محمّد مندور ( 1907 – 1965 ) أوَّلُ من قصر جهده على النَّقد الأدبيِّ، وزاوله بوعي ومهارة؛ وكلُّ من كان قبله إنَّما كان النَّقد الأدبيّ عنده شيئًا من أشياء، ولونًا من ألوانِ الكتابة والتَّأليف. كان النَّقد الأدبي، في أُخريات القرن التَّاسع عشر وأُوليات القرن العشرين، مقصورًا على الألفاظ وصحتها، وعلى المعاني واستقامتها؛ لا يكاد يفارق ما استقرَّ عليه القدماء عند النَّظر في الشعر وبلاغته؛ حتّى اتّصلت الثقافة العربيّة بالثقافة الغربيّة؛ فرأى النَّاس أنَّ النقد الأدبيّ ميدان فسيح، تتّسع فيه الأفكار، وتتعدّد فيه المشارب، ولا يقف عند تلك النواحي الجزئيّة من استعارة حسنة، أو تشبيه مصيب، أو لفظ فصيح عذب الوقع في السمع. ولقد كان في الطبقة الأولى التي ذلّلت سبلًا جديدة للنقد الأدبيّ؛ طه حسين، وعبّاس محمود العقّاد، وميخائيل نعيمة، وإبراهيم عبد القادر المازني؛ إذ جعلوا النقد الأدبي شيئًا يتّصل بالتاريخ، ويتّصل بالمجتمع، ويهبط مع النَّصِّ إلى مخبَّئات الأنفس، ويقف عند اللغة؛ يتطلّب منها الجديد في الصياغة؛ غير أنّهم جميعًا لم يقصروا حركتهم على ميدان النقد الأدبيّ؛ بل كانت لهم ميادين أخرى من الكتابة والتأليف؛ ولا ريب في أنَّ الانقطاع لضرب من ضروب الكتابة يورث تمكّنًا منه، وحسنَ سيطرة عليه، ويُتيح لمغاليقه أن تتفتّح .
لقد نشأ محمّد مندور، وهو يرى هذا الجيل الكريم قد مهّد الأرض، وبذر البذار، وأجرى الماء، ونشر الضياء؛ فكان له أن يُفيد منهم أجمعين، وأن يُحسن الإفادة. كان مندور ينطوي على موهبة الناقد القادر على تذوّق الأدب وتفهّمه ، وقد أدرك ذلك منه، في قاعة الدرس؛ طه حسين؛ يوم كان طالبًا يدرس الحقوق، ويرغبُ أن يصبح “وكيل نيابة”؛ فدلّه على نفسه، وأرشده إلى طريقه، وأغراه بأن ينصرف إلى الأدب؛ لكنّ مندورًا أراد أن يجمع الأمرين: القانون والأدب، وأن يستزيد منهما معًا، وقد بقي على شأنه هذا حين ابتُعث إلى فرنسا؛ إذ أخذ في دراسة القانون والاتّساع بها، وأخذ في دراسة الأدب دراسة وافية تقوم على حسن التفهّم والتذوق، وتشرّب القيم الرفيعة. لقد كان في بعثته طالب معرفة أكثر من كونه طالب شهادة؛ فلئن عاد إلى بلده، بعد تسع سنوات، من دون شهادة دكتوراه؛ فلقد عاد بزاد وفير من الأدب اليوناني واللاتيني والفرنسي، وبمثله من الفكر الفلسفي والاجتماعي، وبذوق صقيل يدرك الجمال، ويحسن البيان عنه. ثمّ لم تفته الدكتوراه؛ فأدركها من جامعة فؤاد الأوّل (القاهرة) بأطروحة عنوانها: (تيّارات النقد العربيّ في القرن الرابع الهجري) التي صدرت، من بعد، بكتاب عنوانه: (النقد المنهجي عند العرب).
كان مندور قد أُشرب حبّ الأدب العربيّ القديم، ثمَّ أُشرب حبّ الأدب الفرنسيّ، واعتدل الأمر لديه بينهما، وتوازنت الرؤية، وجعل كلُّ أدب يزيده بصيرة بالآخر، ويضيء له ما خفي منه. وشرع يزاول النقد على هدي من معرفة رصينة، وذوق مرهف؛ يقول: (ولقد كنت أومن بأنّ المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدقّ المناهج، وأفعلها في النفس؛ وأساس ذلك المنهج هو ما يسمّونه “تفسير النصوص”). ومن بدأ بالنَّصِّ فقد سلك الطريق القويم في النقد الأدبي؛ ويرى، من بعد، أنّ تفسير النصّ إنّما يبدأ من لغته وصياغتها، ولا يصحّ أن تُفرض مناهج العلم، أو العلم نفسه، على نصوص الأدب من أجل تفسيرها، بل تُؤخذ من العلم روحه في التقصّي، وحبّ الحقيقة، واستيعاب المعرفة، والنظر المتوازن، وحسن الصبر، والأناة. ولا يغني شيء، عنده، عن الذوق في معرفة الأدب؛ فالذوق أوّلًا؛ ثمَّ تجيء المعرفة المحلّلة المعلّلة؛ لتجعل الذوق شيئًا يصحّ عند الآخرين . وقد أفاده الأدب الفرنسيّ ومنهجه في دراسة النصوص؛ أن يجدّد معرفته بعبد القاهر الجرجانيِّ، وأن يقف من جديد عند كتابيه: دلائل الإعجاز ، وأسرار البلاغة؛ وأن يهتدي إلى منهج في دراسة الأدب؛ سمّاه : المنهج الفقهي ؛ يريد فقه اللغة الذي يدرس الألفاظ، وطرائقها في حمل المعنى، وفي أدائه؛ على وجه التصريح حينًا، وعلى وجه الإيحاء الخفي حينًا آخر. يقول: (منهج فقه اللغة الذي ندعو إليه، عارضين آراء الجرجانيّ كمثل، لا يتنكّر لمعرفة النفس البشريّة؛ لأنّه يفرّق بين تلك المعرفة وقوانين علم النفس، كما لا يتنكّر لروح العلم، وإنَّ أقصى قوانين العلم). وهو يريد، بذلك، أن يُشتقّ المنهجُ النقديّ من مادّة الأدب نفسها، من اللغة، وليس من علم النفس، أو علم الاجتماع، أو من التاريخ، أو ممّا أشبه ذلك من علوم ومعارف؛ لأنَّ العلم، بما هو علم، يُعنى بما هو عام مجرّد، ويُسقط ما هو فردي؛ والأدب إنّما يُعنى بما هو عينيّ فرديّ شاخص؛ فلا بدّ له من منهج مشتقّ من مادّته، مع الإفادة من روح العلم وجوّه وما يفتح من آفاق تزيد في رحابة التجربة الإنسانيّة.
وهو في ذلك إنّما يستقي من التراث العربيّ، ومن الأدب الفرنسيّ، ويوائم بينهما؛ وإذا كان أقرب قريبين إليه من التراث ؛ الآمدي وعبد القاهر الجرجانيّ؛ فإنّ أقرب قريبين إليه من الأدب الفرنسيّ؛ جورج ديهامل ولانسون. وقد ترجم من آثار ديهامل: (دفاع عن الأدب)، وترجم من آثار لانسون: (منهج البحث في تاريخ الآداب) . ولا يخطئ النَّاظر في آثار مندور أن يلحظ سريان روح هذين الكتابين فيها. ويلتقي الرافدان؛ العربيّ والغربيّ، لدى مندور، على العناية بالنصّ الرفيع، وتذوّقه، وتفهّمه؛ على أنَّ القولة العربيّة القديمة: (إنّ من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤدّيها الصفة) تقف به عند حدّ في التعليل ، وبيان الأسباب، وتُقنعه أن جانبًا من الذوق لا يعلل .
لقد حرص مندور على أن يسير عنصرا النظريّة والتطبيق معًا، وألّا يتأخر أيّ منهما عن صاحبه؛ فكتب في الجانب النظريّ: (في الأدب والنقد) و(الأدب ومذاهبه) ، وكتب في الجانب التطبيقيّ: (في الميزان الجديد) و(الشعر المصريّ بعد شوقي) و (خليل مطران) و(مسرح توفيق الحكيم ) وغيرها .
وكان سعيه في الجانب النظريّ؛ أن تّتضح مفاهيم النقد الأدبي اتّضاحًا كافيًّا عبر تاريخها؛ ذلك أن المفهوم النقديّ لا يُفهم حقّ الفهم إذ قُطع من سياق نشأته، ونُظر إليه منفردًا؛ وقد تمّ له ذلك حتّى عُدّ من خير من اتّضحت عنده تلك المفاهيم، ومن خير من أحسن استعمالها. وكان سعيه في الجانب التطبيقيّ؛ أن يقف عند قيم الأصالة والجمال ، وعناصر التجديد في النصوص الأدبيّة . ثمّ اتّسع النقد عنده ، بعد سنين من المزاولة ، وانضمّت إليه ناحية اجتماعيّة ، ومال ، بنحوٍ ما، إلى الواقعيّة الاشتراكيّة، وشغله المحتوى أكثر ممّا شغلته الصياغة.
إنّ محمّد مندور ناقد رائد صدق أهله ، وأخلص نفسه لقضية النقد الأدبيّ ، وما زالت الروح التي صدر عنها قادرة على الإلهام …!