هنالك كتابان يحويان في عنوانيهما كلمة (ساعات)، الأول لشتيفان تشفايغ (ت: 1942): (ساعات القدر في تاريخ البشرية)، والثاني لعبَّاس العقاد (ت: 1964): (ساعات بين الكتب). وحقيقة إذا أردت الجمع بين العنوانين على المستوى الشَّخصي قلت: (ساعات قدري بين الكتب)، لأنَّ الكتب هي المحطات التي شكلت قدري ورسمته، وهي التي أمدتني بعصارة السَّعادة اللذيذة التي كانت تجتاحني بكلي، حتى تصل لنقيّ عظامي.
وحتى هذه اللحظة كلما أردتُ استعادة لحظات الوجد الأرقى والأنقى استذكرتُ شعوري في مَيْعَة صباي وأنا أشتري كتابًا، أو أقرأ مقالة، بدءًا من الصَّف الرابع حتى الصَّف السَّادس الابتدائي أيَّام السِّيَر الشَعبية: (سيرة عنتر بن شداد، سيرة بني هلال، تغريبة بني هلال، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة الزير سالم، ألف ليلة وليلة)، والكونت ديمونت كريستو، وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني.
في الصَّف الرابع الابتدائي وقعت على نسخة ألف ليلة وليلة في المكتبة الصغيرة في بيت خالي هلال رحمه الله. وما إن بدأت بقراءتها حتى أمسكت بتلابيبي فلم تتركني. كنت في كل يوم جمعة أزور ذلك البيت في حي تشرين، وأُهرع إلى المكتبة لأستأنف القراءة. كنت أسألهم: ألا تريدون أن أحضر لكم الخبز من الفرن؟ فيقولون: نريد. ثمَّ يعطيني خالي ثمن ربطتي خبز. وفوق ذلك خرجية مجزية. فآخذ معي نسخة ألف ليلة وليلة وأقرأ فيها وأنا أمشي في طريقي إلى الفرن. وعندما أصل إليه أُسرّ وأُسعد بوجود سلسلة طويلة من البشر، لأن الانتظار في الدور سيتيح لي فرصة أطول للقراءة. وفي المرحلة الثانوية سأقرأ في أحد كتب الشَّيخ علي الطنطاوي (ت: 1999) رحمه الله: أنَّ ألف ليلة وليلة أسرته وهو في الصَّف الرابع الابتدائي أيضًا! ويومها لم يستطع مفارقة الكتاب إلى أن انتهى منه. وكان إذا طلب أهله منه أن يجلب شيئًا من السُّوق ذهب حاملًا الكتاب يقرأ فيه لا يحيد بنظره عنه! وكان النَّاس الذين يرونه يقولون: ما شاء الله! ابن الشيخ الطنطاوي لا يترك قراءة القرآن حتى وهو يمشي في السوق.
وفي الصف السادس وقع في يدي كتاب (الاختيار لتعليل المختار) في الفقه الحنفي، فراعتني غرابة الألفاظ والموضوعات، وأبهرتني متانة سبكها، فقررت الدخول إلى الثانوية الشَّرعية حتى أدرس هذا الكتاب بالتَّحديد، غير أنَّ الوالدة المفجوعة بابني أختيها المساقين إلى سجن تدمر، (والمقتولين هناك فيما بعد) رفضت هذا الانتقال، لأنَّ الثانوية الشرعية، في تلك الآونة، كانت تُعد إحدى معاقل الإخوان المسلمين. فدخلت الإعدادية العامَّة وكانت أيامها أيام التسكع أمام واجهات مكتبات (العبّارة) و(الجميلية). حفظت أسماء جميع الكتب المرصوفة في واجهاتها، وفي إحدى المرات نالني التَّعب من كثرة وقوفي أمامها، فدلفت إلى أقرب سينما، وكانت الكندي، واشتريت بطاقة، ثم دخلت ونمت في مقعدي مدة ساعة، ثم خرجت وأكملت سياحتي.
كان الصَّف السَّابع والثامن، بمعية الأستاذ الرائع أحمد يحيى بوادقجي، هما صفي اكتشاف مصطلح (الصورة الأدبية)، وكانت أيامهما أيام بداية تذوق الصور الأدبية، التي ابتدأت مع كتب: الإنشاء السَّهل، وتيسير الإنشاء، وتطورت مع نصوص ميخائيل نعيمة وغسان كنفاني، وعبد القادر المازني، وقصائد ابن الرومي. وكانت أيام (تاريخ الأدب العربي) لحنا الفاخوري، وأحمد حسن الزيات، وأيام (الأيام) لطه حسين، وأيام أحمد أمين في فجره وضحاه، وأيام مقدمة ابن خلدون، وآه من صعوبتها ولذة قراءتها في الآن ذاته في تلك السن!! وقصص القرآن، وقصص العرب لأحمد جاد المولى، وشرحي البستاني والبرقوقي لديوان المتنبي.
وفي الصف التاسع، وبمعية الأستاذ المميز حسن حسين، كان لكتاب (البرهان المؤيد) للسيد أحمد الرفاعي الأثر الحاسم في رسم المصير، فقررت الالتحاق، مرة أخرى، بالمدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية)، وفي هذه المرة عارضت الوالدة أيضًا، غير أن شكيمتي فاقت معارضتها مع مساندة خالي هلال قسطلي رحمه الله، الذي قال لأمي كلمة واحدة جعلها توافق: (غدًا سيمسك بيدك ويدخلك الجنة شفيعًا لك)، أما جدي أديب ناشر النعم، فبارك هذا الالتحاق، وقال يومها: إنَّ عائلة ناشر النعم لا يوجد فيها شيخ، وأنني بذلك أسد ثغرة في هذه العائلة، وأضاف: والآن ينقصنا فقط في العائلة ضابط في الجيش.
وفي الثانوية الشرعية (الخسروية) وجدتُ جنتي. كان أساتذتها خيرة الأساتذة، وعلى رأسهم أساتذة أساتذتنا: العلامة الفقيه الحنفي محمد الملاح (ت:1408هـ)، والفقيه الشَّافعي محمَّد عبد المحسن حداد (ت: 1416هـ)، وأستاذ العقيدة الشَّيخ زين العابدين جَذْبَة (ت: 2005)، رحمهم الله جميعًا.
أما مكتبتها فكانت تضم حوالي ثلاثة آلاف عنوان، تشمل جميع المعارف الإسلامية، وكان الشيخ عمر مارتيني قد أوقف مكتبته النادرة لصالح الخسروية، وكانت كلها من نوادر مطبوعات الآستانة وبولاق، وفيها معظم المتون والشروح والحواشي في معظم العلوم الإسلامية.
لعل من أكثر الساعات بهجة وسعادة في حياتي، وأنا في الصف الحادي عشر، يوم اشتريت من مكتبة عبد الغني مقيد مقابل جامع القرناصية قبل عوجة السجن الكتاب الذي سيغدو سميري، إلى حد الاستظهار، على مدار السنوات اللاحقة! أعني: (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) للمؤلف التركي حاجي خليفة، بمجلداته الستة الضخام بمبلغ 500 ل.س، وهذا الكتاب هو قائمة ببليوغرافية ألفبائية بأسماء الكتب في الحضارة العربية الإسلامية إلى زمن المؤلف الذي توفي في 1657م.
كان حاجي خليفة يورد اسم الكتاب، ثمَّ اسم مؤلفه، ويتحدث عن أهمية الكتاب، وعن شروحه ومختصراته إن وجدت، وفي أثناء ذلك كان يورد من المعلومات والفوائد والعبارات والإشارات ما لا تجده مجموعًا في كتاب آخر. ويقال بأنه رصد حوالي عشرين ألف عنوان في كتابه.
على مدار أسبوع، من شرائي للكتاب، كنت كلما قابلت شخصًا أظنُّ أنه يهتم بالثقافة أخبره أنني اشتريت (كشف الظنون)، أقول ذلك وأنا أطير فرحًا وجذلًا، وأستغرب لماذا لا يقوم ويرقص كما كان يرقص أنطوني كوين في فيلم زوربا! فالكون كله كان يرقص معي في تلك اللحظات.
كنتُ أقرأ عن هذه الكتب في كشف الظنون ثم أبحث عنها في مكتبة الخسروية وأتعرفها وأطالع فيها، وعلى مدار ثلاث سنوات استظهرت عناوين هذه الكتب كلها، وعرفت مكان كل كتاب وفي أي رف يتربع.
أما الكتاب الثاني الذي اشتريته في تلك الفترة وحاز منزلة تعادل منزلة كشف الظنون فهو كتاب (الكليات). لأبي البقاء الكَفَوي، المتوفى سنة 1093 هـ/ 1682م، وهو فقيه حنفي عثماني يُنسب إلى مدينة تقع في أوكرانيا اليوم، وكانت وزارة الثقافة السورية طبعته بتحقيق عدنان درويش ومحمد المصري في خمسة مجلدات، فاشتريته، وطلبتُ من المجلد (أبو زكور) رحمه الله، وكان يجلد الكتب في داره العربية قرب جامع إبراهيم الخليل في طريق الباب، أن يجمعها لي في مجلدٍ واحد، وفعلًا جلّدها جميعًا فأصبحت مجلدًا ضخمًا، وكنت أضعه أمامي على الطاولة وأداوم على التقليب في صفحاته قراءةً وتعليقًا. وهذا الكتاب معجم فريد لمصطلحات الفلسفة، وعلم الكلام، والمنطق، وأصول الحديث، وأصول الفقه، والفقه الحنفي، والنَّحو والصرف، والبلاغة والعروض، ولعلي هنا أشير إشارة إلى فائدة المداومة على قراءة هذا الكتاب/الموسوعة، فهي تجعلك مأنوس الذهن بالمصطلحات التي ستصادفك لدى إبحارك في كتب التراث على اختلاف صنوفها، وهذا ما يسهّل عليك الفهم من أقرب الطرق وأيسرها.
ولعلي يحسن بي هنا أن أذكر أنموذجًا من علاقاتنا مع أصحاب المكتبات التي كنّا نشتري منها كتبنا، فقد اشتريت سنة ١٩٨٥ كتاب (إحياء علوم الدين) من مكتبة دار الفلاح في شارع أغيور، وكنت في الصف العاشر، وكان الشيخ محمد علي إدلبي الموجّه في المدرسة الشعبانية قد افتتحها سنة ١٩٨٤، بهدف نشر كتب شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين (ت: 2002) رحمه الله.
وبعد فترة اكتشفت طبعات أخرى لكتاب (الإحياء) أجمل من الطبعة التي اشتريتها، فحملت النسخة إلى المكتبة وقلت للشيخ: أريد إرجاع هذه النسخة. فسألني عن السبب فأخبرته أنني اكتشفت طبعات أخرى أحسن.
أخذ الكتاب مني وهو يبتسم ثم سألني:
ــ في أي مدرسة تدرس؟
أجبته: في الخسروية.
فقال لي: إذن أنت طالب علم. فهززت له برأسي، وقد ارتسمت ابتسامة افتخار عريضة. عريضة جدًا على وجهي.
وعندها قال لي: إذن يجب أن ندعمك. أنت من الآن فصاعدًا زبون مدلل، ويجب أن تكوّن مكتبة تليق بطالب العلم. ويجب أن تحسن اختيار كتبك. وبإمكانك أن تشتري أي كتاب مهما غلا وتدفع ثمنه بالتقسيط المريح.
ثمَّ سألني: هل في مكتبتك (المعجم الوسيط)؟
قلت: لا.
فقال لي: لا يجوز أن تخلو مكتبة طالب العلم من المعجم الوسيط. وأخرج لي نسخة وقال لي: يجب أن تشتري هذه النسخة. فاشتريتها.
ولم أفوّت فرصة عرض اقتناء الكتب بالتقسيط، فأشرت إلى كتاب (البناية في شرح الهداية) لبدر الدين العيني، وكان في عشرة مجلدات ضخام، فقلت له: ما رأيك بهذا الكتاب؟
أجابني: إذا كنت حنفيًّا فهو ممتاز.
فأجبته: أنا حنفي. سآخذه وأدفع ثمنه بالتقسيط.
فتبسم ووضعه في علبة، ودفعت ثمنه بالتقسيط. التقسيط المريح جدًا.
وتأثرًا بالشيخ عبد الله سراج الدين، رحمه الله، قررت أن أكون محدثًا، فبدأت تمتلئ مكتبتي بكتب الحديث الشَّريف، وبكتب مصطلحه ورجاله، وخلال سنتين قرأت كل ما يمكن تخيله من كتب المصطلح، وحفظت المنظومات: (البيقونية)، و(غرامي صحيح)، وأجزاء من ألفية السيوطي، وألفية العراقي. وكانت تحقيقات كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (ت: 1997) وبخاصة لكتب الشيخ عبد الحي اللكنوي (ت: 1886) تذوبُ حلاوتها في عقلي كما تذوب قطعة النوكا بالفستق الحلبي في فم من يحبها، ومما كان يميّز الشيخ اللكنوي إضافةً إلى تحريراته وتدقيقاته وغنى معلوماته أنه كان يتعمد مخالفة السائد في تسمية تبويب كتبه، فكان يتفنن في بعض كتبه فيبنيها على المقامات بدلاً من الأبواب، فيقول: المقام الأول. المقام الثاني. المقام الثالث، أو يقول في كتاب آخر: المرصد الأول. المرصد الثاني. المرصد الثالث، وحتى في العناوين الفرعية يختار ألفاظًا مختلفة، ففي العادة يستخدم العلماء للانتقال عنوانًا تحت مسمى: (فائدة)، أو (تنبيه)، أما اللكنوي فكان يستخدم كلمة (إيقاظ)، وكنت أعدّ مثل هذه الحركات نوعًا من المناغشات التي يناغش بها المؤلف قرّاءه. ورحم الله هذا العلاّمة الذي توفي في التاسعة والثلاثين، تاركاً أكثر من مئة عمل ما بين كتاب ورسالة.
وكان شاعراي المفضلان الرواس وأبو الهدى الصيادي، وكانت جميع دواوينهما موجودة في المكتبة، وكانت معظم أناشيد المنشدين في الزوايا وفي الأعراس من نظمهما، وهكذا كان اللحن الجميل ذي الديباجة المتينة يدعم الكلمات الرائقة، وكانت الكلمات الرائقة تدعم اللحن الجميل، وفي سنة ١٩٨٦ اشتريت من مكتبة الشيخ عمر زيتوني طبعة عثمانية حجرية من كتاب نتائج الأفكار شرح العوامل للبركوي، ووجدت على الصفحة الأولى العبارة التالية التي كتبها أحد متملكي الكتاب: “الاشتغال بالنَّحو بداية الحياة” ، ولا أدري لماذا دهمني يومها ولع غريب بعلم النَّحو، فاقتينت وقرأت معظم كتب ابن هشام، وابن الحاجب مع شروحها وحواشيها (الكافية، والشافية)، وكان شرح (المفصل) لابن يعيش سميري ورفيقي، وكم كانت تروق لي كتب الدكتور قباوة وتحقيقاته سواء في النحو أو الصرف ناهيك عن شروح (الأجرومية)، والشروح العثمانية الكثيرة لكتاب (العوامل) للبركوي، وكانت مكتبة الثانوية تضم جميع كتب الشيخ خالد الأزهري في علوم العربية، وكنت شديد التعاطف مع هذا العالم، لأنه كان خادمًا في الجامع الأزهر يتولى إشعال السرج، وعندما تعرض لإهانة من أحد الطلبة قرَّرَ أن يترك ما هو فيه وأن يلتحق بطلب العلم، وخلال فترة وجيزة برع وتفوق وغدا مؤلفًا، والآن اندثرت كتبه، ولم يعد لها من ذكر! ربما لأنها كانت مجرد كتب تعليمية تفتقر للابتكار، وفي هذا الجو المتشبع من كتب الأقدمين قرأت كتاب (تجديد النَّحو) لإبراهيم مصطفى، فأنكرتُ عليه دعواه، ولم أتذوقها، وأنكرت على طه حسين تقديمه وتقريظه، وكانت نسخة الخسروية مليئة بهوامش ردودي وتفنيداتي، وفي تلك الفترة كانت تتجاذبني تيارات متوترة، فمحبتي للتصوف أوقعتني في حبائل (مقالات) الكوثري التي استظهرتها بكل ما فيها من ردود على التيار السلفي، غير أنها في الوقت ذاته كانت ترسخ اتجاهًا محافظًا يدعو للتمذهب بمذهب فقهي محدد، وفي المقابل عرفتني محبتي لمصطلح الحديث على شخصيتين إصلاحيتين امتلكتا العلم والحجة: الشَّيخ طاهر الجزائري (ت: 1920) صاحب (توجيه النظر إلى أصول الأثر)، وجمال الدين القاسمي (ت: 1914) صاحب (قواعد التحديث)، فقد كانا رائدي الاتجاه الإصلاحي الديني في بلاد الشام، وكان لهما دور مهم في تحريك ما جمد وخمد وهمد.
وعندما كنت طالب بكالوريا سنة ١٩٨٧ حُبِّبَ إليّ شراء مطبوعات مجمع اللغة العربية في دمشق، وفي تلك السَّنَّة طبع المجمع كتاب (الأشباه والنَّظائر) في النَّحو للإمام السُّيوطي، فاشتريت مجلداته الأربعة، وانهمكت في قراءتها والاستمتاع بكل ما فيها. وكان السيوطي ينقل في بعض الأحيان فصولًا كاملة من كتب سابقة مشيرًا إلى اسم الكتاب واسم مؤلفه، وكان من جملة تلك الفصول الفصل المنقول من (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري. وكان المعري يعالج مشكلات صرفية في تلك الرسالة بلغته الغريبة التي تحتار معها! فلا هو يتكلم كما يتكلم الصرفيون، ولا هو يسرد كما يسرد الأدباء.
ثم راحت أيام وجاءت أيام وقرأت عند شيخ المستشرقين الروس العلاّمة كراتشكوفسكي كيف أنه اكتشف مخطوطة (رسالة الملائكة) مصادفة في مكتبة الأزهر، فطبعها كاملة لأول مرة، وعُدّ ذلك من اكتشافاته.
استرعت هذه الرسالة اهتمامه، على الرغم من كونها مجرد رسالة نحوية، لأنه كان قد ورث الاهتمام بالمعري عن أستاذه روزن. ولكن عندما بدأ يدقق فيها اكتشف ما يميّزها! حيث رأى أنّه “لو كان عند العرب فهرس للكتب الممنوعة والمحرّمة لاحتلت فيه هذه الرساله مكانًا مرموقًا. ففي الظاهر كانت الرسالة تتحدث عن موضوعات نحوية وصرفية، وتتكلم عن الصور الإعرابية المختلفة لأسماء الملائكة مصحوبة باقتباسات من القرآن والشعر وأقوال بعض أهل الأدب، إلا أن هذا لم يكن سوى غطاء الرسالة والشكل الخارجي لهـا. أما ما تحت هذا الغطاء فسخرية دقيقة يصعب فهمها على من لا يعرف آفاق أبي العلاء الأدبية، ومن لا يعرف أسلوبه في بناء مؤلفاته. وأبو العلاء يتمتع بمهارة فائقة في أن يلبس الجملة قناعًا يخفى وراءه فكره الجريء عن أنظار من لا يعرفون جوهر الأمر. أما في الحقيقة فإنَّ الرسالة التي تبدو من الخارج رسالة نحوية تقليدية، تخفي وراءها هجاء لاذعًا وسخرية فكرية شديدة، من فهم بعض المسلمين لحقيقة الملائكة، وهذه الطريقة الساخرة لأبي العلاء هي نفسها طريقته في رسالته المشهورة، (رسالة الغفران)، حيث تجده بسخريته اللاذعة نفسها يتهكم بالوصف التقليدي القديم للحياة بعد الموت”.
وفي تلك السنة درّسنا الفلسفة وعلم أصول الفقه الدكتور محمود عكام، وكانت جاذبيته وألمعيته لا تضاهى، فبدأت أميل لدراسة المنطق والأصول، وبدأت يومها باستقصاء كتب الأصول والمنطق، والقراءة فيها، واشتريت كتاب (المعجم الفلسفي) في مجلدين ضخمين للعلّامة جميل صليبا (ت: 1976)، وداومت على قراءته لأستأنس بمصطلحات المنطق والفلسفة أيضًا، وكان من مميزات هذا المعجم أنه في أثناء شرحه للمصطلح يورد استعمالاته كما وردت في كتب التراث الفلسفية أو المنطقية، وبذلك يقوم بعملية تحمية عقلية معقولة لمن يود أن يخوض غمار تلك الكتب. وبعد سنة بالضبط، وكنت طالب سنة أولى جامعية (كلية الشريعة جامعة دمشق) كتبتُ ونشرتُ أول بحث لي بعنوان: (اللغة بين علمي المنطق وأصول الفقه)، وكانت مكافأة نشر البحث 3500 ليرة سورية رصدتها لمطعم (ست الشام) خلف فندق الميريديان أعزم عليه أصدقائي وأصحابي، مرة تلو الأخرى. وكانت العزيمة الواحدة تكلف حوالي الثلاثمئة ليرة.
أخيرًا في دمشق وجدت موئلي في المكتبة الوطنية، فداومت فيها أكثر من دوامي في كلية الشريعة، وكانت البؤرة الحضارية الأولى في سورية، وهنالك بدأت رحلة جديدة مع أسماء كتب جديدة مترجمة وغير مترجمة.