أدب

خمسة نصوص من رواية بكاء الريح

من الأنسب أن يتعرف القارئ على منهجية الكاتب وأسلوبه في سرد أحداث الرواية، وطريقته في معالجة القضايا الكبرى، ومدى قدرته على تقديم الواقع بصورة قصصية واضحة.

ورواية “بكاء الريح” تسلط الضوء على جانب مِن الواقع اليمني خلال الفترة 1975 – 2014م، هذه الفترة التي عاشها الكاتب، وتنقل بين الريف والحضر، وشاهد الكثير من التَّحولات على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، وسنكتفي هنا بعرض خمس نصوص من الرواية، لنترك للأدباء الكرام والنُّقاد الأفذاذ مجالًا للتحليل والنقد.

(1)

كان المورد يكتظ بالنِّساء والفتيات، الكثير يغترفن الماء مِن غديره المتدفق، البعض يغسلن الأطمار المتراكمة منذ أيام في ذلك الشَّلال الهادر، ثم ينشرن غسيلهن فوق الصُّخور وعلى الجذوع المستلقية في وجه الشَّمس، وعلى الجانب الآخر مِن نهر السَّاقية فِتْيانٌ وصبيةٌ دون الخامسة عشرة، يسبحون في بِركة مستديرة البناء بعمق مترين إلى ثلاثة، يستعرضون بأجسادهم النَّحيلة فنون السِّباحة والغوص تحت الماء.

مكان المورد في منطقة الجبال كموضع الأنف في وجه الحسناء، ينعقد فيه جمال الطَّبيعة، يفيض جلاله السَّاحر على بقية المطارح والأماكن، يتكامل الجمال بالجمال، ويتميز المورد عن غيره بخضرة فاتنة، وأزهار متفتحة على الغصون والبراعم، وظِلال واسع يُخمِد قيض النَّهار، ونبات زاحف رغم القطاف، وحول المورد متنزهات أنيقة، وهضاب مشرقة، وكهوف ومغارات تتخلل الأشجار والزُّروع والرَّوابي.

النِّساء يقضين أمتع الأوقات هنا، يتبادلن أحاديث الشُّجون، يبحن لبعضهن بنجوى الأسرار الكامنة في الصُّدور، يتناقلن أخبار القرية والحكايات القادمة مع الرِّيح مِن القرى البعيدة والقريبة، يتفاخرن بجديد ما اقتنينه مِن مجوهرات وملابس وأثاث، وأواعي الطَّبخ والطَّحين والغسيل، يستهويهن ما قالته العرَّافة وأساطير الغابة القريبة، صيد اللؤلؤ واقتلاع فُصَّي زمردة مِن عيني حيَّة كانت مختبئة بين أشواك التِّين!!

تستعجل المرأة في كل أمورها عدا البقاء في المورد برفقة الصُّويحبات، فهي باقية فيه ما أمكن لها البقاء، لا يدفعها للانصراف إلَّا ضرورة ملحة كأن يكون لها رضيع ينتظر حليبها، أو ضيوف غداء ومقيل.

يفشل الرِّجال في سبر أغوار المرأة، وتفسير أحوالها النَّفسية، يتدللون في تحقيق رغباتهم منها، ولا يعنيهم جبر خاطرها وتذليل أشواقها، فتهرع إلى المورد، إلى عالمها الذي تفتقده .. هناك تُشْبِع بعضًا مِن جوعها النَّفسي، وتروي الكثير مِن ظمئها العاطفي.

kids خمسة نصوص من رواية بكاء الريح

(2)

على باب المغارة صخرة مهيبة تشمخ في السَّماء تطاولًا، لها ذراع يمتد في الهواء وينتهي برأس حاد مصقول بسَّوادٍ لامع، ينعكس عليه ضوء القمر، فيبدو كفارس عملاق يسدد رميةً قاتلةً صوب عدوٍ شاردٍ في الفضاء.

تبدلت وحشة المغارة أمانًا وسكونًا، هدأت مخاوف الطَّريق ودواعي التَّوجس والقلق، قطرات الماء تتساقط مِن سقوف المغارة، وتنتهي إلى حفرة صخرية، وعند ارتطامها تصدر إيقاعات حزينة تحاكي غربة المكان وتحولات الزَّمان، كأنها تنقر في جدار الذَّاكرة؛ وتفسر شيئًا مِن ترابط الأحداث ببعضها.

صلينا الفجر ثم أسندنا رؤوسنا على كومة قش مغطاة ببعض ثيابنا .. ثم .. لم أعِ لحظة انفلاتنا مِن عالم اليقظة والانزلاق في سبات عميق.

امتد نومنا حتى المساء، أيقظَنَا وشيش المطر المنهمر بغزارة، مطر يشيعه صرير الرِّيح، وهزيم الرَّعد، ولمع البوارق.

أعقب المطر انبثاق الضَّوء من بين سحاب وغمام يتأرجح بين أرضٍ وسماء، كانت الشَّمس ترسم أقواسها الجميلة، وتصبغ الفضاء القروي بألوان الطَّيف السَّاحر، تنعكس الألوان الذَّهبية على صفحة الماء المنساب تحت الظِّلال والأشجار، فيبدو المشهد أخَّاذًا فاتنًا، تمضي الصُّورة البديعة بحسنها التَّام مصحوبة بترانيم الجداول، ثم يخبو الصوتُ شيئًا فشيئا.

جلسنا جوار المارد الصَّخري الملتصق بباب المغارة نتأمل بديع صنع الله، تأسرنا الرَّهبة إلى هذا التآلف الجذاب، تختلج في الجوانح رغبات للسُّجود والبكاء.

كان النَّهار يتلاشى أمام سطوة الليل القادم، وتبدو منطقة الجبال كرسوم متحركة تختفي ظلالها بين البيوت والهضاب، النَّاس بأطفالهم وأبقارهم وأغنامهم يجوبون المداخل والشِّعاب ويأوون إلى بيوتهم دون إرادة .. أو هكذا يبدو لنا المشهد.

كنتُ أرى حركتهم كما لو أنها فِرق النَّمل تدب فوق ترابٍ يئِنُّ بلا أنين .. البحث عن عدم فانٍ، التيه في غمار المدارك المجهولة، يطفرون إلى الغاب سِراعًا ويعودون ثقالًا، ضوائق الحيرة تجسد ما نراه وما لا نراه.

cave خمسة نصوص من رواية بكاء الريح

(3)

قبل عامين مِن ظهور شمس الدِّين كانت السَّاحات تصرخ بأفواه مفتوحة وعقول مأسورة؟ قادةٌ متخمون ورعايا بائسون، جماهير تحيا بالفُتات، والنُّخبة تنعم بالثَّريد، كادحون يفترشون الأرض، وسادة حازوا الرِّياش والنَّفائس.

التَّحشيد في هذه البلاد ميسرٌ لكل مَن يكتشف أساليبه ويمتلك أسراره.

كانت جماهير الكساح النَّفسي مِن النِّظام والمعارضة – وأنا واحدٌ منهم – تتدافع إلى ميادين الصُّراخ، ترتعش مثل أعواد القمح اليابسة، تنصتُ إلى نقيق وزعيق: نواصل التَّحدي إلى عامٍ وألف عام، يغدق الكُبراء على رعاياهم صكوكًا مِن الغفران والأماني، حُزَم القات ولفائف التَّبغ، وشعارات براقة ترقص لأنغامها كلاب الليل وقوارض الأدغال.

بعدها تقلصت الميادين والسَّاحات، حل مكانها المتراس والبندقية، ودهليز عبور إلى المقابر المجاورة! أين الجماهير؟ ذابت في صرخة بوقٍ وتجويف قناةٍ وسطرٍ في جريدة.

كان قادة الثَّورة أقل وعيًا من جماهير الثَّورة، الخيمة احترقت! ودبابة شمَّاء ترسو على أطمارها البالية، متعطشون للحرب، زحف القادمون؛ أحرَقوا مسالك الرُّجوع، وصنعوا للموت مليون تابوت، وبيارق النَّصر فوق الأبواب والأسوار والقبور.

war خمسة نصوص من رواية بكاء الريح

(4)

قبل خمسين سنة كان تاجر القرية (سعيد) يملك حِمارًا أبيضَ ينافس بقوته بغلة الشَّيخ حمود، كان التَّاجر سعيد يشتري من بيوت القرية ما يجتمع من السَّمن، والبيض، ومحاصيل السِّمسم، والبُن، وحبَّ الفول السُّوداني، وبعض العطريات والفواكه المزروعة في أطراف الحقول وأفنية المنازل، يشدُّها في سرج الحمار، ويطوف الأسواق المجاورة لبيعها، أو يقايض بها منتجات مطلوبة كالأقمشة، والكبريت، والبلاستيك، وزيت الكيروسين، والصَّابون، وبعض التَّوابل والبهارات المستوردة مِن الهند وإفريقيا الشَّرقية.

منزل التَّاجر سعيد يتربع في تلة متعرجة شرق القرية، خَصَّصَ مقصورته العلوية كمستودع يكتنز فيه كل ما يصلح للبيع، خمسون عامًا يجوب الأسواق والقرى، أتقن مهارة البيع والشِّراء، وخَبِرَ طرائق الرِّبح، ومواسم الرَّواج والكساد.

في شتاء قاحل مات حماره الصِّنديد، تردى من شاهق في تلك السَّلاسل الجبلية المتعامدة فوق القرى والأخاديد السَّحيقة، لم يستسلم التَّاجر سعيد للكارثة التي أفقدته حماره وجزءًا مِن رأس ماله، لكن الطَّريق الذي كان يسلكه أصبح مخيفًا ولم يعد آمنًا، كل شاهق فيه يعيد إلى ذاكرته مشهد الحمارة البيضاء تتهاوى بين الصُّخور، عظامها المتهشِم على حد الجلاميد النَّابية، أجزاؤها العالقة بمخالب النُّسور الجارحة، لم يعد هذا سبيلاً آمنًا، السَّير في هذه العقبات الحرجة بعد الآن ضربٌ من الانتحار، بعد هذه الكارثة شرع سعيد التَّاجر ببناء دكانٍ صغيرٍ من صفائح الزِّنك والخشب، أقام عمدانه على ضفة الوادي القريب مِن ممر السَّيارات الذَّاهبة والعائدة.

نجحت الفكرة .. أصبح للتاجر سعيد دكانٌ مكتمل الهيئة والمرافق، اختار مكانه بعناية، على الطَّريق العام وفي موقع جاذب للمقيمين والمسافرين، يشعر المارة برغبة في الوقوف على باب دكانه، حتى لو لم تكن هناك حاجة للابتياع والمقايضة! وبدأ النَّاس يضربون مواعيدهم إلى هذا المكان؛ فقد أصبح عنوانًا سهلًا ومألوفًا.

في دكان سعيد كانت معرفتي الأولى بالمصنوعات الغذائية، كم كانت تستهويني! وتلبي شره الجوع والعطش، مشروبات غازية: (كندا دراي)، و(بيبسي كولا)، ومعلبات الأناناس والخوخ والعصائر المشكلة، البقوليات ولحوم البحر، وأنواع وافرة مِن البسكويت والحلويات والشُّكولاتة.

بعدها تكاثرت المحال الصَّغيرة على شقي المجرى الكبير للسيل.

يخرج النَّاس من منازلهم إلى السُّوق كل صباح باكر، يتقاطرون مع انسياب الضِّياء المسكوب من قرص الشَّمس، ينحدرون بخطى وئيدة، وفي قعر الوادي يطوفون أرجاء السُّوق وبين ردهاته الضَّيقة، يُسلُّون عيونهم بالنَّظر إلى المعروض على الأبواب والرُّفوف، يدفعون القليل ويقترضون فوق ما يحتملون، تتزاحم سجلات الدُّيون بالأسماء والأرقام، يواعدون بالسَّدادِ إلى مواسم الحصاد، أو حتى تصل حوالاتهم النَّقدية مِن أبنائهم في المهجر، ما أسهلَ يوم الاستدانة، وما أشقَّ يوم الأداء، التُّجار المبتدئون يعلنون إفلاسهم بعد سنوات قليلة؛ لأنَّ رأس مالهم تبعثر في قوائم الدِّيون؛ وعجزوا عن استعادته، ومِن الصَّعب فطام المدمنين عن العيش بالآجل.

في موسم الأمطار يغرق السُّوق في مستنقع من الوحل، يختلط الماء الآسن بأوراق الشَّجر اليابسة، ومخلفات البضائع، وما تجلبه الرِّيح مِن زوايا الغابة الكثيفة، ومع ذلك يبقى المكان مَعْلَمًا بارزًا، وملتقًى مهمًا في منطقة الجبال.

2 01 خمسة نصوص من رواية بكاء الريح

(5)

تركتُ المغارة وهي الباقية في صحوي ومنامي، في جِدي وأحلامي، مكنوزة في جفن جفني وأغوار أضلاعي، لم يمسخني الفراق جمادًا موحشًا ولا نعجة سليبة، بقيتُ كإنسان تحفِّزه المشاعر وتداويه الأشواق.

واريتُ نفسي عن نفسي حتى آويت منزلي، يضمني فرش عمري وقت السَّحر، عصفور نيسان يحتمي بريشِ حمامة هيفاء، سكنَ فيح اللهيب الزَّافر بالمحبة، وترسبتْ بقايا سُؤالٍ عن الأحوال والمآل، انسلختْ الأيام الأولى ثقيلة تعيسة، أصابني الوجوم والوهن، عفتُ الجلوس في الموائد والأسواق والميادين، وجدتُني مثل نبتة اقتُلعتْ من ترابها لتُزرع بين رماد وحصى.

مضى شهر كحقبة متطاولة من الجفاف والشَّقاء، وفي فجر يومٍ مسكونٍ بالدَّخان والعذاب والسَّأم .. قلت لها: اسمعي يا حبيبة .. سنغادر القرية حالًا، اجمعي ما تستدعيه الضَّرورة ودعي كل شيء في مكانه، أملي ألا تناقشي .. ما عاد مِن متسع حتى للنقاش!

عند السَّادسة صباحًا احتشرنا في مقصورة السَّيارة، تكور الصِّغار في مقعدها الخلفي مثل خراف عجفاء، خائرة القوى، ضاوية الملامح، قال السَّائق: إلى أين؟ قلت: لا أدري! امضِ أمامك وحسب!! لا تتوقف ما دمتَ قادرًا على ذلك! اسقِ المركب عند كل غدير تلقاه، تفادَ العطش الكامن فيها وفينا، غُذَّ السَّير .. خذنا إلى وادٍ غير ذي زرعٍ ولا نهرٍ ولا رمال، ابحث لنا عن مكان ليس في المكان! عن زمان ليس في الزَّمان! تتبع خطوط الشَّمس في غسق الليل! اقتفِ ضوء الكواكب في رابعة النَّهار! ابقَ ماشيًا حتى ينتهي

المدار إلى خواءٍ لا ضباب فيه ولا سحاب، واصل المسير إلى أن تذوب في عيوننا معالم الطَّريق، تابع خطاك إلى أن ترتطم الحدود بالحدود، وينغلق المدار بالمدار، امضِ لعل ملاذًا ينفتح لنا دون الملاذ …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى