أدب

دعاء المحبين لمحبوبيهم في الشعر العربي

وصلت مأساة مجنون ليلى قمتها عندما زوَّجها  أهلها من غيره للخَلاص منه، لكن زاد تعلقه بها وبدأت مرحلة هيام آخر فقد ترك أهلَه وبيته وقبيلته، وبقي يتنقل في البوادي هائمًا على وجهه يبكي فراق ليلى، وقد سجَّل بدموع عينيه وآهات قلبه وحسرات فؤاده أجمل القصائد في حبها، فإذا ابتعد في الصَّحاري والقفار وأفاق من سكرة حبه عاد مرة أخرى ليطل على ديار ليلى بوجهه الشَّاحب، ونفسه الهالكة، وثيابه الرَّثة، وهيكله النَّحيف، فاجتمع القوم إلى أبيه وقالوا: هذا البلاء الذي وقعَ على ابنك يمكن أن يرفع إذا ذهبت به إلى بيت الله الحرام في موسمِ الحج فلعله يستعيد عقله ويعافيه الله من هيامه وينسيه ليلى.

استجاب والد قيس وخرج بقيس إلى مكة فجعل يطوف بابنه ويدعو الله عزَّ وجل له بالشِّفاء، ولكن قيس جعل صلاته كلها ودعاءه لله سبحانه وتعالى في ذلك المكان المقدَّس لغاية واحدة هي أن يغفر الله ذنوب ليلى وأن يسعدها وألا يعيش لحظة واحدة لا يحبها فيها، فقال من معه من المرافقين العالمين بمأساته.

اسأل الله أن يريحك من ليلى، 

فقال: بل أسأل الله أن يزيد حبي لها، اسمعوا ما يقول قلبي في هذا المكان المقدَّس:

دعـا المحرمــونَ اللـهَ يســتغفرونه 

بمكـــةَ شُـعثًا كي تمحَّـى ذنوبهــا 

وناديــتُ يا رحمـــن أوّل ســــؤلتي 

لنفســيَ ليلـى ثـم أنـتَ حســـيبُها 

وإن أُعـطَ ليلـى في حياتي لَمْ يَتُبْ 

إلــى اللــهِ عبـــدٌ توبــةً لا أتوبُهــا

لم تُفِدْ زيارة الكعبة ذلك العاشق إلا بجعله أكثر حبًّا لليلى وتعلقًا وجنونًا بها مما يدل أنه اكتوى بنار الحب ونسي كل شيء إلاهي ورُوي أنَّ أبا قيس قال لقيس: “تعلَّق بأستار الكعبة وادع الله أن يشفيك من حبِّ ليلى”، فذهب قيس وتعلق بأستار الكعبة، وقال: “اللهم زدني لليلى حبًّا وبها كلفًا ولا تنسني ذكرها أبدًا”.

وعندما أنشد قصيدته الطويلة المؤنسة ذكر فيها بيتين يدعو الله لكن بماذا؟

دعا الله بتكافؤ الحب بينه وبين محبوبته وإلا فهو يعلم أنَّ الشقاء سيضرب قلبه فيرجو الخلاص منه ببغضها هي وأهلها الذين حالوا بينه وبينها فيقول:دعا الله بتكافؤ الحب بينه وبين محبوبته وإلا فهو يعلم أنَّ الشقاء سيضرب قلبه فيرجو الخلاص منه ببغضها هي وأهلها الذين حالوا بينه وبينها فيقول:

فيا ربِّ إذ صيَّرت ليلى هي

 المُنى فزِنِّي بِعينيها كما زِنتَها ليا 

وَإِلّا فَبَغِّضها إِلَيَّ وَأَهلَها 

فَإِنّي بِلَيلى قَد لَقيتُ الدَواهِيا

ويقول أيضًا في بيت يقرب لك هذا المعنى:

فَيا رَبِّ سَوّ الحُبَّ بَيني وَبَينَها

 يَكونُ كَفافًا لا عَلَيَّ وَلا لِيا

هكذا كان المجنون يعيش داعيا ربه أن يحظى بوصال ليلى فهي خالدة في دعائه لا يفتر لسانه عن ذكرها.

وقد ذكر أبو المختار عن محمد بن قيس العبدي قوله: “كنت بمزدلفة بين النَّائم واليقظان، إذ سمعت بكاء متتابعًا ونفَسًا عاليًا، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حُسنًا، ومعها عجوز، فبَركتُ على الأرض لأنظر إليها، فسمعتها تقول:

دعوتك يا مولاي سرًّا وجهرةً 

دعاء ضعيفِ القلبِ عن مَحمل الحبّ 

بُليتُ بقاسي القلب لا يعرف الهوى 

وأقتل خلق الله للهائمِ الصب

 فإن كنتَ لم تقض المودة بيننا 

فلا تُخلِ من حب له أبدًا قلبي 

رضيتُ بهذا في الحياة، فإن أمُت 

فحسبي ثوابًا في المعاد به حسبي

وظلّت الجارية تردد هذه الأبيات، وتبكي، فقمت إليها، فقلت: بنفسي أنتِ، مع هذا الوجه يمتنع عليك من تريدينه؟

قالت: نعم، والله.

فقلت لها: إن هذه لآخر ليلة من ليالي الحج، فلو سألت الله التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك.

فقالت: عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإني قد قدمت رغبتي إلى من ليس يجهل بُغيتي أي إنها أتت إلى الحج لدعاء ربها في نيل مرادها من محبوبها…”

المحبين لمحبوبيهم في الشعر العربي 1 دعاء المحبين لمحبوبيهم في الشعر العربي

حين يتعاظم الحبّ في القلوب العاشقة يملأ أرواح سالكي تلك الدروب بحرقة الهوى ومواجيد الوصال وحبّ اللقاء لا عجب حينها إن لهجت الأفئدة بالدعوات وفاضت الجوارح بالرغبات، وتدفقت زفراتهم شعرًا.

وتعال لنرى جميل بثينة وهو يدعو الله أن يحببه إلى بثينة ويعطيه المودة منها وكأنها هاجرةٌ له مستعصية عليه، وتراه فقيها في العقيدة عارفًا أنّ من أسماء الله الحسنى المعطي والمانع فهو يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى أن يرزقه مودتها وإلا فليربط على قلبه بالصبر فيقول:

فيا ربِّ حَبِّبنِي إليْها وأعطِنِي المَودَّةَ 

مِنها، أنتَ تُعطِي وتَمنَعُ 

وإلَّا فصَبِّرنِي -وإن كنتُ كارِهًا- 

فإنِّي بِها يا ذا المَعارِجِ مُولَعُ

ونرى العباس بن الأحنف يدعو الله أن يقرب دار كل حبيب من حبيبه مقررًا أنَّ البيْن هو شكوى كل المحبين فيقول:

أرى البَين يشكوه المحبون كلهم 

فيا ربّ قرّب دار كل حبيب!

وبعضهم يعلم أن الدعاء مستجاب عند نزول المطر، لكنه لا يفتر من الدعاء طيلة أيام السنة حتى والأرض مجدبة قاحلة فلعلّ باب السماء يفتح له فيقول مسطرًا هذه المشاعر:

قَد كُنت أدعو لكُم والأرضُ قاحلةٌ 

فكَيف أغفلُ عنكُم ساعة المَطرِ؟

فكأنه يقول : إنها محبة صادقة وعميقة ومستمرة في كل الفصول، ومع كل الأحوال..

ويرى بعض المحبين أن النظر إلى وجه المحبوب يكون به الأمل وإشراق النفس بالحياة هكذا هي فلسفتهم كأنهم يشعرون أن موتهم وكآبتهم وظلمتهم ووحشتهم وغربتهم في غياب الحبيب، وإشراقة نفوسهم وحياتها في النظر إليه فترى أحدهم يسطر هذه الفلسفة في دعائه فيقول:

فلْيَحفَظ الله وجهاً ما نَظَرتُ لَهُ 

إلا وأشرقَ في أنفاسِيَ الأمَلُ

وآخر تراه يشكو من قتل الشوق له فيئن ويشتكي ويخبر أن وسيلته الدعاء في عتمة الليل حيث يقول:

الشَّوقُ يَقتُلُنِي إلَيكِ وحِيلَتِي 

فِي عتمةِ اللَّيلِ البَهِيمِ دُعَاءُ

إن كل حسنٍ يذكرهم بمحاسن ذلك المحبوب، وبديع المشاهد تحرك فيهم إحساسًا يفيض اتقاده فيرى المحب قسمات حبيبه ماثلة أمامه أينما ذهب..

بل بعضهم يتحدث أنّه يدعو لمحبوبه في سجوده حتى ينسى أنه المهموم، والسجود أعظم حركات الصلاة فكأنه يرى أن هذا الموضع الذي يكون فيه العبد أقرب إلى مولاه هو أحرى بإجابة الدعاء فكأن الأرض لم تنجب حبيبا مثل حبيبه، وكأن الروح لا ترى سوى حبيبها مكملًا لها، فينغمس في شعور الدعاء الصادق حتى ينسه همه وغمه وكربه فيقول أحدهم:

ولقد ذكرتُكِ بالدُّعا في سَجْدَتي 

حتى نَسيتُ بأنني المَهْمُومُ

بل وصل الحب بهم أنه ليس فقط الدعاء عند الكعبة وفي المشاعر المقدسة وعند التعلق بأستار الكعبة أو عندما تجدب الأرض أو تمطر السماء أو في عتمة الليل، أو في السجود، بل الدعاء عندما ينطق اللسان بأي دعوة فيقول أحدهم واصفًا هذا المعنى:

واللهِ ما نَطقَ اللسانُ بدعوةٍ

 إلا ذكرتك في حُروفِ دُعائي

إنها صورة من أعلى صور الامتزاج الروحي، فهي حالةُ غرام ملازم يطوق القلب ويشعله بذكرى المحبوب..

ومن غير الرحيم الرحمن سبحانه جابر القلب وجامع الشتيتين، إذ القلوب بيده سبحانه والتصاريف شأنه ومراده..

هذا ما عرفناه في دعاء المحبين لمحبوبيهم فهل يمكن أن يدعو المحبون على محبوبيهم؟

لعلك تستغرب من السؤال لكن أجيبك أن هذا قد ورد في الشعر العربي لكن كيف سنفسره؟

جميل بثينة المحب الهائم الذي أصبح من كبار المحبين الذين اشتهرت قصائدهم الغزلية وتحدثنا عنه آنفا يقول في قصيدة له:

رمَى الله، في عيني بُثينة بالقذى 

وفي الغرِّ من أنيابها، بالقوادحِ

إنه دعاء صريح عليها فقد دعا على أجمل ما في وجهها _ عينيها_، ودعا على أسنانها ؟ .

قد يحتار القارئ ويقف مدهوشًا إذ كيف يمكن الدعاء على المحبوب، ولكن تفسير هذا الدعاء أنَّ الشَّيء إذا بلغ غايته يُدعى عليه كما يقال، صونًا عن عين الكمال كما هنا. قال ابن الأنباري في الزاهر: معنى قوله: رمى الله في عيني بثينة إلخ، سبحان الله، ما أحسن عينيها. من ذلك قولهم: قاتل الله فلانًا ما أشجعه! وأنياب القوم: ساداتهم، أي: رمى الله الفساد والهلاك في سادات قومها، لأنهم حالوا بينها وبين زيارتي. انتهى.

وقال المرزوقي في شرح الفصيح: “قيل إنه لم يدع عليها بذلك، وإنما هو كما يقال: قاتله الله ما أفرسه! على وجه التعجب..”

وأحسن مما ذكر أن يُقال: أراد بالعينين رقيبيها، وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها. والمعنى: أفناهم الله وأراهم المنكرات، فهو في الظاهر يشتمها، وفي النية يشتم من يتأذى به فيها.

فخلاصة دعائه عليها أنه يدعو على غيرها لا عليها كي يصفو له الجو معها ولا حبيب يدعو على محبوبه أبدا لأنه يخشى عليه حتى من النسيم ويرجو راحته وكمال سلامته والقرب منه والحظوة به..

هذه العاطفة الجيّاشة لا تكون إلا من شعور فياض مؤلم، فالحبيب الذي لا تناله وقلبك يتحرق شوقا إليه لا سبيل لك من أن تنثر ما علق بفؤادك من مواجيد الهوى فيضج اللسان داعيا دعاء المضطر من لوعة الشوق بوصلٍ كامل يبلغ منتهاه..

ذاك فعل الحب إذا خالط قلبا غمر شغافه وتخلل روحه فلا يبقِ لغير المحبوب موضعا فيه، ويبقى الدعاء له في كل آن، بل يرجو الله أن لا يسلبه هذا الحب مع أنه يعلم أنه شقاء وعذاب، وما رأيت أحدا يدعو بدوام عذابه وشقائه غير المحبين واسمع إلى المجنون في أبياتٍ دعائية إذ لابد من الختم به كما بدأنا به فيقول:

يا رَبِّ إِنَّكَ ذو مَنٍّ وَمَغفِرَةٍ 

بَيِّت بِعافِيَةٍ لَيلَ المُحِبّينا 

الذاكِرينَ الهَوى مِن بَعدِما رَقَدوا 

الساقِطينَ عَلى الأَيدي المُكِبّينا 

يا رَبُّ لا تَسلُبَنّي حُبَّها أَبَداً 

وَيَرحَمُ اللَهُ عَبداً قالَ آمينا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال جميل ورائق يسبح بك في دروب الهوى العفيف، ويتنزه بك في نزهة المشتاقين وروضة المحبين.
    ليلى وما ليلى. وكل يبكي على ليلاه
    واهل الشوق والغرام يتفاوتون. فهم في كل واد يهيمون، والهيام الوان وفنون،
    وكان أهل المحبة الإلهية والفناء والشهود إذا سمعوا هذه الابيات
    فيا ربِّ إذ صيَّرت ليلى هي

    المُنى فزِنِّي بِعينيها كما زِنتَها ليا
    تذكروا ليلاهم وليلهم وتاولوها على ذلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى