د. عبد الغني المقرمي
ـ متى ستعودُ؟!
وينتصبُ الدمعُ بيني وبينَ مواسِمِها برزخاً من حنينٍ، يوزِّعُني وحشةً في هجير المنافي، وينثرُني في مهبِّ النوى حفْنةً من ترابِ
ـ متى سأعودُ؟؟!
وينتفضُ القلبُ منكسراً تحتَ أمطار حزني.. وتذْرفُني الزفراتُ غمامةَ عشقٍ تجوبُ أزقَّتَها حيث أورقتِ الروحُ ذاتَ صبىً، واحتوتْني مراتعُها كالفراشةِ.. أحْملُ في برعمِ القلبِ كلَّ شجونِ الفصولِ.. وأسبقُ ظلِّي لأسألَ عنها وجوهَ الصحابِ
وكانَ الزمانُ.. وكانَ.. وكانَ.. وكانَ الفتى عاشقاً.. يتلبّسُ بالدهشةِ البكْرِ.. يحيا جنونَ البراءةِ.. ينسجُ أشواقَهُ الخضرَ ذاكرةً للمكانِ.. ويقرأ سِفْرَ الخليقةِ في أوجهِ العابرينَ .. ويمضي وحيداً إلى ظلِّ مُورقةٍ يتأمّلُ كيفَ تبيحُ الحقولُ مفاتنَها لنسائمِ آبِ
وما سكَنتْ روحُهُ تحتَ ناشئةِ الليلِ إلا وقامَ إلى معزفِ الشعر، يرسمُ بالكلماتِ طقوسَ الزمانِ الجميل، ويُترع كأسَ الحنينِ مضمّخةً بالهوى والشبابِ
وينهضُ ممتشقاً قلبَهُ كلّما لامسَ الفجرُ أجفانَهُ ودعاهُ إلى شُرفةٍ للمنى سكرتْ بالندى يتهجّى فتونَ الهوى، وفنونَ التصابي
وما زلتُ أذكرها ضحوةً ينْسجُ الصحوُ أطيافَها الحالماتِ، وتدخلُ عند الظهيرةِ مقصورةً من دموعِ السماءِ، تمدُّ ظفائرها ألقاً في السواقي، وتنشر أطيابَها روعةً تستثير شجونَ الشعابِ
وتنشرُ شمسُ الأصيلِ ذوائبَها عسجداً في التلالِ، وتبْسُمُ حينَ ترى وجهَها في مرايا الحقولِ، وقد غادرتْها ثقالُ السحابِ
وحين يَجِنُّ المساءُ تجفِّفُ أهدابَها، وتنيمُ عواطفها.. وتنامُ على تمْتماتِ الرياحِ، ورجعِ الصدى، ونباحِ الكلابِ
*
وأذكرُ من أمْسِها يومَ فاجأني الشعرُ سِرْباً من الأغنياتِ.. وأدْخلنَي حَرَماً آمناً يغسلُ الشعراءُ بهيكلهِ كلَّ أوجاعِهم، ويذوبونَ طيَّ القصيدةِ نهراً من العشْقِ لا ينتهي.. وأراني فضاءً من الضوءِ والكلماتِ.. وعلّمَني وشْوشاتِ السواقي، وبوحَ الربى، وصلاةَ الهضابِ
وعلّمَني أنْ أكونَ.. فكنتُ.. ورحتُ أفتّش بين الوجوهِ الكثيرةِ عمّنْ يكونُ أنا.. وأشاطِرُهُ لحْظةَ البوحِ.. خبزَ القصيدةِ.. دفءَ الشعورِ… فلم ألقَ غيرَ ترابٍ تكدّسَ في الطرقاتِ، وغير قبورٍ مدثّرةٍ بوجيبِ البِلى.. وسكونِ الخرابِ
وها أنذا ما أزالُ أفتّش عنّي
وأنهلُ من وجعِ الروحِ.. من خَيْبةِ العُمْرِ فنّي
وأنثرُ أوردَتي وجعاً يتدلّى بناصيةِ الموتِ حَبْلاً .. وحزْناً يبيحُ مدائنَ عِشقي لقسوةِ هذا الزمانِ العذابِ
فيا شَجناً في ضميرِ القصيدةِ.. يا نَغَماً أستعيدُ تقاسيمَهُ كلَما فاتَني الوقتُ.. ياغيمةً تستظلُّ بها الروحُ في مُوحشاتِ النوى وهجيرِ اغْترابي
خذيني إليكِ.. فقد تعبتْ منْ جنونِ المسافةِ خيْلي.. وغادرْتُ ذاتي.. وضاعَ الزمانُ الذي كنتُهُ في مَرايا الغيابِ
خذيني.. فقد آنَ لي أن أعودَ إليَّ..
إلى واحَةٍ في أقاصي الفؤادِ نسجتُ مع الروحِ في ظِلِّها موعدا -ليسَ نخلفُهُ- للإيابِ
ـ متى سأعودُ؟؟
وينتفضُ القلبُ منكسراً تحتَ أمطارِ حزني، وينتصب الدمعُ بيني وبينَ مواسمها برزخاً من حنينً، فيعيا جوابي
(متى).. شجنٌ تستظلُّ بهِ الروحُ في غاشياتِ الأسى، وانتظارٌ يلوكُ المنى في رصيفِ السرابِ
وأطيافُ ماضٍ تسافرُ في هدأةِ الليلِ منها إليَّ.. وتطرق عندَ الهزيعِ الأخيرِ من الشوقِ بابي
وتحملني كالغريبِ إليها.. وتذرفني في شبابيكها الواجماتِ ندىً.. وصدىً مثقلاً بمواويلِ شوقي ورجْعِ انْتحابي
ـ متى..؟؟
ـ ساعودُ.. فبي لوعةٌ لا تكفُّ.. وبي ظمأٌ لأصائلها.. لمسارحِ غزلانها.. لمراتعِ وجدٍ قديمٍ أضاءَ القناديلَ حيناً من الشعر، ثم خبا.. وتلاشى كومض ضئيل تبدَّدَ في عالم من ضبابِ
وأنَّى ليَ المنتأى..؟؟ وهْيَ تسكُنُني.. تسكبُ الضوءَ في لُغتي.. تتسلَّلُ عاريةً كالبخورِ إلى شُرْفةِ البوحِ تُشعلُ عشقي.. وتورقُ أزْمنةً في كتاب الهوى.. في كتابي*
غدا سأعودُ..
فما زال في القلبِ متّسعٌ لمباهجها.. لمواجعها..
ولموتٍ يصيّرني فرحةً تتفيّأُ ما عشتُ من نسماتِ الصبا وشجونِ الشبابِ