Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدب

شكري فيصل .. الناقد

شكري فيصل من أحبِّ الكتّاب إليَّ؛ أحبُّ منحاه في البحث والدراسة، وأحبُّ منهجه في النقد ، وأحبُّ العربيّة بين يديه !

كان شكريّ فيصل من الجيل الثاني الذي كتب المقالة الأدبيّة على نحو ما كان يكتب الجيل الأوّل ؛ كمثل طه حسين والزّيّات والمازنيّ؛ كان يتوخّى لها اللفظِ المؤنس الرائق، والمدخلَ اللطيف الأنيق، وكان ينشر ما يكتب في مجلّة ( الرّسالة )، بعد أن كان، من قبلُ، يقرؤها مأخوذًا بما كان يُكتب فيها من أدبٍ رفيع .

ولد شكريّ فيصل في دمشق ، في سنة 1918 ، في بيت يرعى العربيّةَ وما يتّصل بها رعايتَه الدينَ وما ينبثق منه، ونشأ في ظلّ خاله ، محدّثِ الشّام ، محمود ياسين ؛ إذ مهّد له خالُه دربَ العلم ، وزيّنه له ، ووضعه على لاحبٍ فيه ، وأراد أن يراه في مكانٍ مرموق منه . فلا غروَ أن يسلِك سبيل المعرفة وهو على بصيرة من أمره ؛ مزوّدًا بمعاني الاستقامة ، آخذًا بالحزم ، مغالبًا أبوابَ الضعف . أخذ العلم مبتدئًا من بيت خاله ، ثمّ درس في مدارس دمشق ، حتّى إذا استوفى نصيبه منها ، ونال شهادةً في الحقوق تطلّعت نفسه إلى القاهرة ، مثابةِ الدرس الأدبيّ يومئذٍ ، فارتحل إليها وانتظم في كليّة الآداب ، واقترب من مجلّة ( الرسالة ) ، ورأى طه حسين ، والزّيّات ، وأحمد أمين ، وأمين الخوليّ ، وغيرهم من أعلام الأدب والفكر ، وتزوّد من زادهم الموفور ، وأحرز شهادته ، وتهيّأ لما بعدها من دراسة عالية ، فاصطفى أن يكتب في ( مناهج الدراسة الأدبيّة ) فكتب ؛ يعرض ، ويحلّل ، ويقوّم ، واثقَ الخطو ، راسخَ القدم ، واضح الفكر ، قويّ الحجّة حتّى اكتملت الدراسة بين يديه حصيفةً نضيجة ، وأحرز بها شهادة الماجستير في سنة 1948 ، ثمّ أصبحت كتابًا لا يستغني عنه دارسُ أدب .

غير أنّه كان يرى أنّ دراسة الأدب العربيّ لا تستقيم له من دون أن يدرس التاريخ الذي نشأ الأدبُ بظلالٍ منه دراسةً مكتملة العناصر فكتب : ( حركة الفتح الإسلاميّ في القرن الأوّل ) ، وكتب : ( المجتمعات الإسلاميّة في القرن الأوّل ) فتكاملت لديه المعرفة الأدبيّة في إطار من التاريخ . ولم ينسَ وهو في رحلة العلم ، إذ قطع منها شوطًا ، من وضع اللَبِنة الأولى ، ومن رفع من طريقه العقبات ؛ لكنّه يلتفت فيرى مكانه خاليًا ، قد أُعجل قبل أن يرى ثمرة غرسه فيكتب في صدر كتابه ( المجتمعات الإسلاميّة ): (إلى خالي الذي أراد الله أن يصطفيه إلى جواره قبل أن يملأ عينيه من ثمرة الغرسة التي انتزعها من أرضها ليزرعَها في أرض خصبةٍ من العلم …) يريد أن يفي ببعض حقّه ، ويعلن ما انطوت عليه نفسه من حبّ خالص له . ولا يتمّ له هذا الذِكْر الجميل ولا يستوفي ما ينبغي له إلّا بذِكْر أمّه فيكتب في صدر كتابه: (مناهج الدراسة الأدبيّة): (إلى أمّي التي علّمتني الصبر ، وحبّبت إليّ القناعة ، وغالبت في غيبتي عنها الآلام والدموع ، وكانت تعيش ترقب دائمًا أوبة الغائب …) وكلا الإهداءين ثريّ الدلالة نفيس في بابه ؛ يفتح نافذةً على نفس كريمة صافية على رغم ما اكتنفها من ألم دفين!

ثمّ يكمل سعيه فينال الدكتوراه في الأدب العربيّ ، من جامعة القاهرة ، ويرجِع إلى دمشق بشهادته ، وبعلم رصين اكتسبه من أعلام الدرس الأدبيّ في مصر ، وبذِكَر عزيرةٍ تخفق عليها أطياف القاهرة وأجواؤها . وانصرف إلى درسه في جامعة دمشق ؛ ويروي من درسوا عليه فيها ؛ أنّه كان يجعل النصّ عنوانَ درسه ؛ شرحًا وتفهّمًا مع إلمامة بما يضيئه من التاريخ .

ولم يقتصر عمله على الجامعة إذ فُتحتْ له أبواب مجمع اللغة العربيّة فعمل فيه عضوًا ثمّ أمينًا له ؛ وكان من عمله فيه أن هيّأ أسباب نشر ( تاريخ دمشق لابن عساكر ) .

وتتّصل أعماله ما بين تأليف وتحقيق ، وتدريس ، في دمشق وغيرها ؛ وكلّها من نبع واحد ثرّ ؛ ماؤه الصدق والإخلاص وتحرّي الصواب ؛ وكلّها ممّا يسري فيه روح النقد ، ورهافة التذوّق ، والنفاذ في ما وراء الحروف بما يمنح النص معنى عميقًا منسجمًا .

ولقد قرأتُ له منذ ما يزيد على خمسين سنة وقفة عند معلّقة النابغة ؛ هي من خير ما وقف به ناقدٌ عند نصّ قديم ؛ قرأتُها إذ نشرها في مجلّة ( المعرفة ) السوريّة بعدد تمّوز سنة 1973 ، ومازلتُ أجدها من أفضل ما قُرئت به قصيدة قديمة .

كان قد وسمها بـ ( قراءة جديدة لمعلّقة النابغة ) ؛ يريد أن يجعل القارئ يدخل إليها من مدخل الجدّة ؛ ذلك أنّها قراءة تختلف عن الشرح القديم الذي يقف عند القصيدة بيتًا بيتًا من دون أن يصل إلى معنى عميق منسجم ، وتختلف عن قراءة النقد الحديث الذي يأتي إلى النصّ يبحث فيه عن مصداق نظريّة نقديّة نشأت في سياق أدب آخر ، عند قوم آخرين ؛ غير أنّه لا يجهل مقالة الشرح القديم ، ولا مقالة النقد الحديث ؛ بل يفيد منهما في إضاءة القصيدة من دون أن يكرهها على أن تلج مضايقهما . يقول : ( إنّ تجاربنا النقديّة المعاصرة كثيرة ؛ تضرب بعض هذا النقد الغربيّ ببعض …لينشأ من ذلك كلام جديد ؛ إنّ نقدنا الحديث ، في أكثره ، توليد أكثر منه ولادة ؛ هو في غالبيته استيراد أكثر منه عطاء ؛ وهو استنبات زجاجي أكثر منه نبتة طبيعيّة … لأنّ شجرة النقد لا يمكن أن تنقل من تربة إلى تربة … هذا النقد الذي يكتب بالحرف العربيّ ، سيظلّ يذكّر الذين يقرؤونه بقولة المتنبيّ : غريب الوجه واليد واللسان ؛ أو يشبه أن يكون غريب الوجه واليد واللسان ، وسيظل قليل الجدوى ، قليل التأثير ما لم يزرع في أرضنا الأدبيّة ، في أرض أدبنا العربيّ الذي ننشئه .)

يقرأ القصيدة مستضيئًا بما أحاط بالشاعر وهو ينظمها ؛ من مخافة النعمان إذ تقطّع ما بينهما ، وشرع يبعث إليه برسل الموت ، فما كان لهذا الجو إلّا أن يلقي بظله على القصيدة ويصهر عناصرَها ، ويمنحها لونه ؛ يقرأ بهذا الضوء المقدّمة الطلليّة ، ولوحة الصيد ، ومديح النعمان والاعتذار إليه ، وما اُختتمتْ به القصيدة من وصف الفرات وقد رمتْ أواذيُّه العِبرين بالزَّبد ، فيتكامل لديه معنى عميق ينتظم القصيدةَ كلّها ، ويدفع عنها معرّة التشتت ، وتفرّق الخطرات ، ويزيد من مقدرة القارئ على تذوّقها وحسن تمثّلها .

إذا كان الناقد هو من يفهم الأثر الأدبيّ ، ويُفهمه ويتّسع بمعناه ، ويُبين عن طيّاته ، ويعرب عن ذلك كلّه بلغة فصيحة مشرقة ، محكمة الأداء ؛ فإنّ شكريّ فيصل بلغ من ذلك كلّه مبلغًا رفيعًا قليل النظير !

لكنّه لم يكن منصرفًا للنقد الأدبيّ ، وكان يزاوله على أنّه شأن من شؤونه الكثيرة ، وليته زاد من هذه الوقفات عند القصائد القديمة !

بقي شكريّ فيصل في عمل دائب لا يفتر حتّى توفي سنة 1985 ؛ وقد بقيت طائفة من بحوثه ومقالاته رهينة مجلّات صار عزيزًا منالها ؛ فهلّا أقدم مجمع اللغة العربيّة بدمشق على ضمّها فِي كتاب ، أو كتب تقرّبها من الأيدي …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى