أدب

طه حسين من بعد خمسين عامًا

ها قد مضى خمسونَ عامًا على وفاةِ طه حسين ( 1889 – 1973 )، ونشأ جيلٌ أو جيلانِ على مدارسَ أدبيّة جديدة مباينةٍ لما كان عليه في المورد والمنهج؛ لكنّ اسمَه ما يزالُ في صدارة الأدبِ والفكرِ والثقافةِ ؛ يرجع إليه الدارسونَ، وأصحابُ الرأي؛ موافقين أو مخالفين!

نشأ طه حسين على النهج القديم في تلقّي علوم العربيّة، وعلوم الدين؛ فحفظ القرآن الكريم، منبعَ الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ثمَّ التحق بالأزهر الشريف، وأقبل على معارفه في اللغة والدين، فدرس النَّحو والصَّرف، وحفظ طائفةً من عيون الشعر العربيّ، وتفهّمها؛ وكان لشيخه سيّد بن عليّ المرصفيّ (ت: 1931) مكانُ الصَّدارة بين شيوخه؛ إذ قرأ عليه حماسةَ أبي تمّام، وكاملَ المبرّد، وأخذ عنه طريقته في درس الشعر وتذوّقه. وعرفَ الجاحظ في البيان والتبيين، والحيوان؛ زيادةً على أشياءَ من الفقه والأصول. كلُّ ذلك وهو لمّا يزلْ في العقد الثاني من عمره. ثمَّ اندفع ينظم الشعر في أغراضه المعروفة يومئذٍ، ويُلقيه في المحافل، وينشره في الصحف، كلّما دعا داع إلى ذلك؛ لكنّه إذ استحكم أمرُه، من بعد، واتّضح نهجه أعاد النظر في شعره فلم يره قائمًا بشروط الشعر كما يُريدها فأضرب عنه صفحًا، وأهمله غيرَ آسف عليه. وكانت نفسه تتطلّع إلى نمط آخر من المعرفة، يتّصل بالعصر وفكره ممّا لا يُتيحه الأزهرُ؛ وكانت الجامعة المصريّة قد اُفتُتِحَت في سنة 1908، فالتحق بها، وأخذ يسمعُ أشياءَ جديدةً في المنهج والفكر، ومسارِ الدرس الأدبيّ. وشرع ، حينئذٍ، يأتلفُ في ذهنه عنصرًا القديمِ والحديثِ، ويُضيءُ كلٌّ منهما الآخرَ؛ ثمّ ظلّا، من بعدُ، متآزرين في بنائه الفكريّ مدّةَ حياته. ولقد ألقى في روعه ما سمِع في الجامعة المصريّة أن يعبُرَ البحر، وأن يتمكّنَ من علم الغرب وثقافته، وأن يعرف تلك الأفكار الجديدة في أرضها. وإذ تمّ له ما أراد، وعاد مزوّدًا باللغة ، والمنهج ، والفكر ، لم يختلّ موقعُ الثقافة العربيّة عنده، ولم تشبْ حبَّه العربيّةَ شائبةٌ .

أولى مزايا طه حسين التي أبقته حيًّا ثابتَ الأركان؛ أنّه راسخُ القدم في ثقافة أمّته؛ في لغتها وتاريخها وأدبها؛ يحبّ العربيّة في عيون آثارها ، ويتوخّى الفصاحةَ الفصيحة في كلامه وفي كتابته . وهو مع ذلك راسخ القدم أيضًا في ثقافة الغرب ؛ ولقد قال أستاذنا عليّ جواد الطاهر ، ذات مرّة ، إنّ طه حسين يعرف اللغةَ الفرنسيّة والأدب الفرنسيّ معرفةً أفضلَ من الفرنسيين أنفسهم ! وإذا كانت العربيّة وما يتّصل بها عنوانَ الأصالة ، وإنّ الغربَ ، بثقافته ، عنوانُ المعاصرة ؛ فإنّ طه حسين قد جمع الأصالةَ والمعاصرةَ بنسيجٍ واحدٍ متينِ اللُحْمة والسَّدى .

ومثلما التقت الأصالة بالمعاصرة عند طه حسين حتّى صارتا شيئًا واحدًا، التقى العقلُ بالعاطفة عنده في إهابٍ واحد؛ فكان يُقيم أحكام العقل في الشكّ والتثبّت، ونقد الأخبار، وردّ الزائف منها؛ إذا كان المقامُ خالصًا للعلم وإظهار الحقائق؛ أمّا إذا كان المقامُ مقامَ أدب وفن فإنّه يُرخي زمامَ العقل، ويدعُ الشكَّ والتثبّت، وينغمسُ في عاطفةٍ سخيّة كريمة حافلة بألوان الحياة، ورفيع قيمها. وأظهرُ مصداقٍ لذلك هو ما كان منه في كتاب “في الشعر الجاهليّ”، فقد كان باحثًا يُريد أن يتثبّت، وأن يجعل الشكَّ طريقًا إلى اليقين، وأن يرجِع في بحثه إلى العقل وأحكامه؛ وما كان منه في كتاب “على هامش السِّيرة”، فقد كان موفورَ العاطفة، ندي الشعور؛ ينفذ إلى جوهر الحياة في الحبّ، والرجاء، والمخافة، وآمال النفس فيما ترجو وما تخشى. وكأنّه، بذلك ، يجهر أنَّ الحياة إنّما تقوم على عنصري العقل والعاطفة؛ وكلٌّ صالحٌ نافعٌ في موضعه.

وهو جريء صريح ذو إرادة حازمة، إذا بدا له وجهُ الصوابِ في أمرٍ انصرف إليه، ونكّب عمّا يُثبّط العزيمةَ؛ فلقد أخذ نفسه بالشّدّة الشديدة، وهو في عهد الطلب، حتّى استقامت له العربيّة بنحوها وأدبها، وحتّى استقامت له، من بعدُ، الفرنسيّة واليونانيّة وأشياء من اللاتينيّة. وأخذ نفسه بالشّدّة نفسها وهو يزاول الإدارة فردّ على ملك البلاد رغبتَه في أن تمنح كلّيّةُ الآداب، وهو عميدها، نفرًا من رجال السياسة درجةَ الدكتوراه الفخرية؛ فحفِظ على الجامعة مكانتَها الرصينة، وحفِظ على الأستاذ هيبته .

ولقد كان، مع ذلك، صوتَ المظلومين الذين لا صوتَ لهم؛ إذ عبّر عنهم في رواياته وقصصه؛ فقد كتب عن ذلك في “شجرة البؤس”، وفي “دعاء الكروان”، وفي “المعذّبون في الأرض”، ودعا جهرةً إلى رفع الظلم، وإزالة الفقر، ومحو الجهل، ورفع صوته: إنَّ التَّعليمَ حقٌّ كالماء والهواء! وحين تولّى وزارةَ المعارف نفّذ ما دعا إليه فأتاح التعليم لفئات كثيرة كانت محرومة منه .

وهو، من قبلُ ومن بعدُ، ناقد واضحُ الفكر، جهيرُ الرأي؛ أقام النقد على شرائطه في سَعة المعرفة، ورهافة الذوق، وسمو البيان؛ وقد استبان ذلك في “حديث الأربعاء”، و”خصام ونقد”، و”ألوان”، وفي غيرها من كتبه. وهو ناقد اجتماعيّ بارعٌ؛ يقعُ على علل المجتمع، ويجهر في وصفها، وبيانِ آثارها؛ جاعلًا ذلك كلّه في صياغة أدبيّة مُحكمة كالذي صنع في كتابه “جنّة الشوك”، وهو كغيره من كتب طه حسين؛ يُقرأ مرّتين؛ مرّةً لمحتواه الأصيل المبتكر، ومرّةً لصياغته الرفيعة المُبينة .

ولعلّ أقوى ما يدلّ على طه حسين هو بيانه المبين في قدرته على تصوير الأفكار والأشياء تصويرًا حيًّا أخّاذًا ينفذ نفاذًا سريعًا إلى لُبّ القارئ ؛ ولقد أبان عن ذلك أتمَّ بيان الدكتور عبد الرزّاق محيي الدين في قوله وهو يرثيه:

يدٌ صَناعٌ لو امتدّتْ إلى يَبَسٍ

لأورقَ العودُ وأحلولى له ثَمَرُ

ولسانُه في البيان الرفيع لا يقلّ عن كتابته ؛ بل يزيد عليها بهذا الصوت الجليل المثقّف الذي يعطي الحروف تمامَ حقّها في النطق ، ويوازن بين الجُمل في تتابعها علوًّا وانخفاضًا ؛ فلا يزلُّ عنده نغَمٌ ، ولا ينبو لديه حرف !

وإذا كان من الدارسين من شبّه طه حسين بأبي العلاء المعرّي بجامع فقدان البصر ؛ فإنّي أراه أشبهَ بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ؛ ذلك أنّ الجاحظ شيخُ النثر العربيّ القديم سعةً وعمقًا وتنوّعًا ؛ اجتمعت إليه الروافدُ فجعل منها بحرًا خِضَمًّا ، وكذلك منزلةُ طه حسين في النثر العربيّ الحديث ؛ اجتمعت إليه الروافدُ فجعل منها بحرًا خِضَمًّا ؛ إذ زاول أنواع النثر كلّها ؛ فكتب القصّة والرواية ، وأنشأ المقالة على رفيع شرائطها ، واستحدث الإبيكراما ، وبرع بالخطابة ، وكان أستاذَ أجيالٍ من الأدباء والدارسين كلّهم يُزهى به . ولا أروع من قول الدكتور عبد الرزّاق محيي الدين في تصوير ذلك إذ يقول :

ويسألونك ما طـــه ولــو خَبِــــروا

ما عندهم منه لاستغنَوا بما خَبِروا

 والماءُ يشربُه الظمـــآنُ مــــن قُـلَلٍ

وربّمـا ســــأل الأنواءَ مــا المطرُ

هـــذا الذي أنــا أُلقيــه وتسمـــعه

له فلا العودُ من عندي ولا الوترُ

وإذ تمضي السنون بأحداثها فإنّ ذكرَ طه حسين يتجدّد في كلّ مرّة ؛ لا يزيده مَرُّ الزمان إلّا إشراقًا ؛ ذلك أنّه مَجْمَعُ قيمٍ أصيلة رفيعة كانت تضيء الدرب وتهدي السالكين ، وما تزال …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى