أدب

ما بين مسكويه والتوحيدي

مِسكويهِ هو أحمدُ بن محمّد بن يعقوب؛ لا تذكر المصادر سنة ولادته؛ لكنّها تكاد تُجمع على أنّه تُوفّي في سنة 421 من الهجرة . وتذكر أنّه علت به السنُّ حتّى ضعُف ووهَى، وعسُرت عليه الحركة، وثقُلت به الأيَّام. والتوحيديّ هو عليّ بن محمّد بن العبّاس؛ لا يعرفُ من دوّن أخبارَه سنةَ ميلاده، ولا يقطع بسنة وفاته؛ فقد قيل إنّها سنةُ 400 من الهجرة، وقيل إنّها سنةُ 414 من الهجرة، وقيل في سنة بعد تلك؛ ولا أحدَ يملك أسباب اليقين بأيٍّ منها. لكنّ أخباره تُجمع على أنّ الحياة امتدّت به حتّى علت سنُّه، وعلى أنّه انقطع في أخريات عمره عن الشأن العام واختفى.

نشأ مِسكويهِ في الرّي ، ثمّ تنقّل في البلد، وأخذ طريقَ العلم، فأقبل على المعارف يتزوّد منها، ويقف على المعقول والمنقول حتّى ملأ يده من العربيّة وأدبها، واستقامت له الحكمةُ على منهجها؛ فأنشأ الرسائل، وقرض الشعر، وزاول الفلسفةَ والمنطق، وشُغل بالكيمياء. وكانت أسبابه، وهو في صدر حياته، قد اتّصلت بأبي الفضل ابن العميد ( – 360 هـ )، الكاتبِ الوزير، وحظي عنده، وصار القيّمَ على خزانة كتبه، فأفاد منه مالًا وجاهًا ورخاءً في العيش. وقد كان مِسكويهِ، في جملة أمره، رضيَ النفس، لا يتسخَّط، ولا يستثير عداوة أحد ؛ فجرت به الحياةُ مجرى هيّنًا ، وأرته شيئًا من مباهجها.

أمَّا التوحيديّ فقد نشأ في شيراز، وقيل في نيسابور، وتنقّل في البلاد، وأقام حينًا في بغداد. وكان كاتبًا رفيعَ البيان، كثير التصنيف، واسعَ المعرفة؛ قال عنه ياقوت: التوحيديّ أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء؛ ذلك أنّه ضمّ الأدبَ إلى الفلسفة، وألّف بينهما على أحسن ما يكون التأليف، وكان، مع ذلك، صوفيًّا؛ يسلك مسلكَ أهل التصوّف، ويأخذ مأخذَهم في القول والعمل؛ على أنّه ليس له مقدرتهم على امتلاك أزمّة النفس وتصريف شأنها! اتّصلت أسبابه بالوزيرين: ابن العميد، وابن عبّاد فلم يحظَ عندهما، ولم ينل في جوارهما ما كان يريد. وهو، على صدارته في الأدب والفكر، مرُّ النفس، كثير التسخُّط، سيء الظنّ بمن يتّصل بهم. وإذا كان التوحيديّ يأتسي بأبي عثمان الجاحظ في رفعةِ البيان، وسعة المدى، وكثرة التأليف؛ فإنّه يخالفه في رؤية الحياة؛ ذاك مُقْدمٌ عليها من دون خوف أو وجل، يخوض مع الناس، ويجني ما يريد، وعلى وجهه بسمةُ ساخرٍ قد أدرك السرّ وما وراءه؛ وهذا خائف وجِلٌ، يسيءُ الظنَّ، ويُكثرُ الشكاة؛ تطمح نفسُه؛ لكنّها تُردُّ دون بغيتها؛ ويُريد أن يحملَها على الزُّهد فتأبى، فينقلب أسيانَ مكتئبًا! وإذا كانت الحياة، في جملتها، قد استقامت لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فإنّها عسُرت على أبي حيّان عليّ بن محمّد التوحيديّ حتّى يئس منها وشنِئها فأقدم، في أخريات عمره، على إحراق كتبه، ثمّ اختفى فلم يقف أحد على سنة وفاته إلّا بضربٍ من الظَّن!

لقد كان التوحيديّ ومِسكويهِ من أبناء القرن الرابع الهجريّ؛ القرنِ الذي آتت فيه الحضارةُ العربيّة الإسلاميّة كلَّ ثمارها؛ حلوَها ومرَّها؛ ولدا في ربعه الأوّل وامتدّت بهما الحياة حتّى بلغا القرن الخامس، وقُدّر لهما أن يلتقيا حينًا من الزمن، وأن تتّصل بينهما الأسباب ، ثمّ أن يتباعدا ؛ وبقيت أشياءُ تدلّ على ما كان بينهما ؛ أشهرُها كتاب : “الهوامل والشوامل”، وأقوالٌ لأبي حيّان منثورةٌ في كتبه تذكرُ مسكويهِ بالإحسان مرّة وبالإساءة مرّات.

أمّا “الهوامل والشوامل” فهو سؤالاتٌ يُلقيها أبو حيّان على مسكويهِ، وجواباتٌ يتلقّاها منه ؛ ومدارها قضايا في اللغة، والفكر، والدين، والعلم، والأخلاق. وقد كان التوحيديّ مُبينًا يُحكم صياغةَ سؤاله ، وينشر فيه ظلالًا من روحه ، وكان مسكويهِ يكتفي من اللغة بما يؤدي المعنى، ويفي بالإجابة، من دون أن يذهب إلى شيء من حسن البيان؛ على أنّه قد يلتوي عنده القول، في مواضعَ، فيضيع المعنى، وتختل الإبانة. ولعلّ من دلالة “الهوامل والشوامل”، أنّ بين التوحيديّ ومسكويهِ مودّةً إن لم تكن متينةً فهي شيء يجعل الحبلَ بينهما متّصلًا، ويُتيح للتوحيديّ أن يسأل، ولمسكويهِ أن يُجيب، وأن يضمّ السؤالاتِ وجواباتها، من بعد، كتابٌ عليه اسماهما معًا!

ذلك هو كتابهما الجامعُ اسميهما؛ “الهوامل والشوامل” ؛ أمّا أقوال أبي حيّان في مسكويهِ فإنّ منها ما ورد في “الإمتاع والمؤانسة”، وقد جرى حديثه في طائفة من متكلمي زمانه؛ فقال: “وأمّا مسكويهِ ففقيرٌ بين أغنياء، وعييّ بين أبيناء”. ولعلَّ من المفيد أن نضع إلى جوار قول التوحيديّ قولَ الثعالبيّ ، وهو من عصرهما ، في مسكويهِ : “كان في الذُّروة العليا من الفضلِ والأدب والبلاغة والشعر”. لكي يتَّضحَ الغلوُ والإسرافُ في الذمّ والحمد! ذلك أنَّ مِسكويهِ ليس عييًّا ولا فقيرًا، وهو أيضًا ليس في الذروة من الأدب والشعر؛ وإنّما هو صاحب تاريخٍ وأخلاق وفلسفة، لا يبلغ الذُّروةَ في البيان، ولا ينحطُّ عن أصحاب الفكر في عصره!

ويذمّه، أيضًا، بأنّه صحِب ابنَ العميد، فلم يُفد من علمه ومن أدبه؛ لانشغال ذهنه بالكيمياء، وتحويل المعدن الخسيس إلى ذهب نفيس؛  طمعًا بالمال وحرصًا عليه من كلّ وجه، وأنّه عرف جماعة من أهل الفضل في الريّ فلم ينتفع منهم! ومِسكويهِ، من بعد، عند التوحيديّ بخيلٌ، مغلولُ اليد، بطيءُ الذهن كابي الزند!

وكلّما عرض أمرٌ اهتبله أبو حيّان لينال من مِسكويهِ؛ فلقد جاء عليه في “البصائر والذخائر”، إذ أورد بيتَ كُثيّر:

وكنتُ كذي رجْلَينِ رجلٍ صحيحةٍ

وأخرى رمى فيها الزمانُ فشَلَّتِ

فقال: “الشين مفتوحة، ولقد غلِط فيها مرّةً مِسكويهِ، وكابر، إلى أن فضحتْهُ المحنةُ، وسوّرتْه المواقعة، والإعجاب مصرعه؛  وقلّ من تكبّر على الناس وحقَر أهلَ الفضل إلّا عاجلتْهُ العقوبةُ، ونهكتْه اللائمةُ، وأمكن منه الدهرُ”.

وكلُّ قول من أولئك الأقوال يُخفي تحته إحنةً لا تخفى، ويجهر بمرارة نفس أبي حيّان! وكلّما قرأتُها قلت: ما أغنى أبا حيّان عنها، وعن أمثالها!  وهو الخالدُ بأدبه وبيانه الرفيع…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى