أشتات

أدب الضيافة في نظر الخُلق والشرع

الجود صفة حسنة من أحسن صفات الإنسان، وأجمل ما تكون مع من له حق عليه، وقد رأى كرام الناس أن من أحق الناس بالجود: الضيف.

وقد عد العرب من صفات المدح في المرء: إكرامه لأضيافه وحسن أدبه معهم، كما جعلوا من صفات الذم فيه: بخله عن قرى ضيفه وسوء أدبه معهم، وأصبحوا حين يمدحون شخصًا يذكرونه بإكرام الضيف، حتى بالغ  الفرزدق في العذافر بن زيد، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة حين قال فيه:

لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها

بأكثر خيرًا من خوان العذافرِ

 ولو ضافه الدجّالُ يلتمس القِرى

وحلّ على خبّازه بالعساكرِ

 بعدِّةِ يأجوجٍ ومأجوجَ جُوّعا

لأشبعهمْ شهرًا غداءُ العذافرِ(1).

بل إنهم غدوا يقدمون الضيف على الولد، وصاروا يفتخرون بإكرامه وجميل الأدب معه، ويخشون أشد الخشية أن يرحل ضيفهم بذمهم.

قال عقبة بن مسكين الدارميّ:

لحافي لحاف الضّيف والبيت بيته

ولم يلهني عنه غزال مقنّعُ 

أحادثه إنّ الحديث من القِرى 

وتعلم نفسى أنه سوف يهجع(2).

وقال الحطيئة يصف أعرابيًا:

وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطن مُرمِلٍ 

بتيهاءَ لم يعرف بها ساكنٌ رَسْمَا

 أخي جفوةٍ فيه من الإنسِ وحشةٌ 

يرى البؤس فيها منْ شراسته نُعمى 

وأُفرِد في شِعْبٍ عَجوزاً إزاءها 

ثلاثةُ أشباحٍ تخالهمُ بُهما

 حفاة عراة ما اغتذوا خبز مَلّةٍ

 ولا عرفوا للبُرِّ مذ خلقوا طَعمًا

 رأى شبحاً وسْط الظَّلام فراعهُ

 فلما بدا ضيفاً  تهيّأَ واهتما 

فقال ابنهُ لمَّا رآه بحَيرةٍ 

 أيا أبتِ اذبحني ويسِّرْ له طُعما 

ولا تعتذر بالعُدْم عَلَّ الذي طرا 

يظنُّ لنا مالاً فيوسعنا ذمَّا 

فروَّى قليلاً ثمَّ أحجمَ برهةً 

وإنْ هو لم يَذبَح فَتاه فَقَدْ هَمَّا 

وقال: هيا رباه، ضيف ولا قرى!

بحقِّك، لا تحرمه تا الليلةَ اللحما 

فبينا هُما عَنَّتْ على البُعْد عانةٌ

 قد انتظمت من خلفِ مِسحلِها نظما 

عطاشًا تريدُ الماء فانساب نحوها 

على أنَّه منها على دمها أظْمَا 

فأمهلها حتى تروَّت عطاشها

فأرسل فيها من كنانته سهما 

فَخَرَّتْ نَحُوصٌ ذاتُ جَحْشٍ سَمِينَةٌ 

 قد اكتنزت لحماً وقد طُبِّقتْ شحما 

فيا بِشرهُ إذ جرَّها نحو أهلِه 

 ويا بِشْرَهمْ لمّا رأوْا كَلْمَها يَدْمَى 

فباتوا كِراماً قد قَضَوْا حَقَّ ضَيْفَهم 

 ولم يَغرَموا غُرماً  وقد غَنِموا غُنما 

وبات أبوهمْ من بشاشته أباً 

 لضيفهمُ والأُمُّ من بِشْرها أُمَّا(3).

ولما جاء الإسلام أكد الدعوة إلى إكرام الضيف، وجعل له حقًا على من نزل به، حتى قال العلماء: إن الضيافة مستحبة، وقال آخرون منهم: بل واجبة.

قال النووي: ”  وقد أجمع المسلمون على الضيافة وأنها من متأكدات الإسلام. ثم قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى والجمهور: هي سنة ليست بواجبة، وقال الليث وأحمد: هي واجبة يومًا وليلة. قال أحمد رضي الله عنه: هي واجبة يومًا وليلة على أهل البادية، وأهل القرى دون أهل المدن”(4).

وقال الشوكاني : “والحق وجوب الضيافة لأمور: الأول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب. والثاني: التأكيد البالغ يجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر، ويفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولى. والثالث: قوله: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) فإنه صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعا. قال الخطابي: يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف، ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك”(5).

والراجح ما ذهب إليه الجمهور.

وقد بلغ  بعض الصالحين من إكرام الضيف ما جاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: “إِنَّ زَكَاةَ الرَّجُلِ فِي دَارِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا بَيْتًا لِلضِّيَافَةِ”(6).

وقال شقيق البلخي: “ليس شيءٌ أحب إلي من الضيف؛ لأن مؤونته على الله تعالى، ومحمدته لي، وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا لقمةً في يدي لوضعتها في فم ضيفي”(7).

إننا حين نذكر حق الضيف وندعو إلى إكرامه وحسن الأدب معه لابد أن نقول كذلك عدلاً وإنصافًا: وعلى الضيف كذلك أن يحسن تعامله مع مضيفه، ويفقه آداب الضيافة؛ لأن هناك ضيوفًا ثقلاء، لا يعرفون كيف السلوك الحسن مع المضيف.

وهذا من شأنه أنه ضيّق دائرة إكرام الضيف بين الناس، وغدا بعض الأضياف على البيوت همًا ثقيلاً  لدى أهلها، فأدى ذلك إلى تكدير الصفاء وحصول الضغينة والقطيعة.

لذلك سيكون حديثنا في هذا الأدب عن آداب المضيف وآداب الضيف، ويكون الكلام على النحو الآتي:

الضيافة في نظر الخُلق والشرع6 أدب الضيافة في نظر الخُلق والشرع

أولاً: أسباب العناية بأدب الضيافة:

هناك أسباب تدعونا إلى الحديث عن هذا الأدب العظيم، منها:

1-أن إكرام الضيف من مكارم الأخلاق التي يتسابق إليها نبلاء الناس وعِليتُهم ويفتخرون بها.

“قال الأصمعي: سألت عنبسة بن وهب الدارمي عن مكارم الأخلاق فقال: أما سمعت قول عاصم بن وائل المنقري:

وإنا لنَقري الضيف قبل نزوله

ونُشبعه بالبِشْر من وجهِ ضاحكِ(8).

وقال حاتم الطائي المشهور بإكرام الضيف:

أيَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةَ مَالِكٍ

وَيَا ابْنَةَ ذِي الجدَّيْنِ وَالفَرَسِ الوَرْدِ 

إِذَا ما صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ 

أَكِيْلًا فَإِنِّي لَسْتُ أكِلَهُ وحْدِي 

قَصِيًّا كَرِيْمًا أَو قَرِيْبًا فَإِنَّنِي

أَخَافُ مَذَمَّاتِ الأَحَادِيْثِ مِنْ بَعْدِي 

وإنّي لعَبْدُ الضّيفِ ما دام ثاوياً

وما فيّ إلاّ تلكَ من شيمةِ العَبدِ(9).

2-إكرام الضيف شعيرة من شعائر ديننا، وحق مأمور به فيه.

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا، فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا: (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ)(10).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)(11).

3-ظهور التقصير الكبير في هذا الأدب من قبل كثير من الناس، لاسيما في المدن والحواضر، أما في القرى والبوادي فلازالت لهذا الأدب أعلام بادية.

4-قلة فقهِ الضيوف آدابَ الضيافة.

فهناك ضيوف لا يعلمون من الضيافة إلا أن للمضيق حقًا في إكرامهم والإحسان إليهم، دون أن يفقهوا أن هناك آدابًا عليهم أن يلتزموا بها أيضًا.

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: (يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ)(12).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لِلضَّيْفِ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ثَلَاثٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يَرْتَحِلَ لَا يُؤْثِمُ أَهْلَ مَنْزِلِهِ)(13).

فهذا مما يدعو إلى الحديث عن هذا الأدب.

5-شكوى عدد من الناس: من الضيوف والمضيفين في قلة التحلي بآداب الضيافة.

فهناك ضيوف لا يلقون ما ينبغي لهم من الإكرام والأدب عند من أضافهم.

وهناك أرباب منازل يشكون من سوء أدب بعض الأضياف وقلة مراعاتهم لمشاعرهم وحقوقهم.

ثانيًا: تعريف أدب الضيافة:

هو: لزوم أقوال وأفعال حسنة من الضيف مع مضيفه، ومن المضيف مع ضيفه من كرم اللقاء ولطف المعاملة التي يأمر بها الشرع الحكيم، والخلق الكريم.

ثالثًا: صور أدب الضيافة:

القسم الأول: صور أدب المضيف. 

القسم الثاني: صور أدب الضيف. 

القسم الأول: صور أدب المضيف:

1-أن لا يهمل دعوة أقاربه وجيرانه وخلّانه، لاسيما في الضيافة العامة التي تكون ذات مناسبة؛ لأن تركهم من ذلك يوغر الصدور ويدعو إلى القطيعة.

قال الغزالي: ” وينبغي أن لا يهمل أقاربه في ضيافته؛ فإن إهمالهم إيحاش وقطع رحم، وكذلك يراعي الترتيب في أصدقائه ومعارفه؛ فإن في تخصيص البعض إيحاشًا لقلوب الباقين”(14).

فإن جاوزت الدعوة بعض الأقارب والأصدقاء فليتمسوا لصاحبها العذر؛ فقد يكون ذلك عن نسيان، أو مصلحة معتبرة لديه.

2-أن لا يدعو من تشق إجابته.

كأن يكون في مكان بعيد، أو يكون في وقت الدعوة مشغولاً بأمر يهمه، ولكن إذا ظن أنه سيجد في نفسه عليه فيكفي إعلامه بالدعوة. “

قال ابن الجوزي: لا ندعو من تشق عليه الإجابة”(15).

3- أن لا يدعو من يتأذى الحاضرون بحضوره؛ لفحشه أو ظلمه أو سوء أدبه، أو غير ذلك. 

4-ترك الحلف على الضيف. 

فربما يكون لديه موانع من الإجابة. وقد يحلف بعضهم بالحرام والطلاق، وهذه مصيبة فوق أخرى. 

5-طلاقة الوجه وحسن استقبال الضيف. 

سئل الأوزاعي: مَا إكرام الضيف؟ قَالَ: طلاقة الوجه، وطيب الكلام(16). 

وقالت العرب: “تمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة”(17).

قال الشاعر:

سَلِي الطَّارِقَ الْمُعْتَرَّ يَا أُمَّ خَالِدٍ

إِذَا مَا أتاني بَيْنَ نَارِي وَمِجْزَرِي 

أَأَبْذُلُ وَجْهِي إِنَّهُ أَوَّلُ الْقِرَى

وَأَبْذُلُ مَعْرُوفِي لَهُمْ دُونَ مُنْكَرِي(18). 

وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: أَضَافَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ طَارِقًا فَنَحَرَ لَهُ، فَقَالَ: 

وَمُسْتَنْبِحٍ بَعْدَ الْهُدُوءِ دَعْوَتُهُ

وَقَدْ حَانَ مِنْ سَارِي السَّمَاءِ طُرُوقُ 

تَأَلَّقَ فِي عَيْنٍ مِنَ الْمُزْنِ وَادِقٍ 

لَهُ هَيْدَبٌ جَمُّ السِّجَالِ دَفُوقُ 

فَقُلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا

فَهَذَا مَبِيتٌ صَالِحٌ وَصَدَيقُ

أَضَفْتُ فَلَمْ أُفْحِشْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَقُلْ

لِأَحْرِمَهُ: إِنَّ الْفِنَاءَ يَضِيقُ

لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلَادٌ بِأَهْلِهَا

وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ(19).

وقال الآخر:

وإني لطلق الوجه للمبتغي القرى

وإن فنائي للقرى لرحيب

أضاحك ضيفي عند إنزال رحله

 فيخصب عندي والمحل جديب(20).

وقال آخر:

إذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزِلًا مِنْكَ طَالِبًا

قِرَاكَ وَأَرْمَتْهُ إلَيْكَ الْمَسَالِكُ 

فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلًا

وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلًا وَيَوْمٌ مُبَارَكُ 

وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ الْقِرَى

عُجُولًا وَلَا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ 

فَقَدْ قِيلَ بَيْتًا سَالِفًا مُتَقَدِّمًا

تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَمَالِكُ 

بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ الْقِرَى

فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ(21).

6-الحديث مع الضيف واختيار ما يحبه منه؛ فإن حسن الحديث هو الشطر الآخر من القرى.

قَالَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ:

إِنَّكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ نِعْمَ الْفَتَى

وَنِعْمَ مَأْوَى طَارِقٍ إِذَا أَتَى

 وَرَبُّ ضَيْفٍ طَرَقَ الْحَيَّ سُرًى

صَادَفَ زَادًا وَحَدِيثًا مَا اشْتَهَى

إِنَّ الْحَدِيثَ جَانِبٌ مِنَ الْقِرَى

قَالَ خَلَفٌ: وَمِنَ سُنَّةِ الْأَعْرَابِ إِذَا حَادَثُوا الْغَرِيبَ وَنَهِمُوا إِلَيْهِ وَفَاكَهُوهُ أَيْقَنَ بِالْقِرَى، وَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْهُ أَيْقَنَ بِالْحِرْمَانِ، فَمِنْ ثمَّ قِيلَ: إِنَّ الْحَدِيثَ جَانِبٌ مِنَ الْقِرَى(22).

قال الإبشيهي: ” ومن آداب المضيف: أن يحدث أضيافه بما تميل إليه نفوسهم، ولا ينام قبلهم، ولا يشكو الزمان بحضورهم، ويبش عند قدومهم، ويتألم عند وداعهم، وأن لا يحدث بما يروعهم به. كما حكي عن بعض الكرام أنه دعا جماعة من أصحابه إلى بستانه، وعمل لهم سماطًا، وكان له ولد جميل الطلعة، فكان الولد في أول النهار يخدم القوم ويأنسون به، ففي آخر النهار صعد إلى السطح، فسقط فمات لوقته، فحلف أبوه على أمه بالطلاق الثلاث أن لا تصرخ ولا تبكي إلى أن تصبح، فلما كان الليل سأله أضيافه عن ولده، فقال:

هو نائم، فلما أصبحوا وأرادوا الخروج قال لهم: إن رأيتم أن نصلي على ولدي؛ فإنه بالأمس سقط من على السطح، فمات لساعته، فقالوا له: لم لا أخبرتنا حين سألناك؟

فقال: ما ينبغي لعاقل أن ينغص على أضيافه في التذاذهم، ولا يكدر عليهم في عيشهم، فتعجبوا من صبره وتجلده، ومكارم أخلاقه، ثم صلوا على الغلام وحضروا دفنه، وبكوا عليه وانصرفوا”(23).

7-ترك التكلف في إكرام الضيف.

عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَتَكَلَّفَنَّ أَحَدٌ لِضَيْفِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ)(24).

وعَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي عَلَى سَلْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خُبْزًا وَمِلْحًا فَقَالَ: “لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنِ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْتُ لَكُمْ”(25).

وقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: “إِذَا نَزَلَ بِكَ ضَيْفٌ فَلَا تَكَلَّفْ لَهُ مَا لَا تُطِيقُ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ إِطْعَامِ أَهْلِكَ، وَالْقَهُ بِوَجْهٍ طَلْقٍ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكَلَّفْ لَهُ مَا لَا تُطِيقُ أَوْشَكَ أَنْ تَلْقَاهُ بِوَجْهٍ يَكْرَهُهُ”(26).

وعن عُبَيْدِ بْنِ جُنَادٍ  قال: سَمِعْتُ الْمُفَضَّلَ، وَصِيَّ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ يَقُولُ: “إِنَّمَا تَقَاطَعَ النَّاسُ بِالتَّكَلُّفِ”(27).

وقال بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: “إِذَا أَتَاكَ ضَيْفٌ فَلَا تَنْتَظِرْ بِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَتَمْنَعْهُ مَا عِنْدَكَ، قَدِّمْ إِلَيْهِ مَا حَضَرَ، وَانْتَظِرْ بِهِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُرِيدُ مِنْ إِكْرَامِهِ”(28).

“وسُئل أقْرى أهلِ اليمامة للضيف: كيف ضبطتم القِرى؟ قال: بأن لا نتكلّفَ ما ليس عندنا”(29).

8-القيام بمدة الضيافة المذكورة في السنة واحتساب الصدقة فيما زاد على ذلك.

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ العَدَوِيِّ، قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ) قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ)(30).

قال النووي: ”  قال العلماء معناه الاهتمام به في اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف”(31).

9- أن يستمر المضيف في الأكل حتى يشبع الضيف؛ إذ لو قام المضيف قبل ضيفه لاستحيا الضيف ونهض قبل أن يقضي نهمته من الأكل.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( كَانَ النَّبِيُّ إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكْلًا)(32). 

قال ابن عبد البر عند حديث أنس بن مالك : “قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء…” الحديث: “وفيه إباحة الشبع للصالحين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آخرهم أكلاً، وذلك من مكارم الأخلاق”(33).

10-ترك المباهاة بضيافته وقصدِ التفاخر وحب الصيت.

قال الغزالي: ” وينبغي أن لا يقصد بدعوته المباهاة والتفاخر، بل استمالة قلوب الإخوان، والتسنن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطعام الطعام، وإدخال السرور على قلوب المؤمنين”(34). 

وقال أيضًا: قال ابن مسعود رضي الله عنه: “نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه. وكره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة(35).

11-استحباب فطر المضيف في الصيام المستحب من أجل ضيفه؛ لما في ذلك من الإيناس. ما لم يشق عليه ذلك.

عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)(36).

 “والزَّائر هو الضَّيف، ففيه أنَّ ربَّ المنزِل إذا نزَل به ضَيْفٌ يُفطِر لأجله إيناسًا له وبَسْطًا”(37). 

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: قلت للنبي عليه الصلاة والسلام: مُرْنِي بِعَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ). قَالَ: فَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ لَا يُرَى فِي بَيْتِهِ الدُّخَانُ نَهَارًا إِلَّا إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ(38). 

وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَلْمَانَ بْنَ مُوسَى: “أَكَانَ يُفْطِرُ الرَّجُلُ لِضَيْفِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. 

وعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلرَّجُلِ الصَّائِمِ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ أَنْ يُفْطِرَ، وَيَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَهُ”(39).

12-خدمة الضيف بما يحتاج إليه مدة ضيافته.

قال أبو حاتم: “ومن إكرام الضيف: طيب الكلام، وطلاقة الوجه، والخدمة بالنفس؛ فإنه لا يذل من خدم أضيافه، كما لا يعز من استخدمهم، أو طلب لقراه أجرا”(40).

وقال إبراهيم بن الجنيد: “كان يقال: أربع للشّريف لا ينبغي أن يأنف منهن وإن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم يتعلم منه، وإن سئل عمّا لا يعلم أن يقول: لا أعلم”(41).

وقال المقنع الكندي:

وإنى لعبد الضَّيْف مَا دَامَ ثاويا

 وَمَا شِيمَة لي غَيرهَا تشبه العبدا(42).

13- اختيار أحسن المجالس للضيف.

” قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه فقلت: يا أبا عبد الله، أليس يقال: صاحب البيت والمجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم، يقعد ويقعِد من يريد. قال: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد إليك فائدة. ثم قلت: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك؛ فإن لي إخوانًا ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم. قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد. فلما أردت القيام قام معي قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، قال: فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر: أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ بركابه. قال: قلت يا أبا عبد الله، من عن الشعبي؟ قال: ابن زائدة عن مجالد عن الشعبي. قال: قلت: يا أبا عبيد، هذه ثالثة”(43).

14-أن لا يكدِّر ضيوفه بقول أو فعل جداً  كان أو هزلا.

” فيجب على المضيف أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن، ولا يغضب على أحد بحضورهم، ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه، ولا يعبس بوجهه ولا يظهر نكدا، ولا ينهر أحدًا ولا يشتمه بحضرتهم، بل يدخل على قلوبهم السرور بكل ما أمكن”(44).

15-إيثار الضيف بما يحب من طعام وشراب وفراش وغير ذلك.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا) فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[الحشر:9](45).

16-تعجيل الطعام وعدم تأخيره؛ فإن التأخير من غير عذر صحيح يؤذي الضيف.

قال الغزالي: ” وأما إحضار الطعام فله آداب خمسة:

الأول: تعجيل الطعام؛ فذلك من إكرام الضيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

ومهما حضر الأكثرون وغاب واحد أو اثنان وتأخروا عن الوقت الموعود فحق الحاضر في التعجيل أولى من حق أولئك في التأخير، إلا أن يكون المتأخر فقيرًا أو ينكسر قلبه بذلك فلا بأس في التأخير، وأحد المعنيين في قوله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴾[الذاريات:24] أنهم أكرموا بتعجيل الطعام إليهم دل عليه قوله تعالى: ﴿ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾[هود:69]. وقوله: ﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾[الذاريات:26].

والروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: في خفية، وقيل: جاء بفخذ من لحم، وإنما سمي عجلاً لأنه عجله ولم يلبث.

قال حاتم الأصم: العجلة من الشيطان إلا في خمسة؛ فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب”(46).

الضيافة في نظر الخُلق والشرع5 أدب الضيافة في نظر الخُلق والشرع

17-ترتيب الطعام حسب عادة الضيف.

فإن كان من عادة الضيف تقديم صنف من أصناف الطعام أو الشراب قدمه على غيره، كمن عادته تقديم الفاكهة على سائر الطعام، وإن كان من عادته تأخيرها أخرها.

قال الغزالي-وهو يذكر آداب إحضار الطعام-: ” الثاني: ترتيب الأطعمة، بتقديم الفاكهة أولاً إن كانت فذلك أوفق في الطب؛ فإنها أسرع استحالة، فينبغي أن تقع في أسفل المعدة.

وفي القرآن تنبيه على تقديم الفاكهة في قوله تعالى: ﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴾[الواقعة:20].

ثم قال: ﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾[الواقعة:21]، ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة: اللحم والثريد”(47).

18- تقديم الطعام دفعة واحدة؛ ليختار الضيف ما شاء.

قال الغزالي: ” الثالث: أن يقدم من الألوان ألطفها حتى يستوفي منها من يريد، ولا يكثر الأكل بعده. وعادة المترفين تقديم الغليظ ليستأنف حركة الشهوة بمصادفة اللطيف بعده وهو خلاف السنة؛ فإنه حيلة في استكثار الأكل. وكان من سنة المتقدمين: أن يقدموا جملة الألوان دفعة واحدة ،ويصففوا القصاع من الطعام على المائدة؛ ليأكل كل واحد مما يشتهي،

وإن لم يكن عنده إلا لون واحد ذكره؛ ليستوفوا منه ولا ينتظروا أطيب منه.

ويحكى عن بعض أصحاب المروءات أنه كان يكتب نسخة بما يستحضر من الألوان ويعرض على الضيفان…وقال آخر: كنا جماعة في ضيافة، فقدِّم إلينا ألوان من الرؤوس المشوية طبيخًا وقديدًا، فكنا لا نأكل ننتظر بعدها لونًا أو حملاً، فجاءنا بالطست ولم يقدم غيرها، فنظر بعضنا إلى بعض فقال بعض الشيوخ- وكان مزاحًا-: إن الله تعالى يقدر أن يخلق رؤوسًا بلا أبدان. قال: وبتنا تلك الليلة جياعاً نطلب فتيتاً إلى السحور.

فلهذا يستحب أن يقدم الجميع أو يخبر بما عنده”(48).

19- أن يقدم ما يكفيهم بلا إسراف ولا تقتير.

” فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة، والزيادة عليه تصنع ومرآءة…” وكان” لا يرفع من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلة طعام قط؛ لأنهم كانوا لا يقدمون إلا قدر الحاجة، ولا يأكلون تمام الشبع”(49).

20-تنويع الطعام بقدر الحاجة، ولاسيما من الجيد منه.

فقد لا يعجب الضيفَ صنفٌ، ويعجبه صنف آخر وبذلك يتم شبعه.

” قيل للأوزاعي: رجل قدّم إلى ضيفه الكامخ والزيتون، وعنده اللحم والعسل والسمن؟ فقال: هذا لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

قال أبو ذؤيب:

لا درَّ درِّيَ إن أطعمتُ نازلهمْ

خبز الشَّعيرِ وعندي البرُّ مكنوز”(50).

21- الأكل مع الضيف من خوان واحد؛ فإن ذلك أدعى للأنس وأبلغ في الإكرام والإعظام.

وكان العرب” لكرمهم يفضلون الاجتماع على الأكلِ، ويستقبحون التفرّد”(51).

22- أن لا يبادر إلى رفع نوع الطعام قبل تمكنهم من قضاء حاجتهم منه. 

قال الغزالي: ” الرابع: أن لا يبادر إلى رفع الألوان قبل تمكنهم من الاستيفاء؛ حتى يرفعوا الأيدي عنها؛ فلعل منهم من يكون بقية ذلك اللون أشهى عنده مما استحضروه، أو بقيت فيه حاجة إلى الأكل فيتنغص عليه بالمبادرة”(52).

23- أن يخرج مع الضيف إلى باب الدار.

لأن هذا من دلائل الفرح بنزول الضيف وإعظامه. 

قال الغزالي: “فأما الانصراف فله ثلاثة آداب: 

الأول: أن يخرج مع الضيف إلى باب الدار وهو سنة، وذلك من إكرام الضيف”(53). 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:” إن من السنة: إذا دعوت أحدًا إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج”(54).

24- السمر مع الضيف في الحديث الصالح إن أحب ذلك وكان لا يشق على المضيف.

وقد بوب الإمام البخاري : ” بَاب السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالأَهْلِ”(55)، وساق تحته قصة أبي بكر رضي الله عنه وضيوفه من أهل الصفة.

25-تفقد دابة الضيف ووضعها في المكان اللائق بها.

وهذا يشمل اليوم المراكب الحديثة، فالمضيف يختار لسيارة ضيفه موقفًا آمنًا بعيداً عن طريق الناس، ومواقفهم الخاصة. وهذا من تمام الكرم.

قال الأبشيهي: ” ومن آداب الضيف: أن يتفقد دابة ضيفه ويكرمها قبل إكرام الضيف، قال الشاعر:

مطيّة الضيفِ عندي تلو صاحبها

 لن يأمن الضيفُ حتى تُكرِم الفرسا”(56).

26-عدم استخدام الضيف حتى ولو كان المضيف كبير الشأن، بل ذلك يعد من الإهانة.

فليس من الأدب والإكرام: أن يقول المضيف لضيفه: افعل كذا وأحضر كذا. 

إلا إذا نهض ضيف بنفسه من بين الأضياف لخدمة ما؛ لقلة من يساعد رب المنزل في القيام بحق ضيوفه فلا بأس. 

قال رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: “سَهِرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلَةً فَجَفَّ الْقِنْدِيلُ مِنَ الدُّهْنِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ الْغُلَامَ فَصَبَّ فِي الْقِنْدِيلِ مِنَ الدُّهْنِ، قَالَ لَهُ: قَدْ دَأَبَ يَوْمَهُ وَإِنَّمَا أَخَذَ فِي نَوْمِهِ السَّاعَةَ قُلْتُ: أَفَلَا أَقُومُ أَنَا فَأَصُبُّ فِي الْقِنْدِيلِ مِنَ الدُّهْنِ؟ قَالَ: لَا. فَقَامَ هُوَ فَصَبَّ فِي الْقِنْدِيلِ مِنَ الدُّهْنِ ثُمَّ رَجَعَ، ثُمَّ قَالَ: قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَجَعْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. يَا رَجَاءُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ اسْتِخْدَامُ ضَيْفِهِ “(57).

الضيافة في نظر الخُلق والشرع2 أدب الضيافة في نظر الخُلق والشرع

القسم الثاني: صور أدب الضيف:

1-أن يحرص على إجابة من دعاه لضيافته؛ فإن ذلك من أسباب تآلف القلوب، إلا إذا كان له عذر صحيح من ترك إجابته.

فالإجابة سنة مؤكدة وقد قيل بوجوبها في بعض المواضع، قال صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كُراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت).

وللإجابة خمسة آداب:

الأول: أن لا يميز الغني بالإجابة عن الفقير. فذلك هو التكبر المنهي عنه، ومن المتكبرين من يجيب الأغنياء دون الفقراء وهو خلاف السنة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد ودعوة المسكين. 

ومر الحسن بن علي رضي الله عنهما بقوم من المساكين الذين يسألون الناس على الطريق وقد نشروا كِسرًا على الأرض في الرمل وهم يأكلون وهو على بغلته، فسلم عليهم فقالوا له: هلم إلى الغداء يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، إن الله لا يحب المستكبرين. فنزل وقعد معهم على الأرض، وأكل ثم سلم عليهم وركب، وقال: قد أجبتكم فأجيبوني قالوا: نعم، فوعدهم وقتًا معلومًا فحضروا فقدم إليهم فاخر الطعام، وجلس يأكل معهم.

الثاني: أنه لا ينبغي أن يمتنع عن الإجابة؛ لبعد المسافة كما لا يمتنع لفقر الداعي وعدم جاهه، بل كل مسافة يمكن احتمالها في العادة لا ينبغي أن يمتنع لأجل ذلك. 

الثالث: أن لا يمتنع لكونه صائماً، بل يحضر، فإن كان يسر أخاه إفطاره فليفطر وليحتسب في إفطاره بنية إدخال السرور على قلب أخيه ما يحتسب في الصوم وأفضل، وذلك في صوم التطوع. 

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: من أفضل الحسنات: إكرام الجلساء بالإفطار، فالإفطار عبادة بهذه النية وحسن خلق. 

الرابع: أن يمتنع من الإجابة إن كان الطعام طعام شبهة، أو الموضع أو البساط المفروش من غير حلال، أو كان يقام في الموضع منكر. 

الخامس: أن لا يقصد بالإجابة قضاء شهوة البطن فيكون عاملاً في أبواب الدنيا، بل يحسن نيته ليصير بالإجابة عاملاً للآخرة؛ وذلك بأن تكون نيته الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لو دعيت إلى كراع لأجبت) وينوي الحذر من معصية الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجب الداعي فقد عصى الله ورسوله) وينوي إكرام أخيه المؤمن. 

وينوي مع ذلك زيارته ليكون من المتاحبين في الله؛ إذ شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه التزاور(58).

2-استئذان الضيفِ المضيفَ إن كان مع الضيف أحد آتٍ معه.

لأن المضيف قد لا يكون معه طعام كاف للجميع، أو يكون منزله ضيقًا، أو يريد أن يسارّ ضيفه وحده. 

عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ، كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ؟)، قَالَ: نَعَمْ(59).

3-اختيار الوقت المناسب للزيارة وإعلام المضيف بذلك قبل النزول به؛ حتى يستعد لحسن استقباله وإكرامه. 

وليس من الأدب أن يفجأ المرء أخاه بضيافته؛ فقد لا يكون عنده وقت للقيام بحقه، أو لديه موانع أخرى لا يستطيع معها أن يكرم من نزل به. 

4-أن يترك تصدر المجلس واختيار أحسن المواضع فيه؛ فربما يكون ذلك المكان هو مجلس رب المنزل أو ضيفٍ كبير ذي شأن.

 وإنما عليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس أو أجلسه المضيف. 

5-أن يدع الجلوس في المكان المقابل للباب أو الذي يرى فيه حركة أهل المضيف أو يسمع أصواتهم فيه. 

6-أن لا يطيل النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام، ولا يحدق في السفرة التي تساق إليها أصنافه؛ فإن ذلك دليل الشره والطمع. 

7-أن لا يتصرف في الطعام بأكل أو ترتيب أو صنع شيء ما إلا بإذن المضيف. 

8-أن يترك السؤال عن الأطعمة من أين هي ومن طبخها ونحو ذلك. 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا، فَلْيَأكُلْ مِنْ طَعَامِهِ , وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ , فَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ، فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ, وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ)(60). 

9-أن يترك كثرة التلفت والتحديق في نواحي المنزل في أثاثه وبنائه وغيرهما، أو السؤال عما يتعلق بذلك؛ فإن المضيف قد يشعر من هذه التصرفات بوجود حسد من ضيفه له، فيتمنى أنه لم يدع ذلك الضيف إلى منزله. 

10- أن يترك الإفراط في الأكل، لاسيما إذا كان الطعام قليلاً والآكلون كثيرين. 

عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، لاَ يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لاَ تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)(61). 

11-أن يحذر قبح المؤاكلة. 

بل يستعمل الآداب النبوية في الأكل؛ مثل: الأكل والشرب باليمين، وعدم الشرب من فم السقاء والتنفس فيه، والأكل مما يليه، واستعمال النظافة في تناول الطعام، وعدم إبقاء آثار الطعام على الأصابع وحوالي الفم. 

12- أن يبادر إلى الأكل والشرب؛ تطييبًا للمضيف حتى ولو كان ذا شبع وري. 

ويمكن أن يتناول من ذلك القليل حتى يبعد عن مضيفه سوء الظنون. فـ”  ترك الأكل عند الإباحة إساءة ودليل على العداوة، حتى أوجس الخليل صلوات الله عليه خيفة في نفسه من الضيف إذ لم يأكلوا من ضيافته” قال تعالى: ﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾[الذاريات:27-28]”(62).

13-أن لا يتقدم على صاحب البيت في إمامة الصلاة. 

عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(63). إلا إذا طلب صاحب البيت منه ذلك. 

14-أن يحذر أن يتلف شيئًا أو يعطله أو يسرقه من بيت الضيافة. 

سواء كان ذلك من الضيف أم زوجته أم أولاده أم رفاقه. 

15-أن يترك الضيف الحديث الذي يغضب زوجة المضيف ويسبب له مشكلات معها. 

فقد يضعف الحياء عند بعض الأضياف حين يطلق لسانه بالحديث عن أمور الفراش والمعاشرة الزوجية ويصل ذلك إلى مسمع النساء داخل البيت، أو يتحدث عن تزويج رب المنزل، أو يمزح بالكذب بأن للمضيف زوجة أخرى  حين يعلم أن كلامه يبلغ زوجة مضيفه. 

16-أن لا يطيل الإقامة في منزل الضيافة. 

إلا إذا كان لأمر يستدعي ذلك وكان برضا من أضافه أو رغبته. وإذا أراد الانصراف فليستأذن المضيف. قال الغزالي: ” الثالث: أن لا يخرج إلا برضا صاحب المنزل وإذنه، ويراعي قلبه في قدر الإقامة، وإذا نزل ضيفًا فلا يزيد على ثلاثة أيام، فربما يتبرم به ويحتاج إلى إخراجه. نعم لو ألحّ رب البيت عليه عن خلوص قلب فله المقام إذ ذاك”(64).

17- أن ينصرف الضيف طيبَ النفس وإن جرى في حقه تقصير، فذلك من حسن الخلق والتواضع منه(65).

18-أن يحفظ لسانه عن ذم صاحب المنزل إن رأى منه ما يكره ويحفظ أسراره ويستر عوراته.

رابعًا: طرق الوصول إلى أدب الضيافة:

1-تعلم الشريعة الإسلامية والعمل بها؛ فإن شريعتنا أولت هذا الأدب عناية كبيرة. 

2-القراءة في كتب الأدب والأخلاق والتاريخ والتراجم والسير؛ ففيها قصص ومواقف تستحث المرء على لزوم هذا الأدب. 

3-مجالسة أهل الكرم ومرافقة من يقدرون هذا الأدب حق قدره مضيفين كانوا أو وضيوفا. 

4-الحرص على طلب الثواب؛ فإن في هذا الأدب ما يوصل إلى جزيله. 

5-معالجة طبائع السوء في النفس وتغييرها إلى خلائق حسنة. 

6-الانتفاع من رؤية أخلاق الناس. 

“قيل لبعض الكرماء: كيف اكتسبت مكارم الأخلاق، والتأدب مع الأضياف؟ فقال: كانت الأسفار تحوجني إلى أن أفد على الناس، فما استحسنته من أخلاقهم اتبعته، وما استقبحته اجتنبته”(66).

خامسًا: ثمرات العمل بأدب الضيافة:

1-الظفر بالأجر إن شاء الله. 

2- تفريج كربات بعض الضيوف. 

3-استمرار معروف الضيافة بين الناس. 

لأن بعض المضيفين قد يقطع ضيافته بسبب سوء أدب بعض الضيوف، ولكن متى كانوا ذوي أدب فإن هذا المعروف سيبقى. 

4-تعميق المحبة بين الناس. 

5- نيل حب الناس وثنائهم، والرفعة وبقاء السمعة الطيبة بينهم، والظفر بقضاء هذا المعروف؛ إذ جزاء الإحسان الإحسان. 

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ:” كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ إِذَا أَمْسَوُا انْطَلَقَ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ، وَالرَّجُلُ بِالْخَمْسَةِ، فَأَمَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْطَلِقُ بِثَمَانِينَ كُلَّ لَيْلَةٍ “(67).

قال أَبُو حاتم: “إني لأستحب للعاقل المداومة على إطعام الطعام، والمواظبة على قري الضيف؛ لأن إطعام الطعام من أشرف أركان الندى، ومن أعظم مراتب ذوي الحجا، ومن أحسن خصال أولي النهى، ومن عُرف بإطعام الطعام شرف عند الشاهد والغائب، وقصده الراضي والعاتب، وقري الضيف يرفع المرء وإن رق نسبه إلى منتهى بغيته، ونهاية محبته، ويشرفه برفيع الذِّكر وكمال الذخر”(68).

الضيافة في نظر الخُلق والشرع4 أدب الضيافة في نظر الخُلق والشرع

سادسًا: أضرار سوء الأدب في الضيافة:

1-انقطاع المعروف بين الناس 

2-دنو منزلة المرء عند الخلق. 

3-فوات الأجر. 

4-الإشقاق على بعض الناس المحتاجين إلى الضيافة. 

5-بقاء السيرة السيئة بين البشر لمن أساء ضيفًا كان أو مضيفًا.

سابعًا: نموذج مشرق:

إبراهيم عليه السلام:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: “كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفَ”(69).

قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾[هود:69-70]. 

وقال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾[الذاريات:24-28]. 

قال ابن القيم:” فَفِي هَذَا الثَّنَاءُ على إِبْرَاهِيم من وُجُوه مُتعَدِّدَة:

أَحدهَا: أَنه وصف ضَيفه بِأَنَّهُم مكرمون، وَهَذَا على أحد الْقَوْلَيْنِ أَنه إكرام إِبْرَاهِيم لَهُم. وَالثَّانِي: أَنهم المكرمون عِنْد الله. وَلَا تنَافِي بَين الْقَوْلَيْنِ؛ فالآية تدل على الْمَعْنيين. 

الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى ﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ فَلم يذكر استئذانهم. فَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم، فَبَقِيَ مَنْزِلُ ضَيْفِهِ مطروقاً لمن ورده لَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان،  بَلْ اسْتِئْذَانُ الدَّاخِلِ دُخُولُهُ. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ. 

الثَّالِث: قَوْله لَهُم: ﴿سَلامٌ﴾ بِالرَّفْع وهم سلمُوا عَلَيْهِ بِالنّصب، وَالسَّلَام بِالرَّفْع أكمل؛ فَإِنَّهُ يدل على الْجُمْلَة الاسمية الدَّالَّة على الثُّبُوت والتجدد، والمنصوب يدل على الفعلية الدَّالَّة على الْحُدُوث والتجدد، فإبراهيم حياهم أحسن من تحيتهم؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: ﴿سَلامًا﴾ يَدُلُّ عَلَى سَلَّمْنَا سَلَامًا. وَقَوْلَهُ: ﴿سَلَامٌ﴾ أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. 

الرَّابِع: أَنه حَذف من قَوْله: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ فَإِنَّهُ لما أنكرهم وَلم يعرفهُمْ احتشم من مواجهتهم بِلَفْظ ينفر الضَّيْف لَو قَالَ: أَنْتُم قوم منكرون، فَحذف الْمُبْتَدَأ هُنَا من ألطف الْكَلَام. 

الْخَامِس: أَنه بنى الْفِعْل للْمَفْعُول وَحذف فَاعله فَقَالَ: ﴿ مُنْكَرُونَ﴾ وَلم يقل: إِنِّي أنكركم، وَهُوَ أحسن فِي هَذَا الْمقَام، وَأبْعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

السَّادِس: أَنه راغ إِلَى أَهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان هُوَ: الذّهاب فِي اختفاء بِحَيْثُ لَا يكَاد يشْعر بِهِ الضَّيْف، وَهَذَا من كرم رب الْمنزل المضيف أَن يذهب فِي اختفاء بِحَيْثُ لَا يشْعر بِهِ الضَّيْف فَيشق عَلَيْهِ ويستحي فَلَا يشْعر بِهِ إِلَّا وَقد جَاءَهُ بِالطَّعَامِ، بِخِلَاف من يُسمع ضَيفه وَيَقُول لَهُ أَو لمن حضر: مَكَانكُمْ حَتَّى آتيكم بِالطَّعَامِ وَنَحْو ذَلِك، مِمَّا يُوجب حَيَاء الضَّيْف واحتشامه. 

السَّابِع: أَنه ذهب إِلَى أَهله فجَاء بالضيافة فَدلَّ على أَن ذَلِك كَانَ معدا عِنْدهم مهيئًا للضيفان، وَلم يحْتَج أَن يذهب إِلَى غَيرهم من جِيرَانه أَو غَيرهم فيشتريه أَو يستقرضه. 

الثَّامِن: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ دلّ على خدمته للضيف بِنَفسِهِ وَلم يقل: فَأمر لَهُم، بل هُوَ الَّذِي ذهب وَجَاء بِهِ بِنَفسِهِ وَلم يَبْعَثهُ مَعَ خادمه، وَهَذَا أبلغ فِي إكرام الضَّيْف. 

التَّاسِع: أَنه جَاءَ بعجل كَامِل وَلم يَأْتِ ببضعة مِنْهُ، وَهَذَا من تَمام كرمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. 

الْعَاشِر: إِنَّه سمين لَا هزيل، وَمَعْلُوم أَن ذَلِك من أَفْخَر أَمْوَالهم، وَمثله يتَّخذ للاقتناء والتربية فآثر بِهِ ضيفانه. 

الْحَادِي عشر: أَنه قربه إِلَيْهِم بِنَفسِهِ وَلم يَأْمر خادمه بذلك. 

الثَّانِي عشر: أَنه قربه وَلم يقربهُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا أبلغ فِي الْكَرَامَة أَن يجلس الضَّيْف ثمَّ يقرب الطَّعَام إِلَيْهِ، ويحمله إِلَى حَضرته، وَلَا يضع الطَّعَام فِي نَاحيَة، ثمَّ يَأْمر الضَّيْف بِأَن يتَقرَّب إِلَيْهِ. 

الثَّالِث عشر: أَنه قَالَ: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ وَهَذَا عرض وتلطف فِي القَوْل، وَهُوَ أحسن من قَوْله: كلوا أَو مدوا ايديكم. وَهَذَا مِمَّا يعلم النَّاس بعقولهم حسنه ولطفه؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: بِسم الله، أَو أَلا تَتَصَدَّق، أَو أَلا تجبر، وَنَحْو ذَلِك… فقد جمعت هَذِه الْآيَة آدَاب الضِّيَافَة الَّتِي هِيَ أشرف الْآدَاب، وَمَا عَداهَا من التكلفات الَّتِي هِيَ تخلف وتكلف إِنَّمَا هِيَ من أوضاع النَّاس وعوائدهم، وَكفى بِهَذِهِ الْآدَاب شرفاً وفخراً فصلى الله على نَبينَا وعَلى إِبْرَاهِيم وعَلى آلهم وعَلى سَائِر النَّبِيين”(70).

الهوامش:

1) البخلاء للجاحظ (ص: 290). 

2) أمالي ابن الشجري (2/ 500). 

3) ديوان الحطيئة (ص: 136). 

4 ) شرح النووي على مسلم (12/ 30). 

5 ) نيل الأوطار (8/ 179). 

6 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 47). 

7 ) التمثيل والمحاضرة (ص: 430). 

8 ) التذكرة الحمدونية (2/ 228). 

9 ) ديوان حاتم الطائي (ص: 19). 

10 ) رواه البخاري(2461)، ومسلم(1727). 

11 ) رواه البخاري(6135)، ومسلم(47). 

12 ) رواه مسلم(48). 

13 ) رواه أبو يعلى(6134)، والبزار(9674)، والخرائطي في مكارم الأخلاق(346)، وهو صحيح. 

14 ) إحياء علوم الدين (2/ 13). 

15 ) الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 295). 

16 ) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 261). 

17 ) المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 192). 

18 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 22). 

19 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 40). 

20 ) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 261). 

21 ) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 151). 

22 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 23). 

23 ) المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 192). 

24 ) رواه أو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 82)، وهو حسن. 

25 ) رواه الحاكم(7146)، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَلَهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ”، ووافقه الذهبي. 

26 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 37). 

27 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 45). 

28 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 46). 

29 ) الذخائر والعبقريات (1/ 131). 

30 ) رواه البخاري(6019)، ومسلم(48). 

31 ) شرح النووي على مسلم (12/ 31). 

32 ) رواه البيهقي (9187) قال البيهقي: ” قُلْتُ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ “. شعب الإيمان (12/ 146). 

33 ) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 292). 

34 ) إحياء علوم الدين (2/ 13). 

35 ) إحياء علوم الدين (2/ 17). 

36 ) رواه البخاري(1974)، ومسلم(1159). 

37 ) اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 443). 

38 ) رواه ابن حبان(3425)، وابن أبي شيبة(8895)، وهو صحيح. 

39 ) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 340). 

40 ) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 261). 

41 ) الإمتاع والمؤانسة (ص: 202). 42 ) الحماسة البصرية (2/ 31). 

43 ) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 238). 

44 ) المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 192). 

45 ) رواه البخاري(3798)، ومسلم(2054) واللفظ له. 

46 ) إحياء علوم الدين (2/ 16). 

47 ) إحياء علوم الدين (2/ 13). 

48 ) إحياء علوم الدين (2/ 17). 

49 ) إحياء علوم الدين (2/ 17). 

50 ) بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 62). 

51 ) الذخائر والعبقريات (1/ 134). 

52 ) إحياء علوم الدين (2/ 17). 

53 ) إحياء علوم الدين (2/ 18). 

54 ) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 238). 

55 ) صحيح البخاري (1/ 124). 

56 ) المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 192). 

57 ) الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 238). 

58 ) إحياء علوم الدين (2/ 13-15) بتصرف. 

59 ) رواه البخاري(2456)، ومسلم(2036). 

60 ) رواه أحمد(9184)، والطبراني في الأوسط(5305)، والحاكم(7160)، وقال: ” هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ”. 

61 ) رواه البخاري(5393). 

62 ) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (2/ 165). 

63 ) رواه مسلم(673). 

64 ) إحياء علوم الدين (2/ 18). 

65 ) إحياء علوم الدين (2/ 18). 

66 ) المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 191). 

67 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 29). 

68 ) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 258). 

69 ) قرى الضيف لابن أبي الدنيا (ص: 18). 

70 ) جلاء الأفهام (ص: 271-274).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى