أدبالمدونة

دوستويفسكي : وتوقع الموت

لم أخلُ من فكر في حالنا مع حتمية الموت، فرغم أننا نعلم يقينًا ألّا مفرّ لنا منه، إلا أن أحدنا يرى أنّه سيعيش أبدا! وكُلّما انقضت السنون كُلّما تمسكنا بالحياة أكثر. نحنُ أبدا لا نشعرُ باقتراب الموت، بل نراه بعيدا جدا! حتى إذا كبِرنا وابيضّ منّا ما كان أسودا واسودّ ما كان أبيضا ولم يبق من الأجل إلا قيد الوتر نظلُّ غافلين عن اقترابه، ولا ينخدعنّ أحدنا بسماع كبار السنِّ حين يقول قائلهم: إنّي قد اقترب أجلي، فوالله إنّها لأقوال ترمي بها ألسنتهم وتُكذّبها قلوبهم وأفئدتهم. هيهات هيهات أن يقولها أحدهم صادقا إلا من أفاض الله عليه شيئا من الحكمة.

فلِمَ بحقِّ فاطر السماء نحنُ على تلك الحال؟ مع أن العقل والمنطق يقولان أنّ النقيض من ذلك هو الصواب! ولا زلتُ على حيرتي تلك حتى وقعت يدي على الجواب، وكان الجواب على هيئة رجلٍ فصيح اللسان كيّس العقل نافذ البصيرة، قد بُعث بعد الموت! القلمُ الروسيّ، والمُحدِّثُ النفسيّ، النابغة دوستويفسكي! فيا لسعد البشر أن ظفروا به، ويا لشقائهم أن غفلوا عنه!

حُكم على مجموعة من الشُبّان بالموت رميًا بالنار بعد أن تبيّن للقضاء الروسيّ بأنّهم يحيكون أمرا بليل، وكان هذا الرجل واحدا من أولئك الشُبّان. بقي الفتية في السجن ينتظرون موعد موتهم ويعُدّون الساعات الفاصلة بينهم وبين فنائهم.

يرى دوستويفسكي أنّه رغم كثرة الجرائم والآثام، إلّا أنّ جريمة الحُكم بالإعدام على رجل ووضعه في زنزانته لينتظر ساعة موته لهي أشنع إثمٍ ارتكبه بشر! حتى ولو كان ذلك الرجل قاتلًا سفاحًا سفاكا للدماء، إلا أن تركه ينتظر ساعة موته ظُلمٌ وجورٌ في حقّه كإنسان! ولو أنّهم قتلوه من ساعته ولم يدعوه ينتظر إلى أجل مُسمّى، لكان خيرا له، فالعدلُ أن يُقتصّ من الجاني بقدر جنايته، وترك الرجل ينتظر موته إثمٌ يفوق كل إثمٍ وجناية!

لعلّك الآن قد علتك الحيرة فصرت تقول: وما دخل هذا بذاك، ما لك حدت عن جوهر الحديث فذكرت الإعدام بعد أن كنت تسأل عن توقع الموت؟

فاعلم أنّ الكلام يذكر بعضه بعضا، ولا يربط الكلام بالكلام إلا ما يتشاركه من خفايا. كما ترى، لم يعتبر دوستويفسكي الحكم على الرجل بالموت وتحديد أجلٍ موعود لإعدامه جناية وحشيةً إلا لكونها تمسُّ الأمل الذي يعيشُ به الإنسان ويموت بفقده، ففاقد الأمل ميتٌ وإن تنفّسَ وزفر، بل فقدُ الأمل يقينًا أشدُّ من الموت وأكبر.

وذاك الأملُ هو ما نريده بحديثنا عن السرّ وراء ما يحول بيننا وبين توقّعنا للموت. كذلك يذكر دوستويُفسكي أنّ الرجل حتى حين يُحكمُ عليه بالموت ولا يجد بُدّا من وقوعه، ولا يُبصرُ حائلا بينه وبينه، فإنّه رغم كلّ هذا يرى أن أمامه حياة طويلة يجدرُ به عيشها! حتى وإن كانت خمسُ دقائق فقط تفصله عن لحظة موته فإنّه يراها طويلة. كأنّما تختلط القوانين في رأسه فيرى الخمس دقائق كخمسين سنة! فهو نفسه -أي دوستويفسكي- حينما كان ينتظر دوره في ساحة الإعدام، ولم يكن قد بقي على دوره إلا خمس دقائق، فإنّه رأى هذه الدقائق طويلة بحيث يُمكنه تقسيمها ليُنجز فيها أمنياته؛ دقيقتان لتوديع الأهل ودقيقتان ليُفكر فيها بما سيحلّ به بعد الموت، وكان يرى هذا وقتا طويلا جدا بحيث أنّ الدقيقة الأخيرة ستأتي وقد انتهى من كل أربه وآماله ونفد صبره انتظارا للموت!

يقول في رواية الأبله مُتحدثًا عن رجل يقوم الجنود بجرّه إلى الخشبة بعد أن حُكم عليه بالموت:

«أظنُّ المرء حين يُقتادُ إلى خشبة الموت فهو يعتقد بأن هُناك حياة لا نهاية لطولها لا تزال أمامه، يُخيّلُ إليّ أنه حتما يُحادث نفسه أثناء السير قائلا: لا تزال هُناك حياةٌ طويلة أمامي، بقيت ثلاثة شوارع، ثم ذاك الشارع الذي فيه حانوت خبازٍ على اليمين، ما تزال الحياة طويلة حتى نصل إلى حانوت الخبّاز القريب من خشبة الموت»

أرأيت أيّها القارئ كيف أننا أبدا لا نرجو اقترابا للموت؟ نحنُ في غفلة وعمى شديد. هذه الخمسين سنة التي نراها طويلة هي والله بمنزلة الخمس دقائق، ولكننا نجهل ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى