أدب

هل كُتب العقاد صعبة كما يُشاع؟

ترتبط قضية صعوبة كُتُب العقاد، وصعوبة بعض الكُتَّاب الآخرين -مثل مصطفى صادق الرافعي-؛ بقضية أكبر وأخطر في الفكر والأدب العربيين المعاصرين؛ وهي نمط السهولة، أو النزعة إلى التسهيل، وصَرعَة التسابق على التواصل مع الجمهور الأعرض. تلك الصرعة التي استعر أوارها منذ الجيل اللاحق للعقاد، وصولًا إلى جيلنا الحالي. ولست في محل بحث نزعة التسهيل المعاصرة (وهي معاصرة لأنها لم تنقطع منذ بدأت، بل تنامت واستفحلت)، لكنني أوضح أهمية الموضوع محل النقاش. فلسنا هنا في إطار مشكلة جزئية فردية تتعلق بشخص أحد الكُتاب العرب الذي يسمى العقاد؛ بل أؤكد هنا أننا أمام مشكلة جسيمة تشكل أحد ملامح الثقافة العربية المعاصرة، أسوقها في نموذج واحد منها، هو العقاد. هذا هو التكييف الدقيق لما يطرح في التالي من سطور.

وكنت منذ زمن أتلقى من أصدقائي ومعارفي المهتمين بالكتب والقراءة شكاوى عن صعوبة كتب العقاد، والرافعي؛ مُقارنة ببعض أبناء جيلهما، مثل توفيق الحكيم، وطه حسين، والمازني، وعلي أدهم، وعلي أحمد باكثير، وغيرهم؛ فضلًا عمَّن تأخروا عنهما زمنًا، لكنهم في حُكم أهل الزمان متقدمون ككل المُتقدمين، ولا يُفرِّق بين “الأجيال الأدبية والفكرية” إلا القارئُ المُدقق العارف. وكانت تفاعُلي مع الشكاوى بالنفي غالبًا، مع التفريق بين حالتَي العقاد والرافعي؛ فلكل منهما توصيف معين في توضيح أسباب الصعوبة التي قد تظهر أمام القارئ. ثم مضت السنون، وأنا ما زلت أتسمَّع هذا الرأي بين حين وآخر؛ حتى سألني -على حين غرة، وفي غير موضوع- أحد الدعاة ذوي الشهرة: سمعت كثيرًا أن كُتب العقاد صعبة؛ فهل هذا صحيح؟ .. فوقعت على ما أصاب تلك الفرية من حظ انتشار وسعة بين الناس، صدَّ بعض القراء عن مباشرة كُتب العقاد الثرية المتينة.

ويبدو لي أن الشاكِّين صنفان؛ صنف لم يطاولوا الممارسة مع كتابات العقاد، فاكتفوا في تكوين حُكمهم بما اتفق لهم من كُتبه (وقد تقل لتصير كتابًا أو مقالة وحسب)، وبعضها صعبة بلا خلاف -ككل مَن كتب في مساحات معرفية شاسعة كالعقاد، مستخدمًا ما طوَّعَه العقاد من مناهج-. وصنف تلقَّفُوا الحُكم من أقرانهم القارئين شائعةً سائرةً بين القراء، وبشيوعها تمكَّنتْ وصارت سمعة ملاصقة لكتب العقاد عندهم.

ومتى أردتُ فهم وإفهام وتسبيب مظهر الصعوبة الذي يجده بعض القارئين في أنفسهم تجاه كُتُب العقاد؛ فرَّقتُ بين صنفين من هذه الأسباب: صنف سياقي مُباين للكُتُب لكنه مؤثر في إلحاق الصعوبة تأثيرًا، وصنف آخر يتعلق بالكُتُب نفسها في خصائصها وأساليبها. وسأعرض في القادم لما سببتُ به الظاهرة، مع التدليل عليها من مظانها ومصادرها؛ مُناقشًا لها، مُفنِّدًا للفهم الخاطئ الواقع، مُزيلًا الشبهة عن كتابات العقاد. خاتمًا بمزايا في كتبه ونفسه، تدفع إلى احترام ما كتب والإقبال على قراءته. ولا أقصد بما أتيت تفضيلًا مطلقًا للعقاد، فهو كاتب فاضل، أتى بالحسن وأتى بما ليس حسنًا؛ إنما أردت دفع الظلم عنه، والأهم دفع الظلم عن الكتابة الجادة التي يجب على الكثرة أن تُقبل عليها -وإنْ بالقدر اليسير-.

2 هل كُتب العقاد صعبة كما يُشاع؟

الأسباب السياقيَّة لصعوبة كُتب العقاد

1-   أكبر وأعظم أسباب هذه الظاهرة؛ هي الإشاعة التي أذاعها بعض الكُتَّاب بصعوبة كتب العقاد. وقد أشاع هذه الإشاعة صنفانِ؛ أولهما بعض تلاميذه، مثل أنيس منصور؛ الذي كان من أشد المُذيعين هذه الفرية. ولو كانت للأرض آذان بها تتسمَّع؛ لصُدِّعت من كثرة ما أذاع أنيس أن العقاد صعب معقد، حتى صُمَّت. فما ترك كتابًا أو مقالًا أو حوارًا يستطيع فيه أن يشيع هذا إلا أشاعه. ولأنه أكبر المُشيعين لمحل النقاش؛ أخصص له بعض سطور في إيرادِ ما تصوَّرَه ودحضِهِ؛ عائدًا بعدها للصنف الآخر.

من بين الكتب الكثيرة التي عرض فيها أنيس دعواه أقف على كتابه “في صالون العقاد كانت لنا أيام”؛ لأنقل وجه دعواه. فقد بثَّ فيه ما وصفه “أول صدمة في حياته من العقاد”. يقول: “في أحد الأيام، كتبت مقالًا في جريدة الأساس سنة 1948. كان موضوعه: معنى الفن عند تولستوي. وصدر المقال يوم الجمعة -أيْ يوم الندوة الأدبية- (يقصد الأستاذ أنيس الندوة التي كان يقيمها العقاد أسبوعيًّا). وسألت الأستاذ إنْ كان قد قرأ المقال. قال: نعم يا مولانا، وأعجبني أسلوبه. انتهى كلام العقاد، وبدأ الكلام والآلام في أعماقي … أما المشكلة فهي أن الأستاذ قد أعجبه أسلوبي! وعدتُ إلى المقال أقرأه من جديد. لقد كان الأسلوب صعبًا مُعقدًا، أو هكذا تصورت. وكان مليئًا بالتراكيب الفلسفية … وحزنت على نفسي حزنًا شديدًا؛ لقد أعجب الأستاذ بأسلوبي، وأسلوب الأستاذ صعب، وأحيانًا معقد، وليس من السهل فهمه”(1).

هذه حكاية من حكايات العقاد التي أخذ أنيس يذيعها بين السماء والأرض. ويهمني أن أذكر وصفًا له لأسلوب العقاد الذي بايَنَه وباعَدَ بينه وأسلوبه. يقول “لقد خلعتُ الرداء الحديديّ الذي يشبه ملابس فرسان العصور الوسطى. لقد نزعت جلد القنفذ وأحجار السلاحف”. فهذا تعبير شديد عن صعوبة كتب العقاد، يعادل أشد درجات العناء عند قارئ هذه الكتب.

ويهمنا هنا أمران: الأول شدة وصف أنيس لأسلوب العقاد، وهذا سببه نفسي، يتعلق بطور الشباب. فقد كتب أنيس مقاله، وهو ابن الرابعة والعشرين. ونفسية الشباب -على وجه الغلبة- تكون أقرب للتطرف والعنفوان، ورؤية الحياة من منظور أحاديّ. وقد كان أنيس مفتونًا بالوجودية الفرنسية ساعتها، فلا مناص من أن يرى العقاد -الذي يمقت الوجودية ويدحضها في كتاباته- صلدًا واقفًا وقوف الماضي أمام الحاضر المتقدم.

والأمر الآخر، أن أنيسًا قد تطور بالكتابة الفكرية إلى مستوى آخر (سيأتي ذكره في العنصر التالي). وكي يبرر لنفسه وللقراء هذا الاختيار الأسلوبي والتطور الضخم، عاب على من قبله -العقاد هنا خاصةً- بما رآه هو عيبًا، ووصم الأستاذ بوصمة الصعوبة، وعدم الإبانة، وعسر التوضيح لدى كل القراء. ثم راح -كما سبق- يروج هذا الترويج في كل موضعٍ أمكنه.

ومن عجب أن أنيسًا عمل مدرِّسًا في الجامعة، يلقي محاضرات عن الفلسفة المعاصرة؛ وهو يدعي على العقاد الصعوبة. ومكمن العجب أنه متخصص في الفلسفة، وهذا يقتضي تعرُّضه للنصوص الفلسفية، وكثير منها من أصعب النصوص على الإطلاق -إنْ لم تكن أصعبها-. فكيف بعد تعرُّضه لنصوص شوبنهاور أو هيجل أو كانط أو اسبينوزا أو حتى سارتر في مؤلفاته الفلسفية -لا الأدبية-، فضلًا عن مباحث المنطق الحديث المتعددة من نماذج الفلسفة الغربية؛ أنْ يرى كُتُب العقاد صعبةً؟! وكتب العقاد مُقارنةً بهذه النصوص الفلسفية الصرفة أيسر وأسهل بدرجات ومراتب. وللتذكير، فهذه الكُتب كانت -وما زالت- مؤثرة مقروءة رغم صعوبتها.

ومن خطأ أنيس أن يروج لصعوبة كتب العقاد في مواجهة الجمهور؛ من جهاتٍ. فمن جهةٍ أولى، “الجمهورُ” جنس يدخل تحته أنواع وأصناف كثيرة، لا يمكن الحُكم عليها بحُكم واحد عام. ومن جهة ثانية، ظلَّ الجمهور قبل العقاد وإبان حياته وبعدها يقرأ لمَن هم أصعب من العقاد وأعقد، بل لمن ثبَّتُوا عن أنفسهم سمة الصعوبة -لغرض أو آخر-. ومن جهة ثالثة، مؤلفات العقاد لا تنحصر على مجال وتخصص، بل هي متشعبة الموضوعات متنوعة الأساليب. وبهذا ينهدم تصور أنيس. مع العلم أن أنيسًا ليس شخصًا غافلًا أو جاهلًا، ويعرف خلاصة ما تقدم. ليبقى السؤال: لِمَ أصرَّ أنيس على موالاة الادعاء بصعوبة العقاد؟

وما أظن -وهذا ظن خاص بي- أن أنيسًا أذاع تلك الفرية، ودقَّ بها كل باب؛ إلا تثبيتًا لنفسه، وتوطيدًا لأسلوبه، وإبرازًا لامتيازه بالاقتراب من الجمهور وأفهامهم. وهو الذي يفخر في مواضع عديدة من كُتُبه: أنْ إذا كان العقاد يخاطب القارئ مرتفعًا عنه مُتعاليًا عليه، وكأنه أستاذ يخاطب تلميذًا؛ فأنيس يخاطب القارئ، وكأنه أخوه بلا كلفة ولا عناء، وكأنه يسير جواره في الشارع يتحادثان سويًّا. فضلًا عن رغبة أنيس في الخروج من عباءة العقاد، وإظهار امتيازه الخاص عنه، وأنه ليس ظلًّا للعقاد كما راج عنه. يقول: “أحسستُ إحساسًا مُبالغًا فيه أنني سوف أتحوَّل إلى قارئ في مأتم العقاد، وأن قلمي أو حياتي الأدبية والفلسفية سوف ترتبط بالأستاذ العقاد”(2).

بما يخالفه؟ كلاهما يكتبان في موضوعات فلسفية وفكرية وأدبية؛ فالموضوع والمجال لا مناص منه ليُعدَّ أنيس ناقدًا ومتأدِّبًا؛ ولا يبقى إلا “الأسلوب”، هذه الكلمة التي تمثل مفتاح السر في إظهار مولود جديد، ونمط جديد في الكتابة العربية -كما أرى في نظري-. وبالعموم، فالامتياز الذي ظنَّه أنيس على العقاد امتيازٌ زائفٌ لا محالة؛ فهو قياس مع كل فارق بين العقاد وأنيس. ولا أدَّعي بذلك أن أنيسًا تعالى على العقاد في حديثه، بل اتخذه سُلَّمًا للوصول إلى الجمهور، ولا مجال هنا لإكمال استيفاء هذا المحل.

أما الصنف الآخر من المُشيعين صعوبة كتب العقاد؛ فهُم من الزملاء والمُساويين للعقاد، لا من التلاميذ. وقد تكون الإشاعة مَكسوَّة ثوب النكاية والتشهير؛ مثلما أشاع “طه حسين” مرَّات عجبه من تقرير كتاب “عبقرية عُمر” في المدارس، لأنه لم يفهم منه شيئًا، ولم يفهم منه حفيدُهُ الذي يدرسه في المدرسة شيئًا. وهو فعل فعله طه من قبل، واعتاد على فعله. فكلَّما أراد الاستهزاء من كتابة، أشاع عنها -وكأنه وصمها بوصمة الشين- أنه لم يفهم منها شيئًا. مثلما فعل من قبل مع “الرافعي” في كتابيه “رسائل الأحزان” و”حديث القمر”(3). فهذا الموقف -وغيره- من الأقران يشيعه بدوره تلاميذ هذا القرين أو ذاك بين الناس، وفي كتاباتهم وأقوالهم؛ فيعملون عملًا ويسهمون بسهم في تلفيق هذه الشائعة عن كتب العقاد أو غيره. والأصل أن “كلام الأقران يُطوى ولا يُروى”(4)، كما في الأعراف العلمية الإسلامية.

2-   الدعوة إلى التسهيل، وإرادة الاقتراب من الجمهور. ورأيي أن هذه الدعوة كانت لها أعظم الأثر على الثقافة العربية الحديثة. ورَادَ هذه النزعة في مصر، بعد العقاد؛ أنيس منصور ومصطفى محمود. فحاولا -مع غيرهما- الاقتراب من الجمهور كل الاقتراب، بأية وسيلة مهما كانت؛ فضحَّوا بالكثير من قيود الكتابة، ومن ترتيباتها الراسخة المتبعة، ومن لغتها. واعتمدوا مبدأ “الشعبية في الثقافة”، خالقين تيارًا جديدًا من “الكتابة الشعبية”؛ فمن حق الثقافة أن تصل إلى الجمهور، والكتابات الرائجة عظيمة الرواج بين الجمهور يجب أن تخاطبهم وتصل إليهم؛ أيْ يجب أن تتصف بصفة “الشعبيَّة”؛ لذا فلتفارقْ الأساليب الرفيعة أو المنضبطة في بعض ما تأتي به أو كثير مما تأتي به. ولعل أهل هذه النزعة نجحوا في إدراك ما أرادوا حتى الآن من الانتشار؛ فمنذ السبعينيات حتى وقت كتابة هذه السطور، وأنيس منصور ومصطفى محمود يحتلان قمة المبيعات للكتب العربية، مع غيرهما مما سلكوا السلك نفسه. وقد أثرت هذه النزعة على ما بعدها في الثقافة العربية، وأشكال الكتابة؛ وتفاقمت الدعوة إلى مُنتهى الفساد البيِّن. وكنت قد ناقشت هذه النزعة في كتاب قديم عن الثقافة (لم أكمله، فلم ينشر بعد). وسأفردها بالتأليف فيما بعد -إنْ قدر الله لي-.

وسأكتفي هنا بملمح من أشد الملامح فسادًا وإفسادًا من أثر هذه النزعة، في قصة يرويها أنيس منصور، بين ثناياها خلاصة روح دعوة التسهيل. إذ ذهب الباحث عبد الرحمن بدوي إلى مؤتمر مستشرقين بمدينة “ميونخ” بألمانيا. قدح المستشرقون اليهود فيه في القرآن الكريم والسيرة النبوية. فطلب أنيس من بدوي كتابة مقال عن المؤتمر، فلبَّى طلبه. وعند عرضه المقال على مصطفى أمين -رئيس تحرير أخبار اليوم ساعتها، وهو من رائدي هذه النزعة كذلك- استاء من أسلوب بدوي، واستصعبه. فطلب من أنيس أن يكتبه بأسلوبه. يقول أنيس ساردًا بقية القصة “هنا تنبهتُ إلى كيف كان أسلوبي قبل أن ينبهني العقاد إلى ذلك. وكان عنوان مقال د/ عبد الرحمن بدوي: المستشرقون يُشكِّكون في صحة السور المكية والمدنية وفي سيرة ابن هشام. أما العنوان الذي كتبته، وظهر باللون الأحمر في الصفحة الأولى من أخبار اليوم: مؤامرة على النبي محمد!”(5).

3-   التكوين الحالي لذائقة القراء (ومما أدى إليه في نظري العنصر السابق)، وإقبال تلك الذائقة على الكثيرين من ذوي الأساليب العاطفية والدعوية. مثل هذه الذائقة الهشَّة السقيمة تضع كُتُب العقاد في خانة الكتب الصعبة بالمقارنة بما تعودت عليه. وانظر مثالًا لذلك، ما شاع ويشيع من كُتُب روائية رخيصة تملأ الأفق القرائيّ، وشِعر مبتذل، ونثر فقير أشد الفقر إلى كل معيار سليم -في المعاني أو اللغة-، وسخف العُجمة التي استفحل أمرها في الزمن الأخير. فمثل هذه الذائقة متى تعرَّضت لكتب العقاد ذات الاتجاه العقلي؛ ستتحصِّل لديها نتيجة طبيعية، هي الإيمان بأن كتبه صعبة. ومن هنا، صح الدفاع عن كتبه، وتصحيح الوهم فيها، وأن الإقبال عليها -وعلى غيرها من الكتب الرصينة الرائقة الصحيحة-، والتنويه عنها من أهم وسائل علاج ما نحن عليه في طورنا الثقافي العربي المنحدر.

4-   تقديم العقاد الدائم على وجه التبجيل الشديد من جمهور المثقفين في كتاباتهم، وعلى العوام في المناهج الدراسية .. ويكاد طلاب غالب العالم العربي يدرسون اسم العقاد في المدارس، وفي مصر يدرس الطلاب بين الحين والحين كتابًا أو مقالًا للعقاد في مادة “اللغة العربية”. ودائمًا ما يقابل الطلاب -أولَ ما يقابلهم- من مظهر العقاد أنه “عملاق الأدب العربي” أو “عملاق الفكر العربي” -على توسُّع في المُراوحة بين الوصفين-. ومثل هذه الأوصاف الضخمة الفخمة تضع حائلًا -وأيّ حائل!- بين المثقف والجمهور، تبهر ألبابهم، وتدخل الوهم عليهم أن صاحب اللقب شخص رفيع مُفارق، لا يمكن دركه أو الاستدراك عليه. ويصنع له مهابة وجنابًا، تؤثر في استصغار الناس نفوسهم عن مجاراة صاحب اللقب، وفهم ما يكتب والتعاطي معه.

كما يُعبِّر العقاد نفسه عن أرسطو، قائلًا: “ولنذكر أن هذا العقل الهائل الذي يهابه مَن يحسُّ قدرته؛ فلا يجترئ عليه بالنقد والتسفيه، قبل أن يفرغ جهده في التماس المعذرة له من جهل عصره وقصور الأفكار حوله، لا من جهله هو أو قصور تفكيره”(6). فالعقاد لا يُخطّئ أرسطو -مثالًا على العقل العظيم-، فالخطأ يلحق بجهل عصره وقصور الأفكار فيه. وما وصفه العقاد بهذا المسلك؛ كُتب للعقاد أن يأتي مَن يسلكه فيه، ويعامله معاملة الناس في شأن مَن يُعظِّمونهم. وللأمانة العلمية والأدبية أُكملُ نقل جملة العقاد “فإنه لم يعوِّدنا في تفكيره احتمالًا قطُّ لا يتقصَّاه إلى قُصارى مداه، ولا يستوفي مُقتضياته وموانعه، جهد ما في الطاقة الإنسانية من استيفاء”(7).

وبالعموم، فهذا المسلك في التعامل -أقصد الموصوف في النقل الأول- لا يليق بأحد من العالمين؛ لكنَّ الناس دأبت على التعامل به وتعارُفه، إلى درجة تصل بهم إلى حد العبادة. وإن ألقابًا مثل: شيخ الإسلام، حُجة الإسلام، عميد الأدب العربي، عملاق الأدب العربي؛ لمما يبذر بذرة الفساد العظيمة في نفوس الناس، خاصةً الناشئة -إنْ لم يُفهم على وجهه الصحيح-؛ حتى يبعدهم عن جادة الصواب، ويشعرهم أن المُلقَّبين بهذه الألقاب أناس فائقون، مُفارقون. وفي الحق، ما هم إلا عباد الله اجتهدوا جهدهم، وصنعوا صناعتهم وحسب.

5-   طابع الجد الذي يطالع القارئ لكل كتب العقاد، ومظهره المتجهم الذي يتراءى به في الكتب .. يقول ابن أخيه “محمود العقاد” عنه: “يعرف قارئ العقاد أن كلام العقاد في أبسط الأمور وأهونها لا يقل شأنًا عن كلام العقاد في أعظم الأمور وأكثرها خطرًا. فالعقاد هو العقاد في أبسط كتاباته وفي أكبرها شأنًا. وذلك لأن العقاد عاهَدَ نفسه منذ أمسك بالقلم أن يكون كاتبًا مفيدًا نافعًا، وأن تكون حياته كلها التزامًا للقلم ولخدمته ولرعاية قضاياه”(9). ويقول عنه أنيس منصور “كنت أرى الأستاذ العقاد عنيفًا في نقده كلَّ الناس، وكل الأشياء، وكل مخلوقات الله، وآلهة الأساطير”(10).

ويروي أنيس منصور قصة الخلاف الشهيرة التي أشعلها العقاد في آخر حياته، وهي من هذا الملمح “ولم يكن العقاد مُجاملًا … وكان الأستاذ في منتهى القسوة! وعندما كان الشعراء الشبان يبعثون إليه بقصائدهم؛ باعتباره مُقرِّرًا للجنة الشعر بالمجلس الأعلي للفنون والآداب؛ فكان يعيدها إلى “لجنة النثر(11)” لأن هذا الشعر بلا قافية”. وبعدها يذكر نتفة من قصة الصراع الشهير الذي أقامه العقاد ضد شوقي، قائلًا: “وعندما طلبوا إلى الأستاذ أن يشترك في ذكرى مرور عشرين عامًا على وفاة شوقي أمير الشعراء؛ رأينا العقاد يجدد الهجوم على شوقي، وبأنه شاعر زخرفيّ، وليس شاعرًا له شخصية”(12).

ولم يكن العقاد متجهمًا في كُتُبه، بل كان جادًّا، يريد أن يفيد القارئ أقصى إفادة ممكنة الحصول له؛ وكان لا يرى فيمن يقرأه شخصًا يريد أن يقضي وقتًا أو يزجي فراغًا بقراءة سطور؛ بل يريد أن يشارك فكرًا، وينتج جديدًا، ويُحصِّل ما لم يُحصِّل. وهذه سمة جودة في كتابات العقاد. أما عن الفكاهة، فلم يكن حديثه يخلو منه متى اقتضاه السياق “ولكل مقامٍ مقال”. وفي كتابه “حياة قلم” الكثير من مواضع الفكاهة، وهو يروي تسميته من بعض الجيران بأبي طويلة (لأنه كان جسيمًا طويلًا)، وتسمية بعض الكتاب له بعمّ العقاد؛ لأنه قلَّد الإنجليز في إمضاءاتهم فكتب (ع . م . العقاد)، وغيرها من مواضع التبسُّط والفكاهة. فلم يكن العقاد يتجهم، بل كان يراعي المقام، ومصلحة القارئ.

3 هل كُتب العقاد صعبة كما يُشاع؟

أسباب تتعلق بكُتُب العقاد وخصائصها

1-   سيطرة المنهج العقلي على الإنتاج العقادي كله، حتى الشِّعريّ منه؛ فقد رأى تغليب وإظهار الجانب الفكري على الجانب العاطفي -الذي كانت تمثله المدرسة الرومانسية من قبل مدرسته الديوان-. وهذا التغليب المطلق للجانب الفكري قد يضفي شيئًا من الصعوبة أو يوهم الصعوبة؛ حيث يجد القارئ الكتابة خالية مما اعتاد عليه في الكتب الشعبية -مع إقران هذا بالدعوة إلى التسهيل، ومقارنة كتابته مع الكُتب الشعبية-. فالعقاد يُعقلَنُ كل الموضوعات -كما سأمثل-. وهذه السمة المُصبِغة مستوى من التجريد العقلي؛ مما يؤثر في الإشعار بالصعوبة، وإنْ كان وهمًا في كثير من الكتب.

لعلَّ هذا التغليب للجانب الفكري نابع من موهبة العقاد التي وهبها له الله في الإمعان في الفكر. فغالب الكُتاب العاملون في الأدب والنقد -بل الفكر- لا يقوون على الإمعان في المطالعة الفكرية والفلسفية من مصادرها، وغالب رؤيتهم عنها صورة عامة أو من أفكارهم الخاصة ورؤاهم التي كونوها في الحياة. أما العقاد فقد امتاز بهبة تقصِّي الأفكار والفلسفات -على مشقتها البالغة المعروفة-؛ بل رآه طريق عملٍ لا يرتضي غيره طريقًا.

وقد سيطرت عليه النزعة العقلية منذ كان طفلًا، وها هو العالم الفاضل “شوقي ضيف” يروي الحادثة الشهيرة التي لقي فيها العقادُ -وكان تلميذًا- الشيخَ “محمد عبده” أثناء مروره على المدرسة، وكان وقت درس الإنشاء (التعبير). يقول: “كانت الموضوعات تُختار عادةً من مُوازنات .. وكان العقاد يقف دائمًا مع أضعف الطرفين في الموازنة؛ ليُظهر قدرته العقلية في إعلاء الطرف الضعيف ببراهينه الدامغة، وهي قدرة ظلت ترافقه طوال حياته”. فكانت الموازنة بين السلام والحرب، وقد اختار العقاد الحرب، وأعجب الشيخ محمد عبده بما كتب، وقال مُجامِلًا: “ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعدُ”(13). ثم كبر العقاد، وصار من أشياع المدرسة العقلية الاجتماعية التي رادها الشيخ. وقد رأى العقاد التفكير فريضة إسلامية، وكتب كتابًا بهذا العنوان، قال في أوله: “القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه. ولا تأتي الإشارة إليه عارضةً ولا مقتضبة في سياق الآية؛ بل تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدةً جازمةً باللفظ والدلالة”[(14).

وقد صرَّح العقاد تصريحًا بمعالم السمات العقلية في تأليفه، ومتى نظرنا إلى منهجه في التأليف وجدناه يقول “منهجي في التأليف يُلخَّص في كلمتين؛ هما: التقسيم والتنظيم”(15). ويخبر القارئ بطريقته في الكتابة؛ “أما طريقتي في الكتابة؛ فإني أبدأ المقال وفي ذهني جميع أصوله، و”نقطة” مرتبة على الجملة حسب التسلسل المنطقي. ولكني إذا مضيت في الكتابة عَرَضَتْ لي حاشيةٌ من هنا أو لمحةٌ من هناك، تطرأ في عرض الكلام ولا تغير شيئًا من جوهر المقال؛ إلا أن تزيده جلاءً في بعض الأحيان أو تضيف إليه عنصر الفكاهة والتبسيط”(16). وما وُصف من منهج هو صلب الطريق العلمي في التأليف؛ لذا تظهر مؤلفات العقاد كتابةً منضبطةً حاصِرةً لما يناقشه. ويعرض على القارئ منهجه في النقد -أو الأصح هنا النقض-، قائلًا: “وخطتي في المناقشة أن أعمد إلى أقوى الحُجج بداءةً؛ فأجتهد في تقويضها، ثم أقفوها بأضعف الحُجج، وأعود إلى ما فيه مساكٌ من القوة”(17). ومن ثم لم يكن غريبًا متى قيل في وصف كتابته “وهو لا يعالج موضوعًا إلا أحاط به جملة وتفصيلًا؛ إحاطةً لا تترك بعدها زيادة لمُستزيد. وله أسلوب أدبي فريد”(18).

ومن معالم هذه السمة العقلية البائنة في دراسته للشخصيات؛ أنه لم يكن يهدف من كتب التراجم -على خلاف غالب أهل التراجم- أن يسرد وقائع عن شخص أو عن عصر وحسب، بل صورة نفسية للشخص. وعلى سبيل المثال، يعتبر العقاد دراسته عن الشاعر “ابن الرومي” من أكبر وأحب كتبه؛ فمتى تأملنا عنوانها ألفيناه “ابن الرومي؛ حياته من شِعره”، وأفعمَ أنوفنا فوحُ العقل من العنوان، فهو تعبير عن منهج الاستدلال. ثم متى وقفنا على أول كلماته فيه؛ قرأناه يقول “هذه ترجمة، وليست بترجمة؛ لأن الترجمة يغلب عليها أن تكون قصة حياة، وأما هذه فأحرى بها أن تُسمَّى صورة حياة”(19). وفي دراسته للعبقريات أتى بمنهجية “مفتاح الشخصية” ليصل إلى تفسير الشخصية والوقوف عليها بمعيار(20).

وكذا في دراسته للأحداث، يحاول جهده أن يحلل الأحداث تحليلًا عقليًّا، ويعالجها بنزعة شمولية من كل جهة في رؤية الأحداث. ومطالعة كتب “مطلع النور”، أو “أثر العرب في الحضارة الأوربية”، أو “ضرب الإسكندرية” تكفي بالغرض. وكذلك محاولة منهجة بعض المشكلات الحضارية مثل مشكلات اللغة العربية.

2-   الأسلوب المُساوي في التأليف؛ أعني بذلك أنه كان يقصد إلى موضوع الحديث والنقاش، بأقرب طريق لأداء المعنى، دون الاختصار المُخلّ أو الإسهاب. فإنه لم يكن يكرر، ولم يكن من أصحاب الحشو والإطناب بلا سبب، ولم يكن يدور حول المعنى؛ بل كان يقصد إليه قصدًا، فمتى أدركه انتقل للمعنى الذي يليه. وهي سمة مصاحبة لأصحاب الفكر القويم. ففي وصفه لحادثة مريعة بسقوط طائرة بعدما احترقت (وهذه حادثة ذات أثر مدوٍّ في الدنيا ساعتها) اكتفى بقوله “يكاد الخيال يطبق عينيه فزعًا من تصور الهول الذي طواه جوف الطائرة المحترقة منذ أيام. هول يرتد عنه خيال المتخيل فزعًا وهلعًا؛ فلا يود أن يُطيل النظر إليه، لأنه المنظر الذي تعيا به طاقة الإنسان”(21). ثم انتقل للعبرة الحاصلة من عنوان المقال “بين الأمل والتأمل”. ولو كانت هذه الحادثة قيد كتابة أنيس منصور، لعرض لعشرات من حوادث الطائرات، وماذا يحدث عندما تتحطم الطائرة، وماذا قال ألبرتو مورافيا -أو أي شخص مهما كان- عندما كادت الطائرة تسقط به. ثم يعود بعد خمس صفحات للعبرة. ولا أقصد بذلك القدح في أسلوب أنيس أو من على شاكلته؛ فهو أسلوب شعبي مؤثر في الكثرة الكثيرة من القراء. وعيب الأسلوب المساوي -من جهة عوام القراء-؛ أنه يقتضي الاستحضار الذهني أثناء القراءة، لأن الكاتب لا يُعيد المعنى؛ فمتى فقدته سقطت حلقة من المعنى الكُلّيّ، وتوهَّم القارئ أن الكاتب صعب لا يُفهم، أو مُخطئ.

3-   اعتماده النظم العربي القويم، وخصائص التركيب العربي في التعبير. وهذا سمت متفق عليه في كتابات العقاد، وقد كان العقاد عضوًا في “مجمع اللغة العربية” بالقاهرة، وكان مهتمًّا بقضية اللغة أبلغ اهتمام. وألَّف فيها الكثير، مثل “اللغة الشاعرة”، و”أشتات مجتمعات في اللغة والأدب”، وغيرهما من إنتاج. وقد كان مطبوعًا أثناء مناقشته الأفكار والمذاهب ودخوله المعارك الأدبية على استخدام الأسلوب العربي القويم. وهذه مزية عظيمة، لكننا في هذا العصر، ومع عوامل كثيرة -لا محل لإيرادها هنا- قد نظن هذا الأسلوب معيارًا من معايير الصعوبة. والأصل أن نغتنمه اغتنامًا لنتعوَّد الأسلوب السديد. وها هو يؤكد على هذا في تعريفه للكاتب في نظره “كلُّ ذي رأيٍّ، أحسن العِبارةَ عنه، بلفظٍ عربيٍّ صحيح”(22). ويقصد بالعبارة التعبير. والكاتب القويم في نظره لا بد له من ثلاثة أركان: أن يكون له رأي تكون في ذهنه، وأن يُحسن التعبير عن هذا الرأي، وأن يستخدم في هذا التعبير القواعد المنضبطة والألفاظ والأساليب العربية الصحيحة، وهذا ما يقصده باللفظ العربي الصحيح. ونراه -مثلًا- في عام 1919م -أي قبل قرن وأعوام- يلوم على الشاعر “جبران خليل جبران”، في قصيدته الشهيرة “المواكب”؛ أخطاءَهُ اللغوية النحوية والصرفية(23).

وأختار هنا نصًّا ناصعًا من تعليق له على المعركة الأدبية حول “الأسلوب العربي بين المناصرة للقديم والدفاع عن الجديد مع دحض القديم”؛ والتي قامت بين حضرة الأديب الفاضل مصطفى صادق الرافعي والصحفي سلامة موسى. وهو مثال على كتابته بأسلوب قويم؛ وهو في سياق معركة واشتباك في الفهم.

يقول العقاد: “هل هناك طريقة واحدة لا غيرها؛ يكتب بها الكاتب، فإذا هو عربي صميم، ويكتب بغيرها فإذا هو أمريكي أو صيني أو ما شئتَ من الأمم التي لا يشملها شرف العربية؟ .. كلَّا، لا يقول بهذا قائل. فإننا نعلم أن ابن المقفَّع، وعبد الحميد، وابن الزيات، والجاحظ، وابن العميد، والخوازميّ، والبديع، وأبا الفرج، وغيرهم ممَّنْ سبقهم ولحق بهم؛ كلُّ أولئك كُتَّاب من أساطين الآداب العربية، وكلُّهم قدوة للمُقتدين في صناعة النثر. وما منهم اثنان يتشابهان في طريقة الكتابة، أو -هما إنْ تشابها في بعض معالم الطريقة- لا يتشابهان في جميع معالمها. فهل ترانا نزعم أن الكاتب من هؤلاء واحد لا أكثر، والبقية دُخلاء في هذه الصناعة؟ أم نقول مرغَمين إن العربية تتسع لعدة طرائق لا حدَّ لها، ولا يمكن أن تُقيَّد بزمان أو بأسلوب، ولا يُشترط فيها على الكاتب المُتصرِّف غير الصحة في القواعد الأساسية التي يشترك فيها جميع الكُتاب في جميع العصور، ثم ما شاء بعد ذلك فليكتب، وعلى أي طريقة فليذهب؛ فإنما هو صاحب رأيه، ومالِك قلمه، ولا حق لأحد في العربية أكثر من حقه”(24).

4 هل كُتب العقاد صعبة كما يُشاع؟

عن الأستاذ العقاد، ومحاسنه مُفكرًا وأديبًا عربيًّا

عاش الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964م) عُمره في مرحلة خطيرة من تاريخ الأمة العربية؛ تشبه وتماثل ما نحن عليه الآن، لكنْ قبل قرن مضى. فقد عاش الموجات الثواني من فيض المذاهب والتيارات الأجنبية، وهي تُغرق العالم العربي بالجديد الغريب عنه، من مناهج الفكر والأدب والنقد، وعلوم الاجتماع والنفس واللغة، على النَّفَس الغربي وبالطريقة المادية. ومتى نظرنا إلى ما عاصره العقاد، سنجد مشابهته لما يحدث بين ظهرانينا الآن. فالعالم من حولنا يموج بالصراعات الفكرية، والأفكار تُفرض بالقوتين الإعلامية والاقتصادية عن بُعد -بعدما كانت تفرض بالقوة العسكرية عن كثب وملامسة-. وهنا بعض ملامح نتعلمها ونفيد منها من حياة العقاد.

لعل أهم ما يلحظه الناظر في قصة العقاد، وما نضعه أمام قارئ اليوم، وكاتب اليوم أيضًا؛ هو صدق العقاد واحترامه لمبادئه. فقد حارب الأستاذ العقاد النازية، ونشر الكتب والمقالات ضدها، وكانت قوات هتلر على أعتاب مصر، ودخلت مصر بالفعل، ووقعت معركة العَلَمين التي انهزمت فيها، ولم يَرعَوِ العقاد عن التصريح بما يعتقد، وما يراه حقًّا؛ رغم نصح أصدقائه أن هتلر سينكّل به وبكل معارض متى دخل البلاد واستقرَّت له. فهذا عن الثبات على الرأي، ولو على كُره ونزول البلوى.

أما عن الإخلاص للفكر والأدب والكتابة وطلب العلم؛ فليس أدل من عيش العقاد وحيدًا فريدًا طوال عُمره، عاريًا عن المناصب التي تُغدق على مَن حوله، فقيرًا في غالب عُمره. كما قال الشاعر الأندلسي “ابن زيدون” في بيته الرقيق:

بم التعلُّلُ لا أهلٌ ولا وطنُ

ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ

وليس يقدر على هذه الحال من الوحدة والخلوص للفكر رغم المتاعب؛ إلا أشداء النفوس، المستحقون لمكانتهم.

ومن شيمه الاستقلال الفكري عن الشائع الذائع ذي التملك والسلطان. فرغم ثقافته الغربية المشهودة؛ إلا أنه كان مستقلًا عربيًّا، لا مُتماهيًا مع الغرب، كما فعل كثيرون من طبقات المثقفين حوله. ومن ذلك أنه كتب عن المستشرقين يقول: “والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية؛ لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين، أو سياسة المُبشِّرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المُتعالي عليه في حاضره وماضيه. غير أنهم -ما عدا القليل منهم- محدودون سطحيون، يحومون حول المسائل الحسية ولا يتوسعون في النظر، أو يتعمقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحس لمسًا؛ فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع العيان والسماع”(25)

وأختم بأرق ملحظ من حياته؛ فقد مرَّت في حياة العقاد الكثير من المفارقات القدَريَّة؛ ففي صدر شبابه الأول ظنَّ العقاد أنه مائت لا محالة، لمرض طرأ عليه، وكان يتحسَّس من المرض إلى درجة الرُّهاب. وخاف أن يقضي دون أثر في الدنيا؛ أو كما صرح “هو الموت إذن، أمضي إليه صفر اليدين من مجد الأدب، ومن مجد الدنيا، ومن كل مجد يبقى بعد ذويه”(26). فما كان منه إلا أنْ جمع ما كتب من قطع نثرية متفرقة ويوميات كان يكتبها، وحشدها في كتاب سمَّاه “خلاصة اليومية والشُّذُور”؛ لتكون أثره الوحيد على مروره في الحياة، وسماها نُبذًا كما يقرأ القارئ في كلمته التي صدّر بها كتابه. ثم عمَّر الخائفُ من مماتٍ ما شاء الله له أن يُعمِّر، ثم كتب المُشفقُ على ترك أثرٍ واحدٍ له أكثرَ من مائة أثر، أشهدت الدنيا جميعها على وجوده. فسبحان مَن كتب على عباده حُسنَ الظن به!

الهوامش:

  1. في صالون العقاد كانت لنا أيام، أنيس منصور، صـ15،14 بتصرف، دار نهضة مصر، ط1، 2012.
  2. السابق، ص17.
  3. راجع كتاب تحت راية القرآن، مصطفى صادق الرافعي، تجد شكواه من فعل طه. صـ109، طبعة دار مصر.
  4. هذا التقليد العلمي الإسلامي يقصد به الأقوال الشخصية القادحة أو المُبالغ فيها، التي يكون دافعها الرئيس العامل النفسي من المُوالاة لصديق، أو المُعاداة لعدوٍّ، دون حق. ولا يدخل في فهم هذا التقليد الكلام العلمي الموزون في قدح المُعاصر؛ فهذا علم صحيح، لا يقع تحت هذا التقليد.
  5. في صالون العقاد، صـ16.
  6. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد، صـ77، هدية مجانية لمجلة الأزهر، شهر صفر 1445هـ.
  7. الموضع السابق نفسه. وهنا يحيل العقاد تسبيب المسلك إلى سبب موضوعي لا ذاتي. وتتمة كلامه يُدخل المعنى في حيز معقول، ويبعده عن الاشتطاط. وقد حرصت على إكمال النقل في المتن لا الهامش؛ كي أحفظ حق الرجل، ولا أنسب إليه ما لم يقله.
  8. الديوان في الأدب والنقد، عباس العقاد، وإبراهيم المازني، صـ9، كتاب الشعب، ط4.
  9. خلاصة اليومية والشذور، عباس العقاد، من تقديم محمود العقاد له، مكتبة عمار، 1968م.
  10. لأول مرة، أنيس منصور، صـ184.
  11. في الطبعة الورقية لجنة النشر، لا لجنة النثر. وهو تصحيف واضح.
  12. في تلك السنة هؤلاء العظماء وُلدوا معًا، أنيس منصور، دار الشروق، ط2، 1993م.
  13. مع العقاد، شوقي ضيف، صـ15، دار المعارف، سلسلة اقرأ، 1964م.
  14. التفكير فريضة إسلامية، عباس العقاد، صـ3، نهضة مصر، ط9، 2008م.
  15. أنا، عباس العقاد، صـ77، نهضة مصر، ط3، 2003م.
  16. السابق، صـ76.
  17. السابق.
  18. حياة قلم، عباس العقاد، صـ9، كتاب الهلال، 1964م. والرأي للسياسي الشهير “سعد زغلول”، نقله الأستاذ طاهر الطناحي في تقديمه للكتاب. وهي كلمة مشهورة في مدح العقاد.
  19. ابن الرومي حياته من شعره، عباس العقاد، صـ3، مكتبة مصر، 1931م.
  20. انظر عبقرية عمر، وعبقرية الصدِّيق، عنوان “مفتاح شخصيته”.
  21. بين الكتب والناس، عباس العقاد، صـ130، دار المعارف، ط4، 1985.
  22. مطالعات في الكتب والحياة، عباس العقاد، صـ226، دار المعارف، ط4، 1987.
  23. الفصول، عباس العقاد، صـ46، دار المعارف، 1986م.
  24. السابق، صـ227.
  25. مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية، عباس العقاد، دار المعارف، صـ50، ط1، 2020م.
  26. حياة قلم، عباس العقاد، صـ124، كتاب الهلال، 1964م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى