أدبأشتات

أنا والكُتَّاب.. من اللوح إلى اللوح

أظنَّ لو أننا كنَّا نؤرخُ لأعمارنا بالكِتاب، لكنَّا أكثر دقة في التعبير عن أطوارِ علاقتنا بالحياة والزَّمن.. ذلك أنَّ وجودنا كله محكومٌ بالكتاب، من قبل البدء إلى ما بعد الانتهاء! فقبل وجودنا الذي يحققه دبيبنا على الأرض، كانَّ قد تحقَّقَ في أمِّ الكتاب، من قبل أن يُخلق الزَّمان والمكان، الذي سندرُج وننشر فيهما مطويَّ غيبنا المقدر في مرقوم أقدارنا.. حتى إنَّ الحديث النَّبوي ليصور الكتاب وهو يقود خطانا إلى حيث قدر لها أن تسير، واضعا عينه على خطاها، أن تنفلت عن عقاله، ولو حدث أن انفلت عقالها لبعض الوقت فإنه يعيد خطمها لتسير إلى حيث تشاء المشيئة المودعة في كتاب الحكمة، “فوالذي لا إلَه غيرُه إنَّ أحدَكم ليعملُ عملَ أهلِ الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ عملَ أهلِ الجنةِ فيدخلُ الجنةَ” (الصحيحان)..

وليست هذه المساحة لتوضيح اللبس الذي قد يركب بعض الفهوم القاصرة عن إدراك العلاقة بين مشيئة العبد ومشيئة الرَّب سبحانه.. فلهذا الحديث مناسبات أخرى غير هذه المناسبة المخصصة لتتبع الكتاب وهو ينشر ويطوي أطوار حيواتنا حياة حياة.

ومثلما أنَّ الظهور على مسرح الحياة مؤقت بالكتاب، فإن انقضاء الدور وانسدال الستارة، مؤقت بكتاب أيضًا، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران:145).

إلى ذلك، فإن بقاءنا في هذه الحياة العابرة بين الغيبين لا يعدو أن يكون لتأليف الكتاب الذي سيحدد مصائرنا الأبدية في حياةِ الخلود، تلك الحياة التي تبدأ أولى فصولها بنشر ما طوى الإنسان من كتاب أعماله في هذه المحطة العابرة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء:13-14).

وستلجمنا الدهشة يومئذ ونحن نقفُ على سجلٍ أحصى كل شيء مر بنا ومررنا به، حتى الأنفاس والخواطر!

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف:49).

(وفي الحديث الصحيح سوى الحق سبحانه في الأجر والوزر بين فاعلي الخير والشر ومتمنيي فعلهما)!

ولقد يتبادر للذهن أنَّ علاقتنا بكتاب الأعمال تنتهي بانتهاءِ الأنفاس وحلول الآجال.. لكن الحقيقة أنَّ الكتاب أطول عمرًا وأبقى أثرًا من كاتبه، فصفحاته تفوق أيام كاتبه، لتمتد إلى ما بعد توقف بندول الأنفاس في صدره.. ذلك أنه عندما تطوى صفحات حياتنا المحدودة ويغوص طيننا في بطنِ الطين.. ستبقى لنا على ظهرها حياة يتنفس فيها عملنا الصَّالح عبر الكتاب (أو علمٌ يُنتَفَعُ به)!

54 أنا والكُتَّاب.. من اللوح إلى اللوح

وما بينَ كتاب الغيب وكتاب النَّفع، تسري حيواتنا على موج من ورق الأفكار.. وسواء كنا نحن من نحدد هذا الكتاب الذي يقود خطانا -كما يبدو للحواس- أو كان غيرنا هو من يحدد الكتاب الذي سيوجه روافدنا لتصب في نهره.. سواء كان هذا أو ذاك، فإن الكتاب هو الذي يقود خطانا في طرقات الحياة..

وهل أُرْسِلَ الرُّسل بالكتب إلا ليدُلُّوا البشر على أن أقصر الطُّرق لمعرفة الحق والحقيقة، لا تكون بأي شيء آخر غير الكتاب.. حتى جعل الحق سبحانه الإيمان بالكتب، أحد أركان الإيمان التي لا يتمُّ إيمان المؤمن إلا بها!

بعد هذا السباحة في فضاء الفكرة النَّظرية سأضطر للنزول من سمائها العالي لأغوص في سراديب تجربتي الشَّخصية مع الكِتاب الذي ستكون هذه المقالة بمثابة توطئة للحديثِ عنه في حلقاتٍ أخرى.. وسأكتفي في هذه العجالة بتدوينِ أطراف من تجربتي في المعلامة (الكُتَّاب) بدءًا من اللحظة الأولى التي قابلت فيها الأحبين: الفقيه ولوح الكتابة.

ذلك اللوح الذي كان بالنسبةِ لي فاتحة اللقاءات بالكتاب الأعظم في حياتي، وحياة كل الحياة والأحياء.. هذا اللقاء الذي سيتكرر في كل أدوار حياتي، مع هذا الكتاب العظيم.. والذي سيلاقيني في كل دور صعدته لأجده يعلو ما علوت به، من كل وجه وجهة، وكلَّما خلقت لي العلوم والمعارف سقفًا، أمطرت عليه سحائب القرآن الكريم الغيث الذي يغسله من أدرانِ الانحراف والاستغلال السيء، ووجهته الوجهة النَّافعة.

012 أنا والكُتَّاب.. من اللوح إلى اللوح

لوح الكُتَّاب.. والنُّسخة القرآنية الشَّخصية.

بدا العالَم بالنسبةِ لطفلٍ ريفي، فتحَ عيني بصيرته على كتابَي الكون والحياة، شبكةً متداخلة من الألغاز والأحاجي، تخلُق باستمرار في عقله الصغير متوالياتٍ من أسئلة، تكبُرُ وتفوق بكثير، قدرتَه حتى على صياغتها لتكون أسئلة ناجزة!

وفي بيئة لا تَصِرُّ فيها الأقلام على الأوراق، ولا تنعقد فيها مجالس العلم ليتلقى فيها الصغار علم الكبار، تظل الأسئلة الحائرة تتلوَّى في رأسِ حاملها، حول الألغاز الكونية والحياتية، كما تتلوى الكواكب حول نجمها دون أن يقر لها قرار.

الوجهة.. حيث تبزغ الشمس!

حين بلغت السِّن التي يقرِّر فيها الآباء التوجه بأبنائهم إلى المعلامة ليتعلموا القرآن الكريم وبعض علوم اللغة والحساب على الفقيه.. كنتُ على موعدٍ مع بزوغ فجر المعرفة الذي سيشرب من خيوط ضوئه الفتى أولى قطرات المعرفة التي خلق والشغفَ بها في قدر واحد.. وفي ذلك اليوم الذي تقرر فيه أنَّ الطفل قد أصبحَ قادرًا على قطع رحلة الأربعة كيلو مترات يوميًا ذهابًا ومثلها إيابًا، اتجهت به والدته نحو المعلامة، في رفقة كانوا رفقة الدرس وأضحوا فيما بعد رفقة العمر.

تقع المعلامة (الكتَّاب) في قرية المحيرس شرق قريتنا، على بعد حوالي أربعة كيلوهات.. حيث معلم القرآن الفقيه الشيخ الشهيد عبد الكافي، الذي يقع من القرية والمعلامة موقع العقل علمًا، والقلب هداية، والرُّوح وُدًّا!

وللوهلة الأولى التي رأيت فيها الشيخ عبد الكافي، خُيِّل إليَّ، وأنا أتلقى شلال النور المنبعث من عينيه انبعاث الأذان من حناجر الفجر، أني عثرت على الباب الذي سأطل منه على الحقائق متجلية؛ حدًا لا تقدر فيه هي ذاتها على التواري خلف الجهل، كما لا تقدر شمس الظهيرة على التواري خلف أي شيء..

ولقد رأيتُ في بسمته المشعة، ثغرًا يَفترُّ عن ثُغرة ستتقاذف منها الحقائق على وجودي الصَّغير، لتفتح له الأبواب على حقائق الوجود الكبرى.. فتكون الطمأنينة الكافية للسير في بداية الطريق.

101 أنا والكُتَّاب.. من اللوح إلى اللوح

ما الذي كانه اللوح؟

لن أغوص في تسجيل الصور الأولى التي مازالت عالقة في حنايا الروح، عن اللقاءات الأولى بأحب معلمِيَّ، على كثرتهم، وجلال قدرهم، فهي أكثر من أن تحصى في مقال، وأعمق من أن تحكى في كلمات، وأكثر بكثير من قدرة اللغة على الإحاطة.. فلقد كان الشيخ الشهيد، رضي الله عنه، أصدق من صدِّيق، وأحرص من أب، وأشفق من جد..

بيد أني سأدون على عجالةٍ ما عنى لي اللوح الأول والحرف الأول والكلمة الأولى والصفحة الأولى من كتابِ الله، وأنا أتصل بهذا الكتاب اتصالًا مباشرًا، لا تفصلني عنه الأوراق ولا والتفاسير ولا الهالة المضروبة على التَّعامل مع المصحف..

لقد أتاحَ لي اللوح أن أمتلكَ النُّسخة الخاصة بي من القرآن الكريم.. النُّسخة التي أكتبُ أحرفها بخطي أنا، أيا كان شكله، بأناملي التي حين أمسكت عود القصب الذي أكتب به، خُيِّل إليها أنها ملكت دفة الحياة، لتوجهها الوجهة التي تريد.. وبدأت أكتبُ الكلمات الأولى، وأرسم لها معاني مما وفرته لي البيئة من دلالات معهودة، فإن لم أجد تكفَّل الخيال بالباقي.. وقد علق في ذهني من ذلك الباقي صورة القمر الذي مَثُل في خيالي وهو يَتَلاهَا (يتمايلُ لاهيًا) وأنا أكتبُ الآية الثانية من سورة الشمس {والقمر إذا تلاها}!

وهكذا مضت رحلتي في خطواتها الأولى في فردوس الكُتَّاب.. أستمع إلى الشيخ وهو يتلو عليَّ بضع آيات، ثمَّ يقوم بكتابتها هو، ثمَّ أقوم أنا بمحوها وكتابتها ثانية.. لأكرر قراءتها حتى أصل لحفظها.. كي ننتقل للسورة التالية أو الآيات اللاحقة..

وهكذا وهكذا.. وبهذه الآلية رسخت علاقتي بالنَّص القرآني وأصبح نصًّا يخصني أنا يخاطبني أنا يوجهني أنا..

يوجه عاطفتي فيما أحب وما أكره، ويوجه أفعالي فيما آتي وما أدع، ويوجه خطاي إقبالًا وإدبارًا..

وعلى وجه ذلك اللوح ارتسمت كل الخطوط الرئيسية في ملامح شخصيتي الفكرية، والسياسية، والأدبية، والاجتماعية.

وحين أقول ذلك، فإني لا أقصد الصورة المثلى، وإنما الصورة الواقعية التي تقدم وتحجم، تنجح وتخفق، تصعد وتهبط، توفق وتخذل.. الصورة التي يكافح صاحبها لينتظم وقع خطاه مع إيقاع الأحرف التي رسمها على لوحه صافية نقية، لم تشبها شائبة فلسفة تخرجها عن سياقها السماوي، أو تغشاها غاشية هوى وشهوة تلوي أعناقها لتسير في ركابِ دنياه أو دنيا سواه..

إنني، وبعد هذه السَّنوات الطويلة ألتفتُ إلى الخلفِ فأرى كل خطوة مدينة بالفضل للتي سبقتها، حتى أصل للخطوة التي أعدها خطوة الميلاد الحق؛ إنها تلك الخطوة التي خطوتها لألج إلى عالم شيخي الأحب ولوحي الخشبي ومعلامتي الأثيرة، المعلامة التي ما أظنُّ أنَّ أصواتنا قد غادرتها رغم طول العهد، وإني لأكاد ألمح صدى أصواتنا الصغيرة يخيط السَّماء جيئة وذهابًا، تملأ تراتيله جنباتِ الوجود جلالًا وجمالًا!

إني مدينٌ لتلكَ الحقبة الباكرة من العمر بكلِّ ما استوعبته لاحقًا من علومٍ ومعارف، إذ لم يكن كل ما وقفت عليه في المراحل التعليمية والقرائية المختلفة، في حقيقة الأمر، إلا الشجر الذي نبت من بذورها التي زرعت في صبيحة العمر.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الأسلوب فريد بحق، أكرر بعض الجملِ طمعاً في الغرقِ أكثر بدقائق تفاصيل النص! بورِكَ قلمك.

    1. الجمال شطران؛ أعظمهما في ذائقة القارئ.. إذ الأنف المعطوبة الشم لا تجد في عطر جمالا ولو قطره ويعقوب الكندي.
      شرفت بقراءتك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى