أدب

محمود محمّد شاكر.. الناقد

قليلٌ مثله من فهم الشعر العربيّ القديم، وأحسن تذوّقه، وكان قادرًا أن يُبين عن فهمه، وتذوّقه أتمَّ بيان، وقليلٌ مثله من ملأ يده من اللغة، واستوعب أسرارها، وطرائق بيانها؛ حتّى استقامت له، وصارت طوع قلمه يعرب بها عمّا يشاء، وقليلٌ مثله من أبناء هذا الزمن؛ من لا تضطرب خطواته إذا جارى قدماء أهل اللغة والأدب.

ولد في مطلع القرن العشرين، في سنة 1909، في بيتٍ عريقٍ من بيوت الدين، والعربيّة؛ وقد كانت العربيّة، يومئذٍ، لا تفارق الدين وعلومه؛ يأخذها دارس الحديث، والفقه، ويتّسع بها، ويحرص عليها سليمة، فصيحة، نقيّة. كان أبوه، يوم ولد، كبير علماء الإسكندريّة، فقيهًا محدّثًا، وكان أخوه الأكبر؛ الشيخ أحمد، قد سلك الدرب نفسه: درب الفقه، والحديث الشريف، واللغة العربيّة، ليكون، من بعد، محدّثًا محقّقًا، ذا منزلة رفيعة في ميداني؛ الحديث النبوي، والتحقيق.

نشأ محمود يحيط به جوّ من اللغة، والدّيانة؛ وشرع يأخذ العلم على رجال بيته؛ علمَ الحديث، وعلمَ اللغة، ويحفظ القرآن، ويسلك درب الأسرة نفسه؛ لكنّه جعل يزيد من إقباله على الشعر القديم؛ يحفظه، ويتفهّم شرحه، ويقرأ كلّ ما يتّصل به من خبر، أو لغة، وكلّ ما يجعل معناه واضحًا عنده، متماسكًا لا يبرأ بعضه من بعض. وكان قد أخذ الأدب عن الشيخ سيّد بن عليّ المرصفيّ؛ شيخ شيوخ الأدب في مطالع القرن العشرين؛ حتّى إذا التحق بكلّية الآداب، وسمع أستاذه طه حسين يُعلن شكّه في الشعر الجاهلي؛ صعب عليه أن يُهدَم شعر عزيز؛ كان قد طفق يتذوّقه، ويتفهّمه، ويتبيّن طرائقه في البيان؛ وصعب عليه أن يُغضي، وهو الواثق ممّا لديه؛ فأضرب صفحاً عن كلّية الآداب، وطوى ما بينه وبينها، وانصرف إلى نفسه يقرأ، ويتأمّل، ويستزيد من العربيّة وأدبها؛ لا يريد أن يقف عند عصر من عصورها وحده، بل يريدها، ويريد أدبها في أعصرها كلّها.

وكان قد مال إلى مصطفى صادق الرافعيّ، فأحبّه وأحبّ مجلسه، ووجد فيه عونًا على ما يلقى، وأدرك أنّ بينهما سببًا خفيًّا ممدودًا؛ لكنّ الصحبةَ لم تطل والسعادة لم تتمّ؛ إذ امتدّت يدُ الموت مسرعةً إلى الرافعيّ فطوته، وفجعت به أحبّته؛ وكانت فجيعةُ محمود به شديدةً، ملأت عليه نفسه، واستبدّت به، وهاجت كوامنَ أحزانه؛ فكان ممّا قال في رثائه: “لم أفقدك أيّها الحبيب، ولكنّي فقدتُ قلبي. كنتَ لي أملاً استمسك به كلّما تقطّعت آمالي في الحياة. كنتَ راحة قلبي كلّما اضطرب القلبُ في العناء…”. قال ذلك في أيّار 1937، حتّى إذا مضت ثلاث سنوات، ودار الزمان بذكرى الرافعيّ كتب في أيّار 1940: ” … شدّ ما اختلفت عليّ أحداثُ الحياة من بعدك أيّها الحبيب! كنتُ أشكو إليك ما ألاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطيع أن ترد … شدّ ما اختلفت عليّ أحداث الحياة من بعدك أيّها الحبيب! وها أنذا أريد أن أجد بعدك من أضع في يديه الرفيقتين هذه الجروح الدامية النابضة التي أسمّيها قلبي … أريد من أقول له: ها أنذا بعذابي وضعفي وخضوعي؛ فيقول: وها أنذا بصبري وقوّتي وحبّي لك …”.

وهذا نصٌّ نفيسٌ عالٍ في بوحٍ قلّما دنا منه الشيخ شاكر في شعر أو نثر!

وقبل أن يبتّ الموت ما بينه وبين الرافعيّ، دعته مجلةُ ( المقتطف )، حين أرادت أن تحتفل بالمتنبّي، إلى أن يكتب شيئًا عن أبي الطيّب؛ فعاد ينظر في ديوانه،  وينظر في ما كتب القدماء عنه، ويتأمّل الشعر، ويعرض الأخبارَ عليه، ويتذوّق الكلمة، والبيت، والقصيدة، وينفذ من ظاهرٍ إلى ما وراءه، ويقرأ الخفيّ الذي استكن في طيّات اللفظ؛ حتّى استقام له منحى جليّ في تبيّن معالم شعر أبي الطيّب، وتمّت له الدراسة على أحسن ما تتمّ به دراسة لصاحبها، ونُشرتْ في مجلّة ( المقتطف )، وقد استغرقتْ ” عددًا ” بتمامه، ولقيت رضا واسعًا، وثناء كثيرًا، وعُدّت أثرًا مبتكرًا عزيز النظير. وكان منطلقه فيها النصّ؛ يبدأ منه ويرجع إليه، ولا يرضى أن يُثقله بما هو بعيد عنه. لكنّه ما كاد يُتمّها، ويرسلها إلى المجلّة، حتّى أدركته حمّى شديدة ألزمته الفراش أيّامًا!

وكلّما تقدّمت به السن، وزاد معرفة، وبصيرة؛ اتّضحت عناصر منهجه، واتلأبّت معالمه؛ غير أنّه شُغل بالتحقيق، ومراجعة المخطوطات القديمة؛ فنشر تفسير الطبري مصحّحًا، مقوّمًا، بعيدًا من شائبة التصحيف، والتحريف، ونشر طبقات ابن سلّام، وشرح ما يقتضي الشرح من أشعاره، وزاد في الشرح تذوّقًا وتفهّمًا، وجلا بنافذ بصيرته ما كان يبدو ملتبس المعنى. فإذا كان من شرّاح الشعر من يكتفي بإيراد معاني الألفاظ على نحو ما توردها المعجمات؛ فإنّ محمود محمّد شاكر لا يعدُّ ذلك وافيًا بحقّ الشعر، ولا يكتفي به، ولا يرضى حتّى يكتمل لديه المعنى واضحًا متماسكًا منسجمًا تلتقي أطرافه على ما يزيده عمقًا وسعة. وربّما خالف القدماء في وجه الشرح والتفسير، واتّجه له من القول ما لم يتّجه لهم. من ذلك ما وقف به عند بيت الفرزدق:

والشيبُ ينهضُ في الشّباب، كأنّه

ليلٌ يصيحُ بجانبيه نهارُ

يقول: “وأصحاب البلاغة يعدّونه من التشبيه، تشبيه بياض الشعر وسواده، ببياض النهار وسواد الليل، وهذا معنى مغسول لا خير فيه، وإنّما فعلوا ذلك حين أفردوا هذا البيت بالاستشهاد، وهو ثالث أبيات أربعة متماسكات، وهي من الذرى الرفيعة في الشعر، ساقها الفرزدق بعد أن فرغ من التشبيب بنساء أجاد في تمجيدهن، ثمّ خرج إلى ملامة امرأته ” النوار “، تلومه على تبذّله وتصابيه ولهوه، وقد بلغ ما بلغ، فقال:

إنّ الملامةَ مثلُ ما بكرتْ به

 مــن تحت ليلتــها عليــكَ نوارُ

وتقولُ: كيف يميل مثلُك للصبا

وعليكَ من سِمَة الحليمِ وقارُ

والشيبُ ينهض في الشباب كأنّه

ليلٌ يصيح بجانبيه نهارُ

إنّ الشبابَ لرابحٌ من باعه 

 والشيبَ ليـــس لبـــائــعيه تِجـــــارُ

فهذا البيت الثالث من تمام الذي قبله وهو من قول النّوار في ملامتها له … فلم يُرد بالشيب والشباب، ولا بالليل والنهار، لونهما من بياض وسواد، وإنّما أراد الحِلم والجهل، والهدى والضلال، واليقظة والغفلة. وقوله: “والشيب ينهض في الشباب” يسرع فيه كأنّه يتحرك ويدبّ، تدبّ التجربة والعقل والفهم واليقظة، لتنفي عن النفس جهلَها وطيشها وغفلتها، وقوله ” كأنّه ” أراد تشبيه حالةٍ مجتمعة، بحال أخرى مجتمعة، لا تشبيه لون بلون، فإنّه إسقاط للشعر”.

وبمثل هذا النظر المتأنّي، المتذوّق، يقف محمود محمّد شاكر عند الشعر، ويتفهّمه، ويُفهمه؛ لكنّها وقفات قليلة بجملتها، قد تجيء في سياق نشر كتاب قديم، كمثل ما جاء في حواشي طبقات ابن سلّام، أو تجيء في سياق مساجلة، كالتي أتت في ( أباطيل وأسمار )؛ المقالات التي ردّ فيها على لويس عوض أحاديثَه في رسالة الغفران، وألمّ بأبيات من الشعر القديم  متفهّمًا متذوّقًا.

وربّما وقف عند قصيدة تامّة، واستوفى فيها مناحي القول؛ إذا اقتضى أمرٌ ذلك منه؛ كالذي قام به إذ وقف عند قصيدة: (إنّ بالشِعب الذي دون سلعٍ) “استجابة لهوى صديق قديم” هو يحيى حقّي. فنشر سبع مقالات طوال، في مجلّة ” المجلّة ” يدرس فيها القصيدة القديمة دراسة مفصّلة ذكيّة، تضعها في سياقها من الشعر القديم، وتتذوّقها لفظاً لفظاً، وبيتاً بيتاً، ومورداً مورداً، حتّى تتمّ أثراً متآزر العناصر، يأتلف فيه الوزن مع المعنى، وينزل اللفظ منزله من مراد الشاعر، ولولا الناقد الماهر لبقيت القصيدة أشتاتاً لا يضمّها نظام، وإنّما القراءة البصيرة هي التي تجلو الألفاظ، ويتكشّف بها المعنى. نشر المقالات السبع في مجلّة ” المجلّة ” وكان رئيس تحريرها صديقه يحيى حقّي؛ بين عامي 1969 و1970، تحت عنوان واحد هو: نمطٌ صعبٌ، ونمطٌ مخيفٌ، وبقيت سنين طيّ صفحات المجلّة، حتّى أُتيح لها أن تظهر في كتاب سنة 1996 بالعنوان القديم نفسه: نمط صعب، ونمط مخيف؛ فإذا بها أثر عزيز من آثار هذا العصر؛ تقرؤه بصفحاته الأربعمئة فلا تجد إلّا ما يُمتعك ويزيدك علماً بالقصيدة، وتذوّقاً لها وانسجاماً معها.

وقليل مثل الشيخ محمود محمّد شاكر من يفهم الشعر هذا الفهم، ويحسن تذوّقه، ويكتب عنه بهذا البيان التام، وإنّ ما بين يديه من منهج لهو طِلْبةُ من يبتغي نقداً عربيّاً صرفاً…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى