أدب

ما بين الفلسفة والأدب

بين الفلسفة والأدب سببٌ؛ قد يدقّ حتّى يخفى، وقد يستعلن حتّى لا تخطئه عين؛ لكنّه في كلّ أحواله لا ينقطع! ذلك أنَّ الفلسفةَ في جانب منها تأمّلٌ في الكونِ والإنسان، ونظرٌ في المبدأ والمآل؛ وتساؤلٌ عن الخير والشرّ، ووقوفٌ عند الزَّوال وعوامله، ومعاناة الحريّة والقيد، ورغبة في استبطان نوازع الإنسان؛ من خوف وأمن، وحبّ وبغض، وسكينة وقلق، وأمل ويأس، وهي كذلك، في جانبٍ منها، ضرب من التطلّع نحو الغيب! أمّا الأدب فإنّه تلك المعاني نفسُها مجتمعةً، ومتفرّقةً! وكلّ ما بينهما من فرق؛ أنّ الفلسفة تسلك سبيل التَّجريد، وأنّ الأدب سبيله التَّصوير والتَّجسيد.

غير أنّ الإنسان بدأ وعيه، أوّل ما بدأ، بالأسطورة؛ المهاد الذي نشأت فيه الفلسفة والأدب معًا على نحو من التشابك والامتزاج، ثمّ فارقت الفلسفةُ الأسطورةَ عند اليونان، إذ اتّخذت التَّجريد سبيلًا لها في معالجة قضاياها، وبقي الأدب يستمدّ من الأسطورة نسغًا لا يجفّ. ومضى كلٌّ في مساره؛ فصارت الفلسفة عنوانًا على البحث الحرّ المجرد، وصار الأدب عنوانًا على خوض تجربة الوجود معبّرًا عنها بالصورة المجسّدة. وعندما تمرّست الفلسفة بقضاياها، واستقرّ بناؤها، واتّضح نهجها، وغزرت أفكارها؛ صارت مددًا للأدب يأخذ منها العمق والسَّعة واتّساق الموقف.

لكنّ أيًّا منهما لم يستغن عن صاحبه؛ فإذا أرادت الفلسفة حسن البيان عن مراميها، وجلاء مقاصدها؛ استعانت بالأدب، وأفادت منه؛ فلقد أجرى أفلاطون فلسفته على قالب المحاورة، وهو صيغة أدبيّة قريبة ممّا يدور على المسرح، وجعل لغته مشرقة البيان حتّى عدّ بها من كبار الكتّاب عند اليونان. واصطنع غيره من الفلاسفة لغة الأدب في الإبانة عن مقاصده؛ كصنيع باسكال في خواطره، وصنيع نيتشه في “هكذا تكلّم زرادشت “، وفي غيره من أعماله، وعمل سارتر في “الغثيان” ، و”الذباب” إذ جعل قالب الرواية، والمسرحيّة مجلى فلسفته، ومثله كامو . وغيرهم ممّن جعل إشراقة البيان طريقه نحو الإعراب عن فلسفته كمثل برجسون . ولا يخفى أنّ اللغة الثريّة الساطعة البيان، والقالب الأدبي يحمل كلٌّ منهما وجوهًا من المعنى تجعل فلسفة الفيلسوف غزيرة المقاصد، واسعة المرامي، متاحة لمزيد من التَّأويل.

وإذا أراد الأدب سعة في الرؤية، واتّساقًا في الموقف؛ كان بأفق من الفلسفة؛ يستوحي قضاياها ويسبغ عليها ألوانًا من العاطفة والخيال. وقد شهد تاريخ الأدب من استطاع، بموهبته، أن يُلين الحقائق، وأن يجعل لها أجنحة، ويجري في مفاصلها الدم؛ كمثل الشاعر هزيود في “الأعمال والأيام”، والشاعر لوكريتس في “طبائع الأشياء” . غير أنّ ضعيف الموهبة إذا سلك هذا الدرب كبا، واستحال كلامه نظمًا باردًا.

وكلّ أديب كبير فإنّما وراءه رؤية فلسفيّة تسدد أدبه وترسم مساره. وربّما أتيح للأدب أن يعبّر عن قضايا فلسفيّة لا تستطيع الفلسفة الصرف، لصرامة منهجها،  أن تعبّر عنها. فلقد شغلت قضيّة الجبر والاختيار أذهان طلائع الفكر عند العرب المسلمين في القرنين الأوّل والثاني من الهجرة؛ فخاض فيها المتكلّمون بمختلف فرقهم على نحو من التجريد؛ لكنّ بشّار بن برد يصغي إلى وقع قضيّة الجبر والاختيار وهي تجري في دمه؛ فيقول:

خُلقتُ علـــى مــــا فيّ غيــــرَ مخيّـــر

هواي ، ولو خُيّرتُ كنتُ المهذبا 

أريد فلا أُعطى ، وأُعطى ولم أرد

وقصّر علــمــــي أن أنـال المــــغيبا 

وأُصرفُ عن قصدي وحلمي مبلغي

وأُضحي وما أعقبتُ إلّا التعجّبا

ولعلّ في قول بشّار من التصوير ، وتوقّد العاطفة ، والوجازة ما يمدّ من آفاق القضية، ويُلهم مزيدًا من التفكير فيها! ويقول في مقام من الأسى والحيرة:

وكأنَّ قلبـــــي عنـــــد كــــــلّ مصيبة

عظـــمٌ تكــــرّر صدعُــــــه فتهيـــّضا 

فاشربْ علـــــــى تَلَفِ الأحبــــّة إنّنا

جُزُرُ المنيـــّةِ ظـــاعنيـــن وخفّضـــا

وشُغل أبو نواس بالأمر نفسه؛ بحريّة الإنسان، وبما ينتابه في مجرى الزمن؛ فجعل من شعره صورة تلك الرؤية؛ يجسّدها مرّة بالخمر، ومرّة بالطلل المتآكل؛ حتّى مضى فيما يشغله أبعد ممّا مضى ذوو الفكر الفلسفيّ؛ ذلك أنّ شعر أبي نواس لا يقوم على العاطفة وحدها؛ وإنّما وراء العاطفة ذهن متسائل، متأمّل في الحياة ومجراها، وتقلّباتها، وفي الزمان وما يصنع بالإنسان وبالأشياء. ولعلَّ الذي أبقى شعره حيًّا مقروءًا على تعاقب السِّنين؛ هو تلك الأسئلة المضمرة فيه التي تدور متوهجة بعاطفة لا تنطفئ. يقول:

يا دارُ ما فعلتْ بك الأيّـــامُ

ضامتك والأيّامُ ليس تُضامُ 

عرم الزمانُ على الذين عهدتُهم

بك قاطنـين وللزمانِ عرامُ

والزمان وفعله؛ إنّما هو من أسئلة الفكر الفلسفي، وقد عالجه الشاعر مجسّدًا آثاره ممزوجة بعاطفة مشبوبة.

ولا ريب في أنّ لكلّ عصر أسئلة تدور في جوّه؛ يتناولها أهل الفلسفة بالفكر المجرد، ويتناولها أهل الأدب بالتَّصوير والتجسيد، وبين المنحيين مياه تغدو وتروح!

وكان أبو تمّام قد أدرك، بنحو ما، حركة الأشياء وتبدّلها، وأنّ السكون عارض، وأنّ الأصل حركة لا انقطاع لها؛ فأخذ يدور بشعره حول هذا الفكر، ويعبّر عنه بما يتجلّى به؛ يقول بشأن الطبيعة:

نزلتْ مقدّمةُ المصيف حميدةً

ويدُ الشـتـاء جـديدة لا تُكفرُ 

لولا الذي غرس الشتاءُ بنفسه

لاقى المصيفُ هشائماً لا تثمرُ

النص 2

ولكنّني لــــم أحـــوِ وفراً مجمّعًا

فـــــفزتُ بـــــه إلّا بشمـــــل مبدّدِ 

ولم تعطني الأيّامُ نـــومًا مسكّنًا

ألــــذّ به إلّا بنـــــــومٍ مشـــــــرّدِ

وكلا الأمرين منسوج من أضداد؛ بعضها يقوم على بعض! وليس بخاف أنّ ذلك من مدار الفكر الفلسفيّ.

وحين ينظر في الحياة ومجراها يقول:

هبيني من الدنيا ظفرتُ بكلّ ما

تمنيّـــتُ أو أعطيتُ فـــــوق الأمــانيا 

أليس الليالي غاصـــباتي بمهجتي

كما غصـــبتْ قبلي القـــرونَ الخواليــا 

فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي

أكــون رُفاتًا لا عــلــــيّ ولا ليــــا

وتلك فِكَرٌ لا تفتأ تتخلّج الذهنَ والشعورَ ، وتشحن البال بالمخاوف، لكنّها تمدّ من أفق الشعر!

وينظر البحتري في الدنيا وتقلّب أحوالها فيقول:

تراها عِيــانًا وهـــي صنعةُ واحدٍ

فتحسبُهـــا صنعــــي لطيفٍ وأخرقِ

وذلك مدرك من مدارك الحيرة التي يعيا بها ذهنُ المتأمّل !

أمّا المتنبي والمعرّي فوراء كلّ منهما فكرٌ فلسفي متّسع عميق ، يفيد من كلّ ما كان متاحاً لهما من فكر وفلسفة، ويزيد فوقها تأمّلاً ومساءلة، ويسبغ عليها وهج العاطفة.

يقول أبو الطيّب في مقام تهوين نازلة الموت:

إلفُ هذا الهواءِ أوقعَ في الأنــــ

 ـفسِ أنّ الحِمــامَ مـرُّ المـذاقِ 

والأسى قبلَ فرقة الروح عجزٌ 

والأسى لا يكون بعد الفراقِ

وهي الفكرة نفسها التي أدارها، من قبل، أبو بكر الرازي ليدفع بها عن الإنسان الخوفَ من الموت، لكنّها عند أبي الطيّب مصوغة بوجازة وإحكام يتخلّلها شعاعٌ من عاطفةٍ هادئة.

وإذ يقول أبو العلاء:

غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي

نـــــــــوحُ بـــــــاكٍ ولا ترنــــــّمُ شـــــــــــــــــادِ وشبيهٌ 

صوتُ النــــعيّ أذا قيــــــــس 

بصـــوت البشير فــي كلّ نادِ 

أبكـــــــتْ تلـــــكـــم الحمامـــــــةُ أم 

غنّتْ علــــــــــى فــــــــــــرع غصنــــــها الميّــــادِ

فإنّما يُذيب في أبياته فكرًا يرمي إلى استواء الأشياء وهي تمضي إلى الفناء !

يخلد الأدب بما وراءه من فكر ينفذ إلى خفايا النفس، وينزل إلى أعماق المجتمع، ثمّ يصوّر ذلك كلّه بقوّة واستيعاب وسلاسة.

وكلّما ابتعد الأدب عن أفق الفكر والفلسفة تضاءلت قيمته وقصُر عمره ، وكلّما اقترب من ذلك الأفق علا شأنه وبقي خالداً على الزمن .

على أنَّ الفكر الفلسفي لايصحّ أن يجيء في الأدب إلّا ذائباً في الكلمات والصور والأحداث والشخصيّات …!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقالة جيدة بيد أن كاتبها لم يستشهد على العلاقة بين الفلسفة والأدب سوى بالسلبي تقريبا دون الإيجابي ….لماذا؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى