كما أن هناك قصائد قتلت أصحابها فهناك قصائد كانت سببا في نجاة أصحابها فإنهم لما رأوا الموت يقطر أحمر فوق رؤوسهم انثالت قرائحهم بأعذب الشعر وأبلغه ندما واعتذارا ورجاء في فك رقابهم والمن عليهم بالخلاص ويكفيك أن منهم أحد أصحاب المعلقات وابن أحد أصحاب المعلقات فالبيان الساحر له وقْعهُ على القلوب وتأثيره على النفوس وهاك هنا في هذه العلقة النفيسة بعض هذه القصائد على أن أعاود إكمال هذه الدراسة في حلقة قادمة.
تذكر كتب التاريخ كتاريخ الطبري وابن كثير وغيرهما قصة كعب بن زهير وقصيدته المسماة بالبردة وعفو الرسول صلى الله عليه وسلم عنه وحقيقة هذه القصيدة هي من أبلغ القصائد التي أنجت أصحابها وكعب بن زهير هو كعب بن زهير بن أبي سُلمى، نجل الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلْمى الذي كان مشهورا، وأحد أصحاب المعلقات.
ويتَّفِق الرُّواة على أنَّ الشِّعر لم يتصل في ولَدِ أحدٍ من فحول شعراء الجاهليَّة اتِّصالَه في ولد زهير بن أبي سلمى؛ فكَعبٌ وأبوه زهير وجَدُّه أبو سُلْمى، وعمَّتاه الخنساء وسلمى، وخال أبيه “بشامة بن الغدير”، وابنا عمَّتِه “تماضر” الخنساء، وأخوها صخر، وابنا ابنته سلمى العوثبان، وقريض، وأخوه بجير، وولده عقبة (المضرب)، وحفيده العوام بن عقبة، هؤلاء كلُّهم شعراء.
وعندما بلغ كعبٌ مبالغ الرجال كان الإسلام قد اشتدّ عوده، وكان الرسولُ صلى الله عليه وسلم قد أسس الدولة الإسلامية في المدينة، وكان لزهير ولدان كعب وبُجير فأسلم بجير وصد كعب ولم يكتفِ بصدوده بل قام يكتب إلى أخيه أبياتا يلومُه فيها على الدخول في الإسلام ووقع في النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر النبيُّ صلى الله عليه وسلم دم كعب. فاختفى وضاقت الدنيا في وجهه، ثم إن أخاهُ بجيرا بعث إليه ينصحُه بأن يَفد على النبي ويُسلِم.
فورد كعبٌ المدينة سرا وقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم متخفيًا متلثما لئلا يعرفه أحد ، وبعد صلاة الصبح أسفر عن وجهه وقام ينشد قصيدته، فأمنه النبي عليه الصلاة والسلام، وقصيدته بدأها على عادتهم بالنسيب أي الغزل الرقيق ومنها:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ
مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البَيْنِ إِذْ رَحَلُوا
إِلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ
كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ
صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطُهُ
مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
مَوْعُودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلاَفٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا
كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوابِهَا الغُولُ
وَلاَ تَمَسَّكُ بِالعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
إِلاَّ كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الغَرَابِيلُ
فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلاَمَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً
وَمَا مَواعِيدُهَا إِلاَّ الأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأرْضٍ لاَ يُبَلَّغُهَا
إِلاَّ العِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
ثم أقبل يصف ناقته واسترسل في وصفها ثم أتى بأبيات يعتذر فيها للرسول يقول:
وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ لاَ
أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أَبَا لَكُمُ
فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ
يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
وَالعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا
وَالعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ
الْ قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لاَ تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ وَلَمْ
أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ
أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَمْ يَسْمَعِ الفِيلُ
لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللهِ تَنْوِيلُ
ثم أقبل على مدح الرسول فقال:
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لاَ أُنَازِعُهُ
فِي كَفِّ ذِي نقِمَاتٍ قِيلُهُ القِيلُ
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ
وَقِيلَ إنَّكَ مَسْبُورٌ وَمَسْؤُولُ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ
مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا
لَحْمٌ مَنَ القَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لاَ يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهْوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الْجَوِّ ضَامِزَةً
وَلاَ تَمَشَّى بِوَادِيهِ الأَرَاجِيلُ
وَلاَ يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ
مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدِّرْسَانِ مَأْكُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
ثم مدح الصحب الكريم فقال:
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا: زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ
مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ
كَأَنَّهَا حَلَقُ القَفْعَاءِ مَجْدُولُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
لاَ يَفْرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ
قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
لاَ يَقَعُ الطَّعْنُ إِلاَّ فِي نُحُورِهِمُ
وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
❃❃❃
ومن القصائد التي أنجت أصحابها اعتذاريةعبد الله بن الزبعرى بن قيس السهمي ، ويكنى “أبو سعد” ، من بني سهم من قبيلة قريش المضرية العدنانية. وهو شاعر قريش الأول، عرف بحبه لقبيلته وتمسكه في الدفاع عنها والذب عن مآثرها، وكان لشعره دور كبير في مناهضة الدعوة الإسلامية والرد على شعراء المسلمين من مثل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسخر من الإسلام ويهاجم الأنصار وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فلما فتح الرسول الأكرم والنبي المعظم مكة فر إلى نجران ثم ضاقت عليه الدنيا بما رحبت فجاء بهذه الاعتذارية وأسلم فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم إسلامه ومما جاء في قصيدته:
مَنعَ الرُّقَادَ بَلابلٌ وهُمُومُ
والَّليلُ مُعْتَلِجُ الرِّوَاقِ بَهِيمُ
مِمَّا أتاني أنّ أَحْمَدَ لامَني
فِيه فَبِتُّ كأنَّني مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ من حَمَلَتْ على أَوْصَالِهَا
عَيْرَانَةُ شُرُحُ اليَدَينِ رَسُومُ
إِنِّي لمُعْتَذِرٌ إِليكَ مِنَ الَّذي
أَسْدَيْتُ إِذْ أنَا في الضَّلالِ أَهِيمُ
أياَّمَ تأمُرُني بِأَغْوَى خُطَّةٍ
سَهْمٌ وتأمُرُني بها مَخْزومُ
فاغفِرْ فِدىً لك وَالِدايَ كِلاَهُما
ذَنْبي فإنَّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وعَليكَ من أَثَر المَلِيكِ عَلامَةٌ
نُورٌ أضَاءَ وخَاتَمٌ مَخْتُومُ
مَضَتِ العَدَاوَةُ فَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا
وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وحُلُومُ
أعطاكَ بعد محبةٍ برهانَه
شرفا وبرهانُ الإلهِ عظيمُ
ولقد شهدتُ بأن دينك صادقٌ
حقٌّ وأنك في العباد جسيمُ
والله يشهدُ أن أحمد مصطفى
مستقبلٌ في الصالحين كريمُ
وقال أيضا:
يَا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسَاني
رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُجَارِي الشَّيْطانَ في سَنَن
الغَيِّ ومَنْ مَال مَيْلَه مَثْبُورُ
آمَنَ الَّلحْمُ والعِظَامُ بما قُلْتَ
فنَفْسي الفِدَى وأنْتَ النَّذيرُ
❃❃❃
وقبل هذين الشاعرين الشاعر النابغة الذبياني – وإنما قدمناهما عليه لشرف صحبتهما _ فقصيدة النابغة الذبياني كانت سببا في نجاته من النعمان، ويعد النابغة من كبار شعراء العرب بل هو من الطبقة الأولى ومن أصحاب المعلقات وكان خاصًّا بالنعمان بن المنذر مقربا منه، ومن ندمائه وأهل أُنسِه ومجلسه.
واستبد النابغة بمودة الملك النعمان وجزيل عطائه وسابغ نعمه، فلا عجب أن يثير هذا حفيظة الشعراء ليعملوا على إفساد علاقته ببلاط الحيرة وقد نجحت خطتهم . وبات الشاعر مهدداً بدمه وحياته، لكنّ حاجب أبي قابوس عصام بن شهبر الجرمي- وكان بينه وبين النّابغة إخاء وصداقة- حذّره من غضب النعمان وبطشه ، ونصحه بترك البلاط،- كما تذكر الروايات- فاضطر النّابغة إلى الفرار، فلجأ إلى الغساسنة، وفي نفسه حسرة، وغيظ، وأمل في العودة. يذكر ابن قتيبة، أن الرواة اختلفوا في السبب الذي حمل الملك النعمان على أن ينذر دم شاعره، فذكر بعضهم أنه سبب غضب النعمان عليه ما ألفه بعض الشعراء من هجاء مقذع للنعمان ورموا به حسدا النابغة بسبب مقامه الكبير الذي ناله عند النعمان، وبعضهم ذكر أن هناك سيفا صقيلا مكللا بالجواهر ذكره النابغة للنعمان فأخذه النعمان سطوة على صاحبه فحبك صاحب السيف تهمة ووشى بالنابغة إلى آخر تلك الأسباب التي ذكرت لكن أشهر هذه الروايات هي رواية التي ذكرت أنه وصف المتجردة.
والمتجردة هذه امرأة النعمان، وكانت فائقة الحسن، ممتلئة الجسد، بارعة الجمال، وكان النعمان على ما يُروى قصيراً دميماً، وقد تعددت الروايات حول وصف النابغة للمتجردة. فقيل بأن النابغة دخل على النعمان، ذات يوم، فرأى زوجته المتجردة وقد سقط نصيفها فاستترت منه بيدها. فأمره النعمان بأن يصفها له وصفا يليق بمقامها فأنشأ قصيدة يصفها لكنه استرسل في وصفها حتى وصف ما خفي من جسدها وبين ما غاب من مفاتنها ومن هذه القصيدة:
صَفراءُ كَالسِـيَراءِ أُكمِـلَ خَلقُها
كَالغُصــنِ في غُلَوائِـــهِ المُـتَأَوِّدِ
وَالبَطــنُ ذو عُكَــنٍ لَطـيفٌ طَـيُّهُ
وَالإِتبُ تَنفُجُـــهُ بِثَـــديٍ مُـقعَــدِ
سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ
فَتَنــاوَلَـتــــهُ وَاِتَّقَـتنـــا بِـاليَـــــدِ
بِمُخَضَّبٍ رَخصٍ كَأَنَّ بَنانَهُ
عَنَمٌ يَكادُ مِنَ اللَطافَةِ يُعقَدِ
نَظَرَت إِلَيكَ بِحاجَةٍ لَم تَقضِها
نَظَرَ السَقيمِ إِلى وُجوهِ العُوَّدِ
تَجلو بِقادِمَتَي حَمامَةِ أَيكَةٍ
بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُهُ بِالإِثمِدِ
كَالأُقحُوانِ غَداةَ غِبَّ سَمائِهِ
جَفَّت أَعاليهِ وَأَسفَلُهُ نَدي
زَعَمَ الهُمامُ بِأَنَّ فاها بارِدٌ
عَذبٌ مُقَبَّلُهُ شَهِيُّ المَورِدِ
زَعَمَ الهُمامُ وَلَم أَذُقهُ أَنَّهُ
يُشفى بِرَيّا ريقِها العَطِشُ الصَدي
أَخَذَ العَذارى عِقدَها فَنَظَمنَهُ
مِن لُؤلُؤٍ مُتَتابِعٍ مُتَسَرِّدِ
لو أَنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ راهبٍ،
يدعو الإلَهَ، صَرورَةٍ، مُتَعَبِّدِ
لَصَبَا لَبَهجتِها وطِيْبِ حَديثها،
ولَخَالَهُ رُشْداً، وإنْ لم يَرشُد
ومما وصفه بها قوله:
وإذا لَمَسْتَ لَمَسْتَ أَجْثَمَ جاثِماً
مُتَحَيِّزاً بمكانِهِ مِلءَ اليَدِ
وإذا طَعَنتَ طَعَنتَ في مُسْتَهدِفٍ
ناتيْ المَجَسَّةِ بالعَبيرِ مُقَرمَدِ
وإذا نزعتَ نزعْتَ عن مُستَحصِفٍ
نَزْعَ الحَزَوَّرِ بالرّشاءِ المُحْصَدِ
وتكادُ تَنزعُ جِلدَهُ عَن مَلّةٍ
فيها لوافحُ كالحَريقِ الموقَدِ
وقد أورد ابن قتيبة أنه كان للنعمان نديم يقال له المنخّل اليشكري وكان حاسدا للنابغة عدوا لدودا له فلما سمع المنخل هذا الشعر أراد المكر وعزم على الكيد، قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرّب. فوقر ذلك في نفسه، وبلغ النابغة ذلك فخافه فهرب إلى الغساسنة. ولعلّ اتصال النابغة بالغساسنة، أعداء المناذرة، كان سبباً آخر من أسباب حقد الملك على الشاعر ووعيده له كما ذكر ذلك أصحاب التاريخ وقد أقام النابغة في بلاط الغساسنة، منقطعاً إلى عمرو بن الحارث الأصغر وإلى أخيه النعمان بن الحارث، وقد امتدح هؤلاء بقصائد عديدة، منها القصيدة البائية التي قالها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر والتي مطلعها:
كليني لهمّ يا أُميمة ناصبِ
وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكب
وبقي النابغة عند الغساسنة مدة من الزمن، ينشدهم شعره، ويشاركهم في محافلهم ومجالسهم، جاهداً في ذكر مفاخرهم وانتصاراتهم، إلى أن اجتمعت أسباب عودته إلى بلاط النعمان فترك جوارهم. وذكر ابن قتيبة أن النعمان قد غمّه امتداح النابغة للغساسنة أعداءه وأيقن أن الذي قُذف به عنده باطل، فبعث يستقدمه إليه من جديد بقوله: “إنك صرت إلى قوم قتلوا جدّي فأقمت فيهم تمدحهم، ولو كنت صرت إلى قومك لقد كان لك فيهم ممتنع وحصن إن كنا أردنا بك ما ظننت، وسأله أن يعود إليه”. هكذا نظم النابغة اعتذارياته، ثم جاء أبا قابوس مع رجلين من فزارة هما: زيّان بن سيار ومنظور بن سيّار الفزاريين وبينهما وبين النعمان مودة وصفاء وكان الملك قد ضرب لهما قبة، وهو لا يعلم أن النابغة معهما. وقد أشار النابغة على إحدى القيان أن تغني أبياتاً من قصيدته “يا دار مية” ومنها قوله:
أُنبِئتُ أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأرٍ من الأسدِ
فلما سمع الملك النعمان، هذا الشعر قال: هذا شعر علوي، هذا شعر النابغة. وسأل عنه، فأخبر مع صديقيه الفزاريين، اللذين كلّماه فيه، فأمّنه النعمان واسترجع مكانته عند الملك النعمان واستأنف مدائحه فيه.
يقول لما وصله خبر الوشاية مخاطبا النعمان:
أتــانـي أبيتَ اللَّعْـنَ أنَّــك لُمتَنــي
وتِلـكَ التي تَسْتَكُّ منهـــا المَسَامِعُ
فبِـتُّ كــأنِّي ســـاوَرَتْنِــــي ضئيـلــةٌ
مِــنَ الرُّقْــشِ من أنيابِها السّمُّ ناقِــعُ
أَكَلَّفْتَنـــي ذْنبَّ امْــرئٍ وتــرَكتَــهُ
كــذِي العُرِّ يُكوَى غيرهُ وهْوَ راتِعُ
فإنَّكَ كالليـــل الــذي هُــو مُدْرِكــي
وإن خِلْتُ أن المُنتأى عنكَ واسِعُ
وقد أقسم له بأقدس مقدس عند العرب الكعبة وبالله العظيم أنه بريء مما نسب إليه وطلب منه أن يكون بعيد النظر كزرقاء اليمامة في قوله:
واحكم كَحُكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمامٍ شراع واردِ الثمدِ
وقد أتى هذا الاعتذار في قصيدته الشهيرة :” يا دار ميّة بالعلياءِ فالسندِ” ومنها:
احكُم كَحُكمِ فَتاةِ الحَيِّ إِذ نَظَرَت
إِلى حَمامِ شِراعٍ وارِدِ الثَمَدِ
يَحُفُّهُ جانِبا نيقٍ وَتُتبِعُهُ
مِثلَ الزُجاجَةِ لَم تُكحَل مِنَ الرَمَدِ
قالَت أَلا لَيتَما هَذا الحَمامُ لَنا
إِلى حَمامَتِنا وَنِصفُهُ فَقَدِ
فَحَسَّبوهُ فَأَلفَوهُ كَما حَسَبَت
تِسعاً وَتِسعينَ لَم تَنقُص وَلَم تَزِدِ
فَكَمَّلَت مِئَةً فيها حَمامَتُها
وَأَسرَعَت حِسبَةً في ذَلِكَ العَدَدِ
فَلا لَعَمرُ الَّذي مَسَّحتُ كَعبَتَهُ
وَما هُريقَ عَلى الأَنصابِ مِن جَسَدِ
وَالمُؤمِنِ العائِذاتِ الطَيرِ تَمسَحُها
رُكبانُ مَكَّةَ بَينَ الغَيلِ وَالسَعَدِ
ما قُلتُ مِن سَيِّئٍ مِمّا أَتَيتَ بِهِ
إِذاً فَلا رَفَعَت سَوطي إِلَيَّ يَدي
إِلّا مَقالَةَ أَقوامٍ شَقيتُ بِها
كانَت مَقالَتُهُم قَرعاً عَلى الكَبِدِ
إِذاً فَعاقَبَني رَبّي مُعاقَبَةً
قَرَّت بِها عَينُ مَن يَأتيكَ بِالفَنَدِ
أُنبِئتُ أَنَّ أَبا قابوسَ أَوعَدَني
وَلا قَرارَ عَلى زَأرٍ مِنَ الأَسَدِ
مَهلاً فِداءٌ لَكَ الأَقوامُ كُلُّهُمُ
وَما أُثَمَّرُ مِن مالٍ وَمِن وَلَدِ
لا تَقذِفَنّي بِرُكنٍ لا كِفاءَ لَهُ
وَإِن تَأَثَّفَكَ الأَعداءُ بِالرِفَدِ
فَما الفُراتُ إِذا هَبَّ الرِياحُ لَهُ
تَرمي أَواذِيُّهُ العِبرَينِ بِالزَبَدِ
وقد بالغ في وصف عطائه وكرمه ووصفه بأوصاف كثيرة واعتذر له وبالغ في الاعتذار فعفا عنه النعمان.
ويقول في قصيدته الاعتذارية الشهيرة “عفا ذو حسى”:
عَفا ذو حسًى مِن فَرتَنى فَالفَوارِعُ
فَجَنبا أَريكٍ فَالتِلاعُ الدَوافِعُ
فَمُجتَمَعُ الأَشراجِ غَيَّرَ رَسمَها
مَصايِفُ مَرَّت بَعدَنا وَمَرابِعُ
تَوَهَّمتُ آياتٍ لَها فَعَرَفتُها
لِسِتَّةِ أَعوامٍ وَذا العامُ سابِعُ
رَمادٌ كَكُحلِ العَينِ لَأياً أُبينُهُ
وَنُؤيٌ كَجَذمِ الحَوضِ أَثلَمُ خاشِعُ
كَأَنَّ مَجَرَّ الرامِساتِ ذُبولَها
عَلَيهِ حَصيرٌ نَمَّقَتهُ الصَوانِعُ
عَلى ظَهرِ مِبناةٍ جَديدٍ سُيورُها
يَطوفُ بِها وَسطَ اللَطيمَةِ بائِعُ
فَكَفكَفتُ مِني عَبرَةً فَرَدَدتُها
عَلى النَحرِ مِنها مُستَهِلٌّ وَدامِعُ
عَلى حينَ عاتَبتُ المَشيبَ عَلى الصِبا
وَقُلتُ أَلَمّا أَصحُ وَالشَيبُ وازِعُ
وَقَد حالَ هَمٌّ دونَ ذَلِكَ شاغِلٌ
مَكانَ الشِغافِ تَبتَغيهِ الأَصابِعُ
وَعيدُ أَبي قابوسَ في غَيرِ كُنهِهِ
أَتاني وَدوني راكِسٌ فَالضَواجِعُ
فَبِتُّ كَأَنّي ساوَرَتني ضَئيلَةٌ
مِنَ الرُقشِ في أَنيابِها السُمُّ ناقِعُ
يُسَهَّدُ مِن لَيلِ التَمامِ سَليمُها
لِحَليِ النِساءِ في يَدَيهِ قَعاقِعُ
تَناذَرَها الراقونَ مِن سوءِ سُمِّها
تُطَلِّقُهُ طَوراً وَطَوراً تُراجِعُ
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني
وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ
مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ
وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ
لَعَمري وَما عُمري عَلَيَّ بِهَيِّنٍ
لَقَد نَطَقَت بُطلاً عَلَيَّ الأَقارِعُ
أَقارِعُ عَوفٍ لا أُحاوِلُ غَيرَها
وُجوهُ قُرودٍ تَبتَغي مَن تُجادِعُ
أَتاكَ اِمرُؤٌ مُستَبطِنٌ لِيَ بِغضَةً
لَهُ مِن عَدوٍّ مِثلَ ذَلِكَ شافِعُ
أَتاكَ بِقَولٍ هَلهَلِ النَسجِ كاذِبٍ
وَلَم يَأتِ بِالحَقِّ الَّذي هُوَ ناصِعُ
أَتاكَ بِقَولٍ لَم أَكُن لِأَقولَهُ
وَلَو كُبِلَت في ساعِدَيَّ الجَوامِعُ
حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ ريبَةً
وَهَل يَأثَمَن ذو أُمَّةٍ وَهوَ طائِعُ
بِمُصطَحِباتٍ مِن لَصافٍ وَثَبرَةٍ
يَزُرنَ إِلالاً سَيرُهُنَّ التَدافُعُ
سَماماً تُباري الريحَ خوصاً عُيونُها
لَهُنَّ رَذايا بِالطَريقِ وَدائِعُ
عَلَيهِنَّ شُعثٌ عامِدونَ لِحَجِّهِم
فَهُنَّ كَأَطرافِ الحَنيِّ خَواضِعُ
لَكَلَّفتَني ذَنبَ اِمرِئٍ وَتَرَكتَهُ
كَذي العُرِّ يُكوى غَيرُهُ وَهوَ راتِعُ
فَإِن كُنتُ لا ذو الضِغنِ عَنّي مُكَذَّبٌ
وَلا حَلفي عَلى البَراءَةِ نافِعُ
وَلا أَنا مَأمونٌ بِشَيءٍ أَقولُهُ
وَأَنتَ بِأَمرٍ لا مَحالَةَ واقِعُ
فَإِنَّكَ كَاللَيلِ الَّذي هُوَ مُدرِكي
وَإِن خِلتُ أَنَّ المُنتَأى عَنكَ واسِعُ
خَطاطيفُ جُحنٌ في حِبالٍ مَتينَةٍ
تَمُدُّ بِها أَيدٍ إِلَيكَ نَوازِعُ
أَتوعِدُ عَبداً لَم يَخُنكَ أَمانَةً
وَتَترُكُ عَبداً ظالِماً وَهوَ ظالِعُ
وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ
وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ
أَبى اللَهُ إِلّا عَدلَهُ وَوَفائَهُ
فَلا النُكرُ مَعروفٌ وَلا العُرفُ ضائِعُ
وَتُسقى إِذا ما شِئتَ غَيرَ مُصَرَّدٍ
بِزَوراءَ في حافاتِها المِسكُ كانِعُ
ويقول مدافعا عن نفسه ومعتذرا ومادحا:
أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لِمتَني
وَتِلكَ الَّتي أُهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ
فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشنَني
هَراساً بِهِ يُعلى فِراشي وَيُقشَبُ
حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ رَيبَةً
وَلَيسَ وَراءَ اللَهِ لِلمَرءِ مَذهَبُ
لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً
لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ
وَلَكِنَّني كُنتُ اِمرَأً لِيَ جانِبٌ
مِنَ الأَرضِ فيهِ مُستَرادٌ وَمَذهَبُ
مُلوكٌ وَإِخوانٌ إِذا ما أَتَيتُهُم
أُحَكَّمُ في أَموالِهِم وَأُقَرَّبُ
كَفِعلِكَ في قَومٍ أَراكَ اِصطَنَعتَهُم
فَلَم تَرَهُم في شُكرِ ذَلِكَ أَذنَبوا
فَلا تَترُكَنّي بِالوَعيدِ كَأَنَّني
إِلى الناسِ مَطلِيٌّ بِهِ القارُ أَجرَبُ
أَلَم تَرَ أَنَّ اللَهَ أَعطاكَ سورَةً
تَرى كُلَّ مَلكٍ دونَها يَتَذَبذَبُ
فَإِنَّكَ شَمسٌ وَالمُلوكُ كَواكِبٌ
إِذا طَلَعَت لَم يَبدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ
وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخاً لا تَلُمَّهُ
عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ
فَإِن أَكُ مَظلوماً فَعَبدٌ ظَلَمتَهُ
وَإِن تَكُ ذا عُتبى فَمِثلُكَ يُعتِبُ
❃❃❃
وكان تميم الخارجى قد خرج بشاطئ الفرات وتمرد وثار على المعتصم والخروج عن طاعته واجتمع إليه كثير من الأعراب وتحزّبوا له و ساندوه وجعلوه صاحب جماعة .
فعظم أمره وأصبح ذا شأن ومكانة عالية وبعُــد ذكره وذاع صيته وأصبحت له سمعة بين الناس ثمّ ظفر به أعاون المعتصم وقبضوا عليه وأسروه وحُمل موثقاً وذهبوا به في الحال إلى قصر المعتصم وهناك في قصر المعتصم وردت روايات تنبئ عن قوة قلبه وشكيمته فقد ورد عن عن القاضي ” أحمد بن أبي دؤاد ” كما في” المُستجاد من فعلات الأجواد ” للتنوخي قوله:
ما رأيتُ رجلاً قطّ نزل به الموتُ، وعاينه، فما أدهشه، و لا أذهله، ولا أشغله عمّا كانَ أراده، وأحبّ أن يفعلَه ، حتى بلغَه، وخلّصه الله من القتل، إلاّ ” تميم بن جميل الخارجيّ ” ، فإنّه كانَ تغلّبَ على شاطيء الفُرات ، فأخِذ ، وأتيَ بهِ إلى ” المعتصم بالله ” .
فرأيتُهُ بين يديْهِ، وقد بُسطَ لهُ النّطع والسّيف، فجعل تميم ينظر إليهما، وجعل المعتصم يُصعّد النّظرَ فيه، ويصوّبه.
وكانَ تميمٌ رجلاً جميلاً، وسيماً، جسيماً، فأرادَ المعتصم أن يستنطقَهُ، لينظرَ أينَ جنانه ولسانه من مخبره.
فقال له المُعتصم: يا تميم، تكلّم، إن كان لكَ حجّة أو عذرٌٌ فابدِه.
فقال: أمّا إذ أذنَ أميرُ المؤمنينَ بالكلام ، فأقول : الحمدللهِ الذي أحسنَ كلّ شيءٍ خلقَه ، وقد خلقَ الإنسانِ من طين، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، يا أميرَ المؤمنين، جبرَ اللهُ بكَ صدعَ الدّين ، ولمّ شعثَ المسلمين، وأخمدَ بكَ شهابَ الباطل، وأوضحَ نهجَ الحقّ ، إنّ الذنوبَ تخرسُ الألسنةَ ، وتعمي الأفئدةَ، وأيمُ الله، لقد عظمَت الجريرة، وانقطعتِ الحجّة، و كبُر الجرم، وساءَ الظنّ، ولم يبقَ إلاّ عفوُك، أو انتقامُك، وأرجو أن يكونَ أقربها منّي وأسرعهما إليّ، أوْلاهما بإمامتكَ، و أشبههما بخلافتِكَ، وأنتَ إلى العفوِ أقرب، وهوَ بكَ أشبهُ وأليق، ثمّ تمثّل بهذهِ الأبيات:
أرى الموتَ بينَ السيفِ والنّطعِ
كامناً يلاحظني من حيثُما أتلفّت
وأكـبـرُ ظـنّي أنّك الـيومَ قاتـلي
وأيّ امريءٍ ممّا قضى اللهُ يُفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذرٍ وحجّةٍ
وسيفُ المنايا بينَ عينيهِ مُصلت
وما جزعي من أن أموتَ و إنّني
لأعلمُ أنّ الموتَ شيءٌ موقّت
و لكن خلفي صـبـيـةٌ قد تركـتُـهم
وأكبادهم من حـسـرةٍ تتفتّت
كأني أراهم حينَ أنــعى إليهمُ
وقد خمّشوا حرّ الوجوهِ وصوّتوا
فإن عشتُ عاشوا سالمينَ بغبطةٍ
أذودُ الأذى عنهم وإن مُتّ موّتوا
فـكم قائـلٌ لا يـبـعـدُ الله داره
وآخـر جـذلان يـسـرّ ويـشـمتُ
قال: فتبسّم المعتصم، ثمّ قالَ : أقولُ كما قالَ رسول اللهِ صلى الله عليهِ وسلّم : ” إنّ من البيانِ لسحرا” .
ثمّ قال : يا تميم كادَ واللهِ أن يسبقَ السّيفُ العذل ، اذهبْ، فقد غفرتُ لكَ الهفوةُ، وتركتكَ للصّبية، ووهبتُكَ للهِ ولصبيتِك.
ثمّ أمرَ بفكّ قيوده، وخلعَ عليهِ ، وعقدَ له على ولايةٍ على شاطيءِ الفُرات، وأعطاهُ خمسينَ الف دينار.
❃❃❃
وفي “تاريخ الطبري” و”مروج الذهب” و”معجم شعراء العرب” والعصر العبّاسي “الثّاني لشوقي ضيف ذُكر أنّ ” محمّداً بن البعيث ” أحدَ الثّائرينِ على الدّولةِ العبّاسيّة هُزمَ ، ثمّ سيقَ مٌقيداً ذليلاً إلى الخليفةِ ” المُتوكّل ” الذي أمرَ بضربِ عنقه ، فطُرحَ على النّطع ، وجاءَ السّيّافون فلوّحوا لهُ بسيوفِهم، و قال لهُ المتوكّل حانقاً غاضبا : ما دعاك يا محمّد إلى ما صنعت ؟
فأجابه : الشّقوة و أنتَ الحبلُ الممدود بينَ اللهِ و خلقه، و إنّ لي فيكَ لظنّين أسبقُهما إلى قلبي أولاهما بك ، و هوَ العفو ، ثمّ اندفع ينشده :
أبى النّاسُ إلاّ أنّك اليومَ قاتلي
إمامَ الهدى و الصّفح بالحرّ أجمل
و هل أنا إلاّ جُبلةٌ من خطيئةٍ
وعفوُكَ من نورِ النبوّةِ يُجبلُ
تضاءلَ ذنبي عندَ عفوِكَ قلّةً
فمن بعفوٍ منكَ و العفوُ أفضل
فإنّكَ خيرُ السّابقين إلى العُلا
و لا شكّ أنْ خير الفعاليْن تفعل
فقال المُتوكّل: أفعلُ خيرَهما و أمنّ عليكَ، ارجعْ إلى منزلكَ، وخفّف عنهُ الحكمَ من الإعدامِ إلى الحبس وظلّ فيهِ حتّى وافاهُ الموت.
فانظر كيف بلغَ من ثباتِ جأشِه وجنانِه أن أنشدَ المتوكّلَ الأبياتَ السالفةَ وهوَ على النّطعِ والسيّافُ شاهرٌ سيفَه يريدُ أن ينقضّ عليهِ فيحزّ رأسه ويزهق روحَه، وشررُ الغضبِ يتطايرُ من عينيّ المُتوكّل وقد انتفخت أوداجُه. كل ذلكَ لم يملأ نفسه خوفاً ولا هلعاً، فظلّ رابطَ الجأش مجتمعَ القلب، لا تخونه الكلمةُ في اللحظةِ الحرجةِ ، بل لا يخونه البيتُ الذي يستلّ الغضبَ من نفسِ المُتوكّل . وقد بلغَ منه مبلغاً خطيراً ، حتّى أوشكَ أن يقضيَ عليهِ قضاءً مبرماً . وهي قدرةٌ نفسيةٌ كانت تمتزجُ بقدرتِهِ البيانيّة.
❃❃❃
وفي وفيات الأعيان ذكر ابن خلكان أنه حضر بساط الحجاج رجل تعين عليه القتل وحضر أهل القود بحضوره فلما فرش النطع وسل السيف اتفق أن ملأ عينه في حاله تلك فرأى بريق السيف ولمعان برق فاستنظر ثم أنشد مرتجلا:
تألق البرق من نجدٍ فقلت لهُ
يا أيها البرق إني عنك مشغولُ
يكفيك ما قد ترى من ثائر حنقٍ
في كفه كصبيب الماء مسلولُ
فلما رأى الحجاج ما كان من حضور ذهنه وجودة شعره عطف عليه إشفاقا له وعرض على طالبيه أن يؤدي عنه ديته فجعلوا يأبون وجعل يتولج في تحليل القصة ويتدرج في تنفيس الدية حتى بذل لهم دية ملك فلما أبوا وعتوا قال لحرسه فكوا قيده وخلوا سبيله فإنّ من لم ينسَ أحبّتَه في هذا المقام لجدير أن لا يُـقـتـل !