أدب

قتيبة الشهابي وولادة الزمن الماضي

بعيدًا نحو التجريد أوغَلَ فنَّانونا تاركينَ الواقعَ وما يصوِّرُه إلى المؤرِّخين الذين بذلوا جُهدًا شاقًّا حقًّا في رسم ما عاصروه بالكلمات، وقد أخفقَ بعضُهم، ونجحَ آخرون. ولكنَّ هذه الصُّورةَ المرسومة بالكلمات كان يُراد لها خيالُ مبدع ليجمعَ أجزاءها، ويمنحَها نبضًا بالحياة.

فأنت أمام مؤرِّخ بارع حين تقرأُ للمَقْرِيزي في خِطَطه، أو لابن بَطُّوطة في رِحلته، ولكن يبقى السؤالُ بعد كلِّ ما قرأت، تُرى، كيف كانت حقًّا القاهرةُ أو بغدادُ أو دمشق؟ كيف كانت شوارعُها، حاراتُها، أزقَّتُها؟ كيف كانت ملابسُ سكَّانها؟ كيف كانت ملامحُهم؟ وتحاولُ أن تُلملمَ الصُّورة وقد نُثِرَت في أسطُر، هنا أو هناك.. وفي كثيرٍ من الأحيان يبقى الماضي بتفصيلاته الدقيقة غارقًا في الظلام.

إنك حين تقرأُ التاريخ المكتوبَ تعرف، ولكنَّ الصورة هي التي تُثير الإحساسَ بهذا الماضي، تجعله قريبًا منك لا غريبًا عنك.. تُرى هل تشدُّنا كتبُ الرحَّالة لأن الصُّورةَ فيها أدقُّ، والتعبيرَ عنها أجلى؟ ربَّما.

ومِن ثَمَّ يَخفِقُ قلبُنا حين تطالعُنا صورةٌ لرسَّام أُورُبِّي زار بلادنا قبل مئة سنةٍ أو مئتين، واقتنصَ لنا بريشته لحظةً من تلك الحياة الماضية.. إننا نبقى مُحَملِقين فيها وقد استولى علينا سحرٌ آسِر. وبفَرَحٍ طاغٍ نتتبَّعُ دقائقها، ونُؤخَذ بألوانها وملامح ناسِها، ونجدُ أنفسَنا ونحن في تلك السِّنين نشهدُ ولادةَ الماضي فينا.

تُرى أهذا هو الشعورُ الذي دفع عاشقًا للفنِّ مثل الدكتور قتيبة الشِّهابي ليكتبَ لنا التاريخ بالصُّوَر؟

لا أنسى ذلك اليومَ – قبل نحو عقدٍ من السنين – حين صدر كتابُه “دمشق تاريخ وصور” لقد رأيتني يومئذٍ، وأنا أقلِّبُ صفَحاته ببُطء شديد، أتلبَّثُ أمام كلِّ صورة من صوره، مدققًا متابعًا كلَّ تفصيلٍ من تفاصيلها، جاهدًا أن أُعيدَ ترتيب المكان كما كان.

ومع كلِّ صورة كانت ملامحُ دمشقَ تتبدَّى وهي تَحبُو نحو العصر الجديد؛ هذا بَرَدى حين كان شابًّا لم يكتَهِل، وهذه المَرْجة وقد اختلطَت فيها العصور؛ السيَّاراتُ مع عرَبات الخَيل، مع قافلة الجِمال. وهذا شارعُ النصر، وقد كان حديقةً ومُتَنزَّهًا لدمشق، وها هي شوارعُ دمشقَ وقد خلَت من المارَّة، كدمشقَ الآن في هدأة القَيلولة في يوم حارٍّ. وها هو الترام بصوته الرنَّان ينسابُ بين الشوارع وقد ازدحمَ برُكَّابه، وتخيَّلتُ نفسي وقد ركبتُ مع جدَّتي فيه ذاهبين إلى الشيخ محيي الدين.. يغمرُك إحساسٌ أنك برغم جفاء الزمن كنتَ هناك.

ووجَدتُّني أشتري منه نسخًا، ورُحْت أُهديها إلى الأصدقاء، ما أحبَبتُ أن أعيشَ هذه السعادة وَحدي.

وأنا لا أعرفُ الدكتور قتيبة إلا من كتُبه، وهو لا يعرفني، ولكنِّي الآن أذكرُه، وهو لا يَذكُرُني. وقد التقَيتُه مرَّة في المدرسة العادلية الكبرى، عند قبر الملك العادل أخي صلاح الدين، ومُنشئ تلك المدرسة، كان يريد أن يلتقطَ صورًا لقبره وتُربته.

كانت تُربة الملك العادل – قبل ترميمها – موحشةً كئيبة، قبرٌ مهجور قد عَلاه الغُبار في قاعة فسيحة ذات قُبَّة عالية، مُلئت بالأنقاض والخزائن المكسورة، ويقبَعُ في زاوية منها تمثالٌ مهشَّمُ الأنف لأبي العلاء المعَرِّي، كان قد نُحِتَ للاحتفال الذي أُقيمَ له في الأربعينيَّات في مَجمَع اللغة العربية، وكانت العادلية مقرًّا للمَجمَع وقتئذٍ.. أيامٌ جميلة كانت.

في هذه التُّربة الموحشة وجَدتُّني أمام الدكتور قتيبة أُكَفكِفُ خجَلي من بُؤْس هذا المكان، وقد عرَته كآبةٌ وحزن تبدَّت في عينيه، فرُحْت – وقد تخيَّلتُ إحساسه بجماليات المكان – أُتمتِمُ بكلماتٍ أعتذر إليه فيها عمَّا لا يدَ لي فيه، فإذا بعينه تدمع، وهو يستَلُّ (كَمِرَتَه) ليلتقطَ بها بضعَ كلمات.

وغابَ فجأة كما ظهر، وقد حال خجَلي دون سؤاله عن كتابه الجديد.

%D9%82%D8%AA%D9%8A%D8%A8%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%90%D9%91%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A %D9%88%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A قتيبة الشهابي وولادة الزمن الماضي

وتمضي السِّنون، ويُصدِر الدكتور قتيبة في أوائل هذا العام 1996 كتابه الجديد “مُشَيَّدات دمشقَ ذوات الأضرحة”، أتأبَّطُه، وأعود به مسرعًا إلى بيتي.. وينقضي الليلُ وأنا سارحٌ بين تلك الصُّوَر التي تُعيد لي التاريخ نابضًا بالحياة، ولكن في هذه المرَّة لم تغِب عني تلك العينُ التي دمعَتْ، فما أجملَ ما كتبَتْ.

نُشرت أوَّلَ مرَّة في صحيفة “الأسبوع الأدبي”، العدد 518، الخميس 11 صفر 1417 هـ الموافق 27/ 6/ 1996 م، الصفحة 16.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى