقى حبال الودّ تمدُّ كالشباك تحتضن البحر، فتخرج خُلوًا، إلا من لآلئ جُودِك، أو غَزلك الذي ترمين، فيحارُ الزمان أمامك، ماذا سيكتب!؟

تنسجمين متناغمةً مع كلِّ مناحي الحياة، مَن أرادك لا يعجزُ أن يراكِ في أفقٍ من الآفاق، لكنكِ كنتِ، وتظليّن، أندر مِن أن يستحوذ عليكِ، ويحوزك المتبحر إليكِ، علاوةً على أن يحوزكِ ناظرٌ متأملٌ بعيدٌ يرسمك بأشعة الشمسِ المنسحبة إليكم، الغاربة عندكم..

أنتِ هنا، معنا على صفحة الأرض البسيطة العريضة، مَن سار إليكِ.. وجدك، لربما بين كثبان من النور، أو بين آياتٍ من المعاني التي أوحتها النجوم، أنت هنا، بعيدةً كلَّ البعد، تزورينا بروحك ونزورك كذلك، كالأشواق الممتنعة، كالحب من طرفٍ واحد، ونحن كلانا في طرف المحب، وذاك الطرف، مع تلك الشواهق الممتنعة، قد استحلى الصدَّ عنا، وارتفع إلى النجوم، ينظر إلينا.. كأنه يشمت، كأنه يضحك.. كأنه يقول “صبرًا، عهدة اللقاء على الله”.

❃❃❃

قد آذنت بالرحيل، وعلى عتبات الفؤاد احتشد الوداع، والحنين، الكثير من هذا الشعورِ المُبهم، الذي نمى كالشجرة وتفرعت أغصانه ولم ينل من السقيا إلا القليل القليل، لكنكِ استطعتِ ترويته، المحبون.. هؤلاء الزهاد أهل الطمع..

“إن يَجُد من تحبه

فقليلٌ كثيره “

خذّلي قدميكِ، ولا يطغى اليأس عندكِ ولا الأمل، فالعجز آن يُقبِل.. تتساوى كفتا ميزانه، بين حقيقة الدنيا ونكدها، وطوفان الرجاء لله، يعمى الإنسان فلا يجترأ على الحكم، خشية أن ينزل القدر على لسانه، كل قلوبنا تصرخ وإن خالفتها النفوس، “اللهم اختر أنت اللهم اختر أنت” ولن ييأس امرؤ سلّم أمره، بل سلّم كلّ أموره التي بدأت معه ببراءة دَعيّ السلام!

عرفتُ من حكاياكِ أنك ممن يتشبثُ بالمجهول ويحبه، أي حفرةٍ احتفرها الشَّاطئ للموجة، حبستِ دفقة الماء المالح، حبستِ التي غيّرت وجه الشاطئ على الموجة فردّها قبل أن تأتي، وارتفعت رماله فتصلّبت وتحجرت.. وظلّت الموجة شوقًا إلى الشاطئ تضرب وتضرب، حذار.. الرمال تمحو الحزن والحجارة تثبته، فانزلي إلينا من جدرانك العالية، وتصيّدي من مائنا العذب، فقد أوحى لي البحر مرةً أنه يصدُّ الآدميين بالملح، ويغازل من يحبُّ بكلّ حلاوته، بكلّ العذوبة التي تتفتح لها النفوس، وتنزل إليها الأجساد فتراها غامضةً مهلكةً مالحة، أوحى إليّ أنه يغازل بحلاوةٍ مودَعةٍ فيه؛ هذا قوله، فلا تبالين بعد ذلك دفقة الماء المالح تلك…!

لكن.. خذّلي عن الرحيل قدميكِ!

❃❃❃

عن الرحيلِ قدميكِ 3 خذّلي عن الرحيلِ قدميكِ

تساءلتِ مرةً عن الضحكات.. كيف تولد؟ شاقك أمرها وهي حلوةٌ عندك ما غادرت شفاهك، بيد أنَّ ظلامًا أطبق عليها خلّفته كوابيس الحياة الدنيا، قلتُ لكِ.. لو تعلمين فتىً توّاقًا للموت تلكئت طينته عنه، هو الخيال الذي كدتِ أن تهوينه. توّاق لأنه جرّب الحرية فأحبها، وتأمل فرأى قيود الدنيا من حوله كثيرة، لا يتخلص منها غنيٌّ أو فقير، وتأمل أخرى، فوجد القبر حلو فسيحٌ يتنقل صاحبه حيث شاء، فقلت في نفسي لعلي أجلسُ لمن أحبهم جلسةً لا يراها أهل الدنيا، ولا يعرفونها، فلا يحاسب عليها أحد.. إذ تعذّرت المجالسُ علينا نحن إلا في القبور، سأسأل الله أن يوكّل لي ملائكةً يطيرون بي إلى حيث أحب، أسلّم على أطيافكم، وآمر مَلكًا فينفحكم شيئًا من عطر الآخرة، يحفكم نوره، ويحفكم سروره إلى يوم الدين.. يا ليت قومي يعلمون!

❃❃❃

أحزان الدنيا لا تستحق إلا بسمةً منك وضحكةً، وهزءً طويلًا، لأنك تعلمين أنَّ العواصف خارج النفس الزكية لا تلوثها..

لكنَّ حزنًا منك عظيمٌ حتى على الأفقِ الذي بيني وبينك!

تتساءلين: أيُّ شيءٍ ذاك الذي ترمي إليه، وأي حديثٍ تريد من تلك الأحاديث الكثيرة، التي يسمعها السامع فيقول الحب الحب، وأقول اخسأ فليس ذاك،  إنما أدق. بل، وأعمق.. أعمق من أن يكون مجرّد وصفٍ لربما اتصف به قيس، ولربما اتصف به صبيان الحب ألاعيبُ العشقِ ودُماه! ألا ترين أني لم أجترئ على نعته بمصطلحٍ أو تسميته باسم؟!

أعقَدُ أعقد، وتحسبين أني ما عرفتُ الحبّ إلا عن قريب، فتائهٌ عن وصفِه حائرٌ في أمره، وليس الذي تحسبين.. وليسعنا الصمت عن ذاك، واستعيري معي العبارة التي أخالفها وتفعلين، فقولي هذه المرة أنْ لا مشاحة في الاصطلاح… فالذي تدنو إليه هذه الكلمات أوسع بكثيرٍ مما يحسبُ الناس.

له في الصدرِ تلبيةٌ تدوّي…!

❃❃❃

أيطيب قلبُ امرئٍ إن ألقى جبالًا من الصَّمتِ اللائم على قلبٍ أراد الله بعثه مراتٍ ومرات في الصدور!

آمني فقد أحيا الله هذا القلب بعد موته، ثمَّ أماته، ثمَّ أحياه، ثمَّ أهداه روحًا شفافة، فهو ميتٌ حيٌ وإن كان بينكم يأكل ويشرب، وبعدُ.. ألا توافقيني بأن الناس غلطوا لما انعقد اتفاقهم على أن الحيّ يعرَفُ بالنبض، والأكلِ والشرب…!؟ بل دعينا منهم ومن عُقَدِهم حلّها وعَقدِها، وانظري لِملكوتِ الله الذي لطالما أوحى إليكِ مُختصةً مِن الله، ما حاد وحيُ الكونِ عنكِ، انظري إليه.. وأشهديه أنّكِ تؤمنين بأنَّ قلبًا بريئًا حَدَّ السَّذاجة، عجِزَ عن وصف حالٍ مِن أحواله معك، أشهديه.. فهم قالوا: “إذا سالت النفسُ مِن رقةِ الحُب، فبأيِ مادةٍ تُصنعُ فيها صلابة الحجر؟”؛ أشهديه، فإنَّ تيكَ النَّفس لا تزالُ في جريانِها للمجهولِ الذي يتربصُ بها، وتحبُّ أن تغدو أبدًا ذكرى تحلو بها مجالسُ الشِّعر، والأدب؛ والنفس، فما “تحدثتُ عن هذه النفس إلا لمخلوقٍ أضمِرُ له الحب”.

❃❃❃

العذرية قراءة لا نسقية1 خذّلي عن الرحيلِ قدميكِ

أجدني أرِقُ لقولِ شكسبير “وداعًا، إنك أغلى من أن أستحوذ عليك، ويكفيني أنك تعرف قيمتك. فامتيازك بهذه القيمة يعفيك من الالتزام؛ فتنتهي كل دعاوى حقي فيك”.

كأنَّ اليأس قد عضَّ عليه بالنواجذ، كأنَّ اليأس مزّقه…! لكن لا وداع، ليس كلُّ ما في الدنيا استحواذٌ ونيل، أمورٌ كثيرة تلك التي نرضى منها بالوجود، بالوجود وحسب، قولي كنجمة.. بعيدة مضيئة حلوة، ليس يستغني عنها إلا العميُّ، وعلّك أكرمتِ روحي عن أن تصميها بالعمى، وهو عليها ثقيلٌ ثقيل!

❃❃❃

لن يقدح في ضيِّ فكرك إلا خطيئة واحدة: إن أقمتِ نفسك محل الخسران والفقد، فقد ظلمتها، أنتِ أعزُّ مِن جدار الوهم الذي طفت حوله.. وسلام لقلبك.. لا تفطمي النفس عن ضحكاتها، فتلك مسّرات تتلقفها ملائكة الرحمة.. تصعدُ إلى السَّماءِ كغيمة، تمطِرُ على الحزينِ كالحُبِّ، تحتضنها الأرضُ، ينمو بعدَها شوقٌ إليكِ عزيز!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى