أدب

زواج العم سيف

انفجر الخبر كالقنبلة في الحارة:

– (العم سيف) سوف يتزوج.. والعرس بعد أيام!

خلال ساعات قليلة صار الخبر موضوع الأحاديث في كل منازل حارة (مهدي) وتردد صداه في الحارات المجاورة، وفي كل لقاء بين رجلين أو امرأتين أو أكثر أو حتى أقل ( فقد لوحظ رجال ونساء يتحدثون مع أنفسهم وهو يسيرون في الشارع عن خبر الزواج وعن العم سيف الذي أضاع عقله في آخر عمره!)، وغلب الخبر على الأحاديث الروتينية التي ينشغل بها الزوار الدائمون في السوق الكبير؛ حيث يجلس عادة بعض من كبار السن من رجال الحارة ونسائها في حلقات بعد شراء احتياجاتهم اليومية. وانشغل الجميع بصورة غريبة في أحاديثهم في محاولة معرفة الأسباب وتفاصيل ما حدث، ومن هي المرأة سعيدة الحظ هذه التي ستكون زوجة العم سيف.. فالزواج أمر مفهوم لكن أن يكون الزوج هو (العم سيف).. و(العم سيف) بالذات فشيء يستحق أن تنشغل به الحارة وتلوكه الألسن.. وتضيف إلى الخبر تفاصيل وتأويلات لا أول لها ولا آخر حتى صار خبر الموسم.. أو على حد تعبير الحاج ثابت – بائع البيض المغرم بالتحليلات السياسية ومتابعة الإذاعات العالمية- أنه صار أكثر أهمية من أخبار القضية الفلسطينية ذاتها، ولم يتردد في الجهر؛ كعادته في تفسير الأحداث المحيرة؛ أن وراء كل ذلك مؤامرة صهيونية لصرف الانتباه عن جرائم اليهود.. وإن كان – كالعادة أيضا بعد أن يتأكد من خلو المكان من الغرباء أو يأخذ احتياطاته الأمنية كما يقول- يهمس لأصدقائه المقربين بأن كلاب الدولة هم وراء كل هذه الشوشرة لإلهاء الشعب عن حالته المعيشية البائسة التي يعاني فيها معاناة الجن والعفاريت وهم في قبضة النبي سليمان من الغلاء وارتفاع الأسعار.

❃❃❃

و(العم سيف) هذا رجل لا أحد في الحارة يعرف بقية اسمه، أو ربما تلاشت هذه البقية في لجة السنين الطويلة التي مرت عليه والناس لا يستخدمون إلا تلكما الكلمتين الشائعتين في الإشارة إليه.. ويكفي أن يقال: (العم سيف) حتى يعرف الناس في الحارة أن المقصود به هو جارهم الذي يقطن في ركن الحارة الأقصى.. وبالضبط في سفح جبل الذي يحتضن المدينة من الناحية الشرقية، وتتناثر في أسفله وحتى منتصفه عشرات المنازل الخشبية والإسمنتية الضيقة المتهالكة.. أما (العم سيف) نفسه فهو يسكن في عريش مصنوع من الأقمشة والطرابيل القديمة التي تعلو سريرا من الحبال كان هو محل منامه وجلوسه عندما لا يكون مشغولا بأداء عمله.. أما عمله فهو تأجير (القعايد) المصنوعة من الحبال لمن لا يمتلكون منازل من العمال العزاب، وزوار المدينة الذين يضطرون للبقاء فيها ولا يملكون ترف النوم في الفنادق؛ فينامون عليها في الليل الحار، أو يتخذونها محلا للقيلولة أو لمضغ القات في النهار بعد أن تختفي الشمس وراء المنازل العالية.

لم يكن لـ(العم سيف) زوجة ولا أولاد ولا أقارب يترددون عليه في أوقات مختلفة كالأعياد.. ولا أحد يعرف سنه الحقيقي، ولا متى ظهر في الحارة؟ ولا كيف امتلك هذه الثروة من (القعايد)؟ فقد نشأت أجيال في الحارة وهي لا تعرف إلا أنه جزء ثابت منها؛ يعيش ويعمل في الحيز الذي يشغله هو وأدوات عمله.. ولا يرى إلا بهيئته المألوفة وقامته المشدودة المائلة للطول، وقدميه الضخمتين الحافيتين أبدا، وثيابه التي كانت تقتصر في الحر والبرد على قطعة واحدة فقط: (إزار) يلتف حول الجزء الأوسط من جسمه حتى ركبتيه تاركا ما فوقه وما تحته عاريا مكشوفا للشمس وقد أكسبته بالشعر الذي يغطيه بكثافة حمرة نادرة.

لم تكن هناك علاقات اجتماعية تربط أهالي الحارة بـ(العم سيف) فهو بلا عائلة تسمح للعائلات في الحارة بالتواصل معها.. وعمله في تأجير القعايد لا يحتاجه جيرانه.. لكن رغم ذلك فقد كانت هناك حالة من العطف يحظى بها (العم سيف) من بعض العائلات القريبة منازلها من البقعة التي يستقر فيها بحكم التجاور، وكونه رجلا كبيرا في السن، يعيش وحيدا بلا عائلة.. لكن الأكثر أهمية كونه.. أعمى أو بصيرا كما يفضل الناس وصفه تجنبا لإيلامه هو وأمثاله! فكانت تأتيه في كثير من الأيام وجبة غذاء بسيطة مكونة من الرز وعليه شيء من إدام السمك يحملها إليه صبي من هذه الأسرة أو تلك.. وباستثناء ذلك فلا أحد من الحارة يقترب منه أو يتحادث معه إلا إن كان مارا بجواره، ويظل هو منذ الصباح يتجول في البقعة التي تتجمع فيها أدوات عمله يتفقدها ويعيد ترتيبها، ويصلح ما تخرب منها، ويحاسب زبائنه على أكمل وجه من الدقة!

ثمة شيء غامض كان يحيط بـحياة (العم سيف) هو تلك الحكايات العديدة عن ثروته.. وعن المكان السري الذي يخفي فيه كنز القعايد! وقد انشغل كثيرون: رجالا ونساء في تقصي حقيقة تلك الحكايات عن الأموال المكدسة التي يمتلكها، وعن كيفية ومكان إخفائها، مستدلين على صحة كلامهم بأن الرجل يعيش وحيدا، ويعمل منذ عشرات السنين ولا بد أنه قد جمع أموالا طائلة من تجارته تلك، ومن إيجار الكوخ الخشبي ذي الغرفة الواحدة الذي يؤجره مفضلا أن يقضي حياته في العريشة، وخاصة أنه لا يكاد ينفق شيئا فحتى القات يحصل عليه هدية من بعض الذين يستأجرون منه القعائد للقيلولة عليها. وقد بلغ الهوس ببعض المسكونين بهاجس كنز العم سيف أنهم كان يستجوبون أحيانا الصبيان الذين يترددون عليه حول ما رأوه عند دخولهم إلى (العريشة) التي ينام داخلها.. وهل لفت نظرهم وجود صندوق أو حقيبة أو شيء ما مكور يمكن أن يكون مخزنا أو مخبأ! وأقسم بعضهم أن رجالا ممن ناموا عنده شاهدوا في ساعة متأخرة من الليل شبحه وهو يتجول بين القعايد، وينحني في مكان ما ويظل مختفيا فترة طويلة فسروها بأنها عملية تفقد للكنز أو تغيير لمكانه من باب الحذر خشية أن يكون قد انكشف!

رغم كل تلك الأقاويل إلا أن الحالة البائسة التي كان تطبع حياة العم سيف وهيئته كانت تصرف تلك الحكايات أن تصل إلى مرحلة اليقين، وتجد من الجيران حسني النية كما يوصفون من ينكرها بشدة ويسفه العقول التي تقبل مثل هذه الفكرة المستحيلة مذكرين أن (الرجل) بلغ سنا كبيرا من عمره فلمن يوفر الأموال المزعومة؟ ومتى سيستفيد منها، وينعم بها إن لم يفعل ذلك قبل أن يموت؟ وقد وجد هؤلاء تأكيدا على كلامهم يوما ما عندما أصيب (العم سيف) بمرض جلدي خطير، ورقد على الفراش أياما عديدة في غيبوبة متواصلة.. ولولا نفر من أهالي الحارة؛ من حسني النية؛ أسهموا في الاعتناء به وتوفير العلاج لكان يمكن أن تستيقظ الحارة يوما على خبر وفاته!

وبقدر ما كان مرض (العم سيف) يومها مضعفا لحكايات الكنز الذي يخبئه في مكان ما.. بقدر ما كان نقلة جديدة في حياته وإن كان الناس لم يفهموا دلالتها إلا عندما انفجر خبر الزواج؛ فعندما تردد عليه أيام مرضه ذلك النفر من أهل الحارة؛ لاحظ هؤلاء أن هنالك شابين متشابهين في الصورة كأنهما تواءمان متوسطي العمر جاءا ومعهما طبيب لمعالجة (العم سيف)، وظلا يترددان يوميا للاطمئنان عليه والعناية به، ومعالجة جلده المتقيح بجسارة ملفتة للنظر.. وكانا أيضا يحضران معهما بعض الطعام والفاكهة المتوفرة في السوق ويحاولان إطعامه، ويقضيان عنده وقتا أطول من الآخرين، وفي الليل ينام أحدهما معه بالتناوب.. لكن حالما أوشك (العم سيف) على البرء من مرضه الخطير، وقبل أن يستفيق من الغيبوبة انقطع الرجلان عن الحضور، وظنّ الجيران أنهما فاعلا خير من زبائنه أو معارفه الأبعدين أشفقا على الرجل الأعمى عندما علما بمرضه فقاما بأداء الواجب الإنساني معه.. لكن في أحد الأيام التي تلت إعلان خبر زواج (العم سيف)؛ وسبقت يوم العرس؛ لوحظ أن الشابين ظهرا فجأة، وزارا (العم سيف) أكثر من مرة بصحبة الحاج (حمود) صاحب المغسلة القديمة في الحارة والصديق الوحيد للعم (سيف)، وقضوا معه وقتا طويلا في العريشة التي يعيش فيها، وفي يوم قريب من يوم العرس لاحظ الجيران أن المستأجر للكوخ الخشبي الصغير المملوك للعم (سيف) غادر مسكنه نهائيا حاملا عفشه البسيط، وبعدها بساعات وصل الشابين بسيارة صغيرة كانت تحمل منافع منزلية متنوعة، وحقيبة كبيرة أدخلاها الكوخ.. ومن خلال الأطفال الذين تجمعوا حول السيارة عرف أهل الحارة أن الكوخ سوف يصير عش الزوجية للعم (سيف) وزوجته؛ فقد بدا أنه من غير المعقول أن يعيش مع زوجته بعد الآن في العريشة المكشوفة، وعرفوا أيضا أن هذه الأغراض خاصة بالمرأة التي ستصير زوجته، وأن هذين الشابين هما ابنا المرأة التي سوف تصير زوجة (العم سيف)!

❃❃❃

العم سيف2 زواج العم سيف

وعلى سنة: الخبر سوق تأتي به الورّادة؛ التي طمأنت بها الحاجة (زهرة) أهل الحارة بأنهم سيعرفون الحقيقة عاجلا أو آجلا وراء حكاية زواج العم سيف؛ تكشفت تفاصيل الحكاية، وعرف الناس كيف ولماذا قرر (العم سيف) الزواج ورجله على حافة القبر.. وكان الفضل في كشف الحكاية – أو الفيلم الهندي كما وصفه بعض الشبان المعروفين بصعلكتهم في الحارة- يعود للحاج (حمود) صاحب المغسلة الذي كان له دور أساسي فيما حدث، ولوحظ تردده عدة مرات على عريشة (العم سيف) قبل انفجار الخبر وحتى يوم الزفاف الميمون، واستحق بذلك أن يصفه الحاج (ثابت) بائع البيض بعد أن شاع خبر دوره في إتمام الزواج الغريب بأنه: كيسنجر الحارة، فهو الذي وفق بين (العم سيف) والمرأة كما وفق الداهية الأمريكي بين العرب واليهود!

والحكاية كما رواها الحاج (حمود) لشلة عجائز الحارة؛ الذين يتحلقون يوميا بجوار عمود الكهرباء للسمر وتبادل الأخبار المحلية والدولية؛ أنه لما رأى (العم سيف) في حالة مرضه الخطير على وشك الموت ذهب إلى (الشيخ عثمان) وأخبر ولديه ومطلقته بالخبر!

وقبل أن يكمل كلامه صرخ أكثر من واحد:

– طليقته؟ نعم.. نعم يا طليقته!

– أولاده؟ آه.. قصدك الورثة الذين سيرثون الكنز؟

– وهؤلاء أين كانوا طوال هذه السنين؟ لماذا لم نرهم يوما ما إلا يوم كاد يموت فجاءوا على عجل ليروا كم سيرثون من (بابا سيف)؟

– يبدو أنك تخطط يا حاج (حمود) لشيء ما.. الآن ستجعلنا نؤمن بحكاية الكنز المدفون!

قابل الحاج (حمود) تلك التساؤلات والاتهامات والنظرات المرتابة فيه بهدوء من كان يتوقعها مسبقا.. وترك جيرانه يحترقون قليلا في دهشتهم الغضوبة حتى أسكتهم العجز، وألجمتهم الحيرة عن الاستمرار في الكلام، ثم قال لهم بنبرة متحدية مثيرا حاسة الفضول عندهم:

– إن أردتم أن تعرفوا الحكاية فافتحوا آذانكم.. وإن كنتم فقط تبحثون عن أفلام مغامرات فالسلام عليكم!

وتنفيذا لتهديده بمغادرة المجلس تظاهر بالقيام من كرسيه قبل أن يعترضه الحاج (ثابت) وهو يقول بتوسل ضاحك:

– يا راجل خليك ديمقراطي وتقبل آراء المعارضة.. (ثم وهو يغمز بإحدى عينيه للجالسين بجانبه) وإلا ما الفرق بينك وبين الذين لا يتسمون؟

وعلى الفور عاد الحاج (حمود) ليقعد على كرسيه وهو يبتسم؛ بعد أن رأى صديقه الحاج (ثابت) يمسح بيده بطريقة فكاهية الكرسي ليغريه بالعودة واستكمال الحكاية!

وعندما اطمأن الحاج (حمود) إلى أنه امتلك زمام الموقف، وسكت الجميع متظاهرين بالغضب في الوقت الذي كانت بواطنهم تتشوق لمعرفة أصل الحكاية التي شغلتهم أياما عجافا، وجعلت مجموعة الرجال والنساء الموصوفين في الحارة بأنهم وكالات الأنباء الخاصة بها يكادون يجنون وهم يرون عجزهم عن معرفة ما وراء الخبر العجيب.. عندها بدأ الرجل يسرد الحكاية وهو مطمئن أنه سيكون حديث المجالس والبيوت في الحارة طوال الأيام القادمة:

– الحكاية كلها خير يا جماعة، ولا فيها كنوز ولا فلوس! تتذكرون يوم مرض (العم سيف) فجأة مرضه الخطير حتى كدنا نتوقع سماع خبر موته في أي ساعة؛ يومها لم أستطع الصبر وذهبت إلى البلدة المجاورة حيت تسكن عائلة (العم سيف)، وأبلغتهم الخبر، وطلبت من ولديه أن يقوما بالواجب الأخير مع أبيهما وتناسي الماضي والخلافات!

طبعا أنتم لا تعرفون ما لدي من علوم وأخبار عن (العم سيف) في هذه المسالة.. فأنا الوحيد الذي أعرف كل شيء عنه؛ بحكم كوني صديقه الوحيد في الحارة، وابن قريته، وأعرف حكايته مع أولاده ومطلقته التي هي أيضا من قريتنا.. وقبل أن أبدأ في التفاصيل أصحح لكم هذه المعلومات: هذان الشابان -وهما تواءمان كما لاحظتم بالتأكيد- ليسا ابنيه.. والمرأة ليست أمهما.. (عبد الحكيم) و(عبد السلام) -وهذان اسماهما- هما حفيدا (العم سيف) من ابنته الوحيدة المرحومة التي ماتت في ظروف غامضة هي وزوجها في القرية بعد عامين أو أربعة أعوام من زواجهما، وكان أبوها معارضا لزواجها من ابن خالتها مفضلا ابن أخيه؛ لكن الأم أصرت على تزويجها من ابن أختها ولو انطبقت السماء على الأرض مبررة موقفها من خشيتها أن يكون أولاد بنتها عميان مثل والد أمهم وشقيقه الذي كان أعمى هو الآخر.. فغضب (العم سيف) وعد كلامها إهانة جارحة لن يمحوها الدهر، ونفض يديه من الأسرة كلها، وقطع علاقته بزوجته بالطلاق، ولما ماتت البنت وزوجها احتضنت الجدة حفيديها التوءمين اللذين كانا سليمين بحمد الله، وجاءت بهما إلى المدينة ليكونا تحت رعاية جدهما لكنه استمر رافضا الاعتراف بهما، فاتخذت الجدة المسكينة سكنا لها في البلدة المجاورة، وعملت في خدمة العائلات والبيوت حتى تتمكن من تربية حفيديها!

– وظل (العم سيف) مقاطعا لهم طوال هذه السنين.. يا لقسوة قلبه.. ونحن الذين كنا نرحم حالته، ونظنه مسكينا يستحق الرحمة!

قاطعه أحد الحاضرين الذين كانوا يستمعون للحكاية بأنفاس مبهورة.

واستطرد الحاج (حمود) في الحديث بعد أن عاتب المتكلم بنظرة حادة:

العم سيف3 زواج العم سيف

– هذا جزء قديم من الحكاية.. لكنني سعيت منذ زمن طويل؛ وبالضبط يوم ذهبنا معا كما تعلمون للحج؛ حتى أقنعت (العم سيف) أن يسهم في بعض نفقات تربية الولدين، والحق أنه استجاب سريعا ربما بتأثير مناسك الحج.. المهم استمر الحال كما هو: (العم سيف) هنا مع القعايد.. وحفيداه مع جدتهما هناك والعلاقة بينهم مقطوعة رسميا، وظللت أنا الوسيلة الوحيدة للتواصل بينهم.. لكن الولدين جاءا عدة مرات عندما كانا في بداية الشباب ليريا جدهما من بعيد، وفي المرة الأخيرة جازفت وأخذتهما إلى حيث كان يجلس في العريشة، وقدمتهما له على أنهما من القادمين من القرية فصافحهما وقبلا يديه ورأسه وهما يبكيان بصمت، وكانت المرة الأولى التي يمسان فيها جدهما الذي سألهما عن شقيقه الأعمى، وكان المسكينان لا يعلمان شيئا عنه لكنني أشرت إليهما بما يفيد أنه قد مات منذ زمن فأخبراه فأبدى تألمه عليه وعلى ابنه الذي كان يتمنى أن يزوجه ابنته لكن الحرمة التعيسة والبنت العاصية رفضتا وجرتا البلاء على العائلة كلها! وحينها تبادلنا النظرات المرتبكة أنا والفتيان فقد كانا يعرفان هذا الجزء من الحكاية الحزينة فأسرعت بالانصراف، ودفعت الشابين أمامي لكيلا يحدث ما لا يحمد عقباه، وغادرنا العريشة وهما يكادان يبكيان من الحزن والقهر معا، ولم يعودا بعد ذلك لزيارته إلا في مرضه الأخير.

واستمر الحاج (حمود) في سرد حكاية (العم سيف) وحفيديه:

– ورغم العناد إلا أن (سيف) كان يسألني في بعض الأحيان عن حفيديه، والمرة الوحيدة التي ابتسم فيها كانت يوم أخبرته عن نجاحهما في الدراسة وحصولهما على عمل مع أحد التجار.. لكنه رغم ذلك قرر قطع المساعدة التي كان يمنحها لهما، وهما تفهما الأمر في الحقيقة، وعندما تزوجا حاول مساعدتهما لكنهما رفضا بإصرار أخذ أي مال منه!

وأخيرا.. وعندما مرض (سيف) جاء الشابان بعد أن كبرا وصار لكل منهما عائلة وأولاد، وأديا الواجب تجاه جدهما كما تعلمون، لكن الذي لا تعلمونه أنهما قررا حينها أن يعيدا أواصر العلاقة الزوجية بين جدهما وجدتهما بعد أن رأيا حالته المأساوية أثناء مرضه وحاجته لمن يرعاه في حالته المعروفة وسنه الكبيرة.. وتفاهمنا مع بعضنا أن أتكفل بإقناع جدهما ويقومان هما بإقناع جدتهما، واستخدمنا بعض الأكاذيب الصغيرة في تحقيق هدفنا فأوهمنا كل طرف أن الطرف الآخر ندم على ما بدر منه قديما، ويتمنى لو عادت الأمور إلى مجاريها.. والحمد لله تسهلت الأمور، وحدث ما حدث، وبعد أيام سوف يتم الزفاف السعيد، ويعيشان في تبات ونبات.. وهذه نهاية الحكاية يا أهل الحارة الطيبين!

ساد السكون ركن الحارة بعد انتهاء الحاج حمود من سرد حكاية العم سيف.. وقبل أن يغادرهم سأله أبو فضل:

– باقي شيء لا بد أن نعرفه عن (العم سيف) طالما أنك بدأت الحكاية.. أقصد الكنز!

ابتسم الحاج حمود وهو يرد على جاره:

– أما هذه فلا أعرف عنها شيئا.. ولو استطاعت زوجته أن تعرف فسوف نعرف كلنا حينها؛ فكل شيء سيظهر للعيون فلا تستعجلوا.. فلعل وعسى!

❃❃❃

حل يوم الزفاف، وأسهمت بعض نساء الحارة من الجيران القريبين في تجهيز الكوخ الخشبي ببعض الزينة والأدوات الضرورية، وشوهد (العم سيف) للمرة الأولى في تاريخ الحارة يوم الزفاف وهو يلبس قميصا جديدا، وعمامة جميلة على رأسه، وينتعل صندلا يناسب قدميه الكبيرتين، وانتقل للعيش في الكوخ مع زوجته، وإن ظل يقضي معظم ساعات اليوم في العريشة؛ وحتى الطعام كانت تأتي به زوجته إليه حيث هو.

ونسيت الناس حكاية زواج (العم سيف) والكنز مع مرور الأيام، وماتت الزوجة قبله، ولم يطل بقاؤه بعدها فقد لحقها بشهور، وجاء حفيداه وباعا ممتلكاته كلها.. ولم يعودا للظهور بعد ذلك ما عدا مرة واحدة جاءا فيها بصحبة أولادهما. ونسيهما الناس في زحمة الأيام والحكايات اليومية التي لا تنتهي.. لكن في بعض الليالي المظلمة كان أهل الحارة يسمعون أصوات حفر تصدر من البقعة التي كان كانت محلا لعريشة (العم سيف) وما حولها، وفي الصباح كانوا يرون حفرا هنا وهناك، ولم يكن عسيرا تفسير ذلك؛ فقد كان بعض الحالمين بالعثور على الكنز يستفزهم الأمل في العثور عليه فينتهزون فرصة الظلام ويجربون حظهم.. لعل وعسى!

وعندما اشترى أحد المغتربين الأرضية لبناء بيت عليها؛ تجمع أهل الحارة يوم جاء العمال ومعهم جرافة لحفر الأساس، وحبس الناس أنفاسهم ظانين أن ساعة كشف لغز كنز (العم سيف) قد حانت.. لكن لم يظهر شيء، واكتمل البناء عاليا ودفن معه حكاية الكنز إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى