أشتات

الإبراهيمية والعولمة الدينية

مَنطِقيٌّ أنْ تتدخَّلَ السِّياسةُ في القراراتِ الاقتصادِيَّةِ، وواردٌ أنْ تتحكَّمَ في مَساراتِ التِّجارةِ الخارجيَّةِ، ومقبولٌ أنْ ترسمَ خرائطَ السِّياساتِ التَّعليميَّةِ والصِّحيَّةِ والعُمرانيّةِ… وغيرِها، ولكنْ باطلٌ قَطْعًا أنْ تتدخَّلَ بِحِيَلِها الشَّيطانيَّةِ، وألاعِيبِها الزِّئبقيَّةِ في الدِّينِ، الَّذِي هو علاقةٌ قلبيَّةٌ خالصةٌ بين العبدِ وربِّه، تلكَ العُروةُ الوُثقَى التي ينبغِي أنْ تبقَى صادقةً صافيةً من أكْدَارِ الإكراهِ والنفاقِ، بعيدةً عن أوْضَارِ النَّفعيَّةِ والارتزاقِ، مُطهَّرةً من أدرانِ التَّلاعُبِ والتدليسِ، مُبرَّأةً من رجسِ الدَّجلِ والتلبيسِ، فاليقينُ الجازمُ أنَّه إذا دخلتِ السِّياسةُ مجالَ الدِّينِ من البابِ خرجَ الصِّدقُ والنَّقاءُ والطُّهْرُ من الشُّباكِ، وباتَ الدِّينُ ألعوبةً في يدِ المرتزِقَةِ منْ فُقهاءِ السُّوءِ، وتلك إحدَى الكُبَرِ، المُفْسِدَةِ للبشرِ!

فإنْ قالَ قائلٌ: أليسَ هناكَ فرعٌ مُستقلٌّ من العلومِ الإسلاميَّةِ يُسمَّى السَّياسةَ الشَّرعيَّةَ، وقدْ فُصِّلَتْ مَفاهيمُهُ في عشراتِ المؤلَّفاتِ قديمًا وحديثًا؟ قلتُ: السَّياسةُ الشَّرعيَّةُ تعنِي قيامَ ولاةِ الأمورِ على أحوالِ الرَّعيَّةِ بِما يُصلِحُ مَعاشَهمْ ومَعادَهم، في ضوءِ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ واجتهاداتِ الأئمَّةِ الثِّقاتِ قديمًا وحديثًا، وهو إطارٌ شرعيٌّ محمودٌ، من شأنِهِ أنْ يُرشِّدَ السِّياسةَ، وأنْ يَعصِمَها من مزالقِ الظُّلمِ والاستبدادِ والانحرافِ عن منهجِ السَّماءِ، فالدينُ هنا إطارٌ مرجعيٌّ تستنِدُ إليهِ السِّياسةُ، وسياجٌ يصونُها منْ عَبَثِ السفهاءِ، وزوابِعِ الأهواءِ، وجُنَّةٌ تَقِيها تسلُّطَ الأقزامِ، وفَسادَ الطَّغَامِ، فالدِّينُ -في ظلِّ السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ- هو الحاكمُ لا المَحكومُ، والإمامُ لا المأمومُ. أمَّا حديثُنا فعنْ جَعْلِ الدينِ بقدسيَّتِهِ السَّاميةِ أرجوحةً في أيدي السَّاسةِ المتآمِرينَ، وألعوبةً في يدِ عصابةٍ منْ رجالِ الدِّينِ الدَّجَّالينِ، الذين لا يألُونَ جهدًا في إصدارِ فتاوى مُضَلِّلَة، تعزفُ أخبثَ سِيمفونيَّاتِ النَّفاقِ على أعوادِ السَّاسةِ، فتلبِّي مآرِبَهمْ بأحكامٍ صادرةٍ من بالوعاتِ الخساسةِ، ومن ثمَّ تُضفِي على انحرافاتِهم الشَّنعاءِ لباسًا شرعيًّا زُورًا، وتجعلُ بينَ الدِّينِ وأمورِ الحياةِ برزخًا وحجرًا محجورًا، حتَّى تنتَهِيَ إلى تَمييعِ الدينِ جُملةً وتفصيلًا، وتضييعِ معالِمِهِ وحدودِهِ فروعًا وأصولًا.

وقد كُنَّا نَستبعِدُ كثيرًا منَ العلاماتِ الصُّغْرَى التي تواترتْ في أشراطِ السَّاعةِ، مثلَ: كثرةِ الزَّلازلِ، وعودةِ أرضِ العربِ مُروجًا وأنهارًا، واستفاضةِ المالِ، وغَزْوِ جيشٍ الكعبةَ، وقلَّةِ الموحِّدينَ، حتَّى لا يُقالَ في الأرضِ: الله الله… إلى غيرِها من المُنْذِرَاتِ المُوجِعاتِ، فَصِرْنا في خِضَمِّ التغيُّراتِ المُتسارِعَةِ لا نَستبعِدُ شيئًا، ونرى الأرضَ قد أخذتْ زُخرَفَها وازَّيَنَتْ، وظنَّ أهلُها أنَّهم قادرونَ عليها، وقريبًا ستقعُ الزَّلزلةُ العُظْمَى، التي تدكُّها دَكًّا، فَتَذَرُها هَباءً مُنبثًّا!

ثمَّ وقعتِ الواقِعَةُ بالإعلانِ عن أحدثِ مُحاولاتِ السَّطوِ الدِّينيّ، المسلَّحِ بأعْتَى أسلحةِ الإرهابِ الفكريّ، من خِلالِ تدشينِ بيتِ العائلةِ الإبراهيميَّةِ، والذي يَضمُّ مسجدًا وكنيسةً يتوسَّطُهما كنيسٌ يَهوديٌّ؛ ليكونَ -كما زعموا- رمزًا للتَّفاهُمِ والتعايشِ السِّلميّ، وليجسِّدَ القيمَ المشتركةَ بينَ اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ والإسلامِ، وليدلَّ تطابُقُها في المساحةِ والارتفاعِ والشَّكلِ المُكعَّبِ وموادِّ البناءِ على تكافؤِ تلكَ الأديانِ، وليعبِّرَ استقلالُ كلِّ واحدٍ منها بمبنًى عن الكيانِ المُستقلِّ لكلِّ دينٍ منها.

والحقيقةُ التي لا يَختلفُ فيها عَاقلانِ، ولا تنتَطِحُ فيها عَنْزانِ أنَّ هذا المشروعَ ستارٌ شيطانيٌّ يُخفِي وراءَهُ من الدَّجَلِ الكُبَّارِ، ومِنْ مكرِ الليلِ والنَّهارِ، ما يُنذرُ بشرٍّ مستطيرٍ، وأنَّه واجهةٌ زائفةٌ لتمريرِ صفقاتٍ مشبوهةٍ، تَرعاها الصُّهيونيَّةُ العالميَّةُ، وتنفَّذُ على أراضٍ عربيَّةٍ، وأنَّه حلقةٌ في سلسلةٍ طويلةٍ من مكائِدِ الاحتيالِ والمُخاتلةِ، وأنَّ الأياديَ التي ترعاهُ -ما ظهرَ منها وما بطنَ- لمْ تقدِّمْ للأمَّةِ إلَّا كلَّ شرٍّ وبلاءٍ، وأنَّ مَنْ ينتظرُ منها خيرًا كمنْ يلتمسُ الماءَ الزُّلالِ في قاعِ الجحيمِ، أو العسلَ الماذيَّ من شجر الزقومِ، وسبيلُنا أن نكشفَ جملةً من الأقنعةِ عن وجهِ هذهِ المؤامرةِ الخبيثةِ:

أولًا:

قِناعُ التَّاريخِ؛ ففكرةُ توحيدِ الأديانِ، أو المزجِ بينَ أكثرَ من دينٍ في بوتقةٍ واحدةٍ فكرةٌ قديمةٌ، وقد عُرِضتْ على الرَّسولِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حينما جاءَهُ نفرٌ من المشركينَ، وقالوا له: تَعبُدُ آلِهَتَنا سَنَةً، ونعبدُ إلهكَ سنةً، فنزلتْ سورةُ “الكافرون”؛ لترفُضَ هذه الفكرةَ البوارَ رفضًا قاطعًا؛ لأنَّ طرحَها من الأساسِ تدميرٌ لِمفهومِ الدِّينِ، وإتيانٌ لبنيانِهِ منَ القَواعدِ، وتَسْلِيعٌ له في سوقِ المُزايداتِ والمُناقصاتِ، ثمَّ توالتِ المحاولاتُ لاحقًا، كدعوةِ فرقةِ “إخوانِ الصِّفا” الباطنيَّةُ في القرنِ الرَّابعِ الهجريِّ إلى وحدةِ الأديانِ، بعد قولِهم بوحدةِ الوجودِ، ومحاولةِ الإمبراطورِ الهنديِّ جلال الدين محمود أكبر (ت1605م) توحيدَ أديانِ الهندِ تحتَ ما سمَّاه: بيت العباداتِ، ثمَّ عَزَفَ “السَّاداتُ” على الوترِ نفسِه ببناءِ ما يُسمَّى بمجمعِ الأديانِ في سيناءَ، وأخيرًا تواطأتْ مؤسَّساتٌ أمريكيَّةٌ عديدةٌ على تبنِّي هذهِ الفكرةِ، منها جامعةُ “هارفارد”، وجامعة “فلوريدا”، وظاهَرَتْها وكالةُ المخابراتِ المركزيَّةِ الأمريكيَّةِ (CIA)، ومؤسَّسةُ راند (RAND)، وموَّلَتْها عائلةُ روكفلر (Rockefeller) صاحبةُ الثروةِ الهائلةِ، لِتُولَدَ مِنْ رَحِمَ التَّآمُرِ في ديارِ العَربِ، ولتكونَ صُورةً مشوَّهةً للعولَمَةِ الدِّينيَّةِ إنْ صحَّ التعبيرُ. ويقينِي أنَّها كَسابِقَاتِها ذاهبةٌ إلى مزابلِ التَّاريخِ، وأنَّ أولئكَ الخُرْقَ المأفونينَ الذينَ يُنفقونَ أموالهمْ لِيصدُّوا عن سبيلِ اللهِ سينفقونَها ثمَّ تكونُ عليهم حَسرةً، ثمَّ يُغلبونَ، ويقينِي كذلكَ أنَّ هذه المبانيَ الفاخرةَ لو تحوَّلتْ إلى حظائرَ لتسمينِ الحيواناتِ، أو مزارعَ لتربيةِ الدَّجاجِ، لكانَتْ أنفعَ للبشريَّة، وأدْفَعَ لِمَسْغَبَةِ ألوفِ الجائعينَ.

وَالعَوْلَمَةُ الدِّينيَّةُ 5 الإبراهيمية والعولمة الدينية

ثانيًا:

قِناعُ رمزيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقد استغلَّ أولئكَ اللِّئامُ اسمَ خليلِ الرَّحمنَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ ليكون رمزًا للمُشترَكِ الدِّينيِّ كما يقولونَ، فهو أبٌ لِموسى وعيسى ومحمَّدٍ، صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين، ومن ثمَّ توقَّعوا ألَّا يلقَى اعتراضًا مِنْ أحدٍ، ونحنُ، معاشرَ المسلمينَ، نؤمنُ بأنبياءِ الله جميعًا، ولا نفرِّقُ بينَ أحدٍ من رُسُلِه، ونعتقدُ أنَّهم إخوةٌ لِعَلَّاتٍ، أمَّهاتُهم شتَّى، وهي شرائِعُهم الخاصَّةُ، وأبوهمْ واحدٌ، وهوَ الإسلامُ، الذي وصفَ الله بِهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ونحنُ بهذا أوْلَى النَّاسِ به؛ لأنَّ ربَّنا هو القائلُ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، ولا نحتاجُ إلى تعدادِ الآياتِ التي جاءتْ في وصفِ كثيرٍ من أنبياءِ اللهِ منْ لدنْ نوحٍ إلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّهم مسلمونَ، ولا إلى سردِ الآياتِ التي تدلُّ على اشتراكِهم جميعًا في أصلِ التوحيدِ، واتفاقِهم في عمومِ بعضِ الشَّعائرِ التَّعبديَّةِ كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ وغيرِها.

وَالعَوْلَمَةُ الدِّينيَّةُ 2 1 الإبراهيمية والعولمة الدينية

ثالثًا:

قِناعُ التَّسامُحِ، فثمَّةَ فرقٌ شاسعٌ بين ما دعا إليه الإسلامُ من برٍّ ومودَّةٍ وقسطٍ مع غير المسلمينِ الذين لا يُقاتِلونَنا، ومسألةِ تمازُجِ الأديانِ، فنحنُ مأمورونَ شرعًا بإحسانِ مُعامَلَةِ غيرِ المُسلمينَ من جِيرانٍ وأصدقاءَ وزُملاءَ، ولنْ نجدَ أكملَ ولا أجملَ في التعبيرِ عن هذا مِنْ قولِه سُبحانَه: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ ‌تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وفي الوقتِ نفسِه نحنُ مأمورونَ بأنْ نتمايزَ عنهمْ في أصلِ العقيدةِ بموجبِ قولِه تعالى: (‌لَكُمْ ‌دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)؛ لأنَّه من المُستحيلِ أنْ يلتقِيَ مَنْ يقولُ: لا إلهَ إلَّا الله، مَعَ مَنْ يَزْعُمُ أنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ومعَ مَنْ يَدعِّي أنَّ عُزَيرًا ابنُ اللهِ، فالتوحيدُ والشِّركُ ضِدَّانِ لا يَجتمعانِ، وبَحرانِ بينهما بَرزخٌ لا يَبْغيانِ، والتاريخُ يُخبرُنا أنَّ أهلَ كلِّ دينٍ -ولوْ لمْ يكنْ سَمَاوِيًّا- يستَمْسِكونَ به، ويَموتونَ من أجلِه، وهو ما حدثَ في أوروبَّا إبَّانَ الصَّراعِ المريرِ بينَ الكاثوليكيَّةِ والبروتستانتيَّة، وفي فيتنام إبَّانَ الصِّراعِ بينَ المسيحيَّةِ والبُوذيَّةِ، وفي الهندِ أثناءَ الصِّراعِ بينَ الهُندوسيَّةِ والإسلامِ، ولمْ يكنِ الحَلُّ، ولنْ يَكونَ بِمَزْجِ هذه الأديانِ في دينٍ واحدٍ، وإنَّما الأوْلَى توفيرُ النَّفقاتِ والجُهودِ في تعزيزِ التَّعاونِ بينَ الأُمَمِ، ومُحاربةِ الفقرِ والمرضِ والتخلُّفِ، ومُساعدةِ المنكوبينَ والجائعينَ والمشرَّدينَ حولَ العالمِ.

48265 الإبراهيمية والعولمة الدينية

رابعًا:

قِناعُ الدُّبلوماسيَّةِ الرُّوحيَّةِ، فنحنُ على يقينٍ أنَّ الصَّهاينةَ همْ ألدُّ أعداءِ الأمَّةِ، وأنَّ الحكوماتِ وإنْ طبَّعَتْ مَعْها طَوعًا أو كَرهًا فإنَّ الشُّعوبَ ما تزالُ ترفضُ ذلكَ التَّطبيعَ مِنْ سُوَيْداءِ قلبِها، وتُردِّدُ في نفسِها دَومًا قولَ قَعْنبِ بن أمِّ صاحبٍ:

وَلَنْ يُرَاجِعَ قَلْبِي وُدَّهُمْ أَبَدًا

زَكِنْتُ مِنْ بُغْضِهِمْ مِثْلَ الَّذِي ‌زَكِنُوا

وهذا المَجمَعُ المزعومُ ما هو إلَّا حلقةٌ في مُسلسلِ التلصُّصِ والتدسُّسِ من أجلِ التَّطبيعِ، الذي فحواهُ فرضُ الهيمنَةِ الصُّهيونيَّةِ المُطلقَةِ على المنطقةِ، وتذويبٌ كاملٌ للهُويَّةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، وتمريرٌ لما يُسمَّى بصفقةِ القرنِ، وهي صفقةٌ خاسرةٌ للعربِ بكلِّ المَقاييسِ، والرابحُ الوحيدُ فيها هم الصَّهاينةُ المحتاجونَ إلى السَّلامِ فقط، حتَّى يزولَ عنهم هاجسُ الخوفِ الَّذي يُلجِئُهمْ إلى قرًى مُحصَّنةٍ أو جُدُرٍ عَازِلَةٍ، وإنْ شئتَ دليلًا على هذه الخلفيَّةِ السِّياسيَّةِ المفضوحةِ، فارجعْ بذاكرَتِكَ إلى ما سُمِّيَ باتفاقياتِ أبراهام التي وُقِّعَتْ في أغسطس عام 2020م برعايةِ المخذولِ “دُونالد ترامب”، والتي ترتَّبَ عليها فتحُ سفاراتٍ عديدةٍ للكيانِ الصُّهيونيِّ في دُولٍ خَليجيَّةٍ، ومَجِيء السُّيَّاحِ اليهودِ إلى دِيارِ الأعرابِ زُمَرًا بينَ فُرَادَى وثُنًى. وليسَ ببعيٍد أن تنضمَّ إلى موجةِ العولمةِ الدِّينيَّةِ هذهِ دياناتٌ أخرى كالهندوسيَّةِ والبُوذيَّةِ والزَّرادشتيَّةِ والطَّاويَّةِ… وغيرها، حتَّى يأتي اليومُ الذي تنضمُّ فيه الوثنيَّةُ أيضًا، عندما يطالبُ أحفادُ أبي جهلٍ وأبي لهبٍ بضمِّ اللَّاتِ والعُزَّى؛ لِيتحقَّقَ قولُ الصَّادقِ المَصدوقِ: (لا يذهبُ اللَّيلُ والنهارُ حتى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى).

وَالعَوْلَمَةُ الدِّينيَّةُ 6 الإبراهيمية والعولمة الدينية

خامسًا:

قِناعُ حوارِ الأديانِ، فالحوارُ المشروعُ بين الأديانِ هو الذي يهدفُ إلى تحقيقِ كلمةِ التَّوحيدِ، مصداقًا لقولِه تعالى: (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى ‌كَلِمَةٍ ‌سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)، أمَّا الذينَ يَسعَوْنَ إلى تجميعِ كتابٍ موحَّدٍ، أو صلاةٍ مُشتركةٍ، أو دينٍ مُلفَّقٍ، فهم واهمونَ، أو بالأحرى خُبثاءُ مُغرضونَ، يبغونَ التَّسويةَ بينَ الدِّينِ الخاتمِ وغيرِه، ويعملونَ على هَدْمِ هيمنةِ القرآنِ على ما سبقه، ويُضفونَ صفةَ القُدْسِيَّةِ على شرائِعَ منسوخةٍ، ويسوِّغونَ تحوُّلَ الإنسانِ إليها دونَ تَحَوُّبٍ، كأنَّها جامعةٌ أو تخصُّصٌ دراسيٌّ. وما أشبهَ تلكَ المجالسَ العبثيَّةَ العديمةَ الجَدْوى بتلكَ الصُّورةِ السَّاخرةِ التي اجتمعَ فيها شيخٌ وقسيسٌ، ولبسَ الشَّيخُ قَلنسوةَ القِسِّيسِ، ولبسَ القِسِّيسُ عِمامةَ الشَّيخِ، وَطَفِقَا يَقولانِ:

الشَّيْخُ وَالقِسِّيسُ قِسِّيسَانِ 

وَإِنْ تَشَا، فَقُلْ: هُمَا شَيْخَانِ

وما دَعواهم في ترسيخِ الوَحدةِ الوَطنيَّةِ بهذهِ الحواراتِ الفارغةِ إلَّا كَدَعْوى الشَّاعرِ صالح جودت (ت1976م) حينَ قالَ يتغزَّلُ بفتاةٍ نصرانيَّةٍ:

وَفَاتِنَةٍ مِنْ بَنَاتِ النَّصَارَى 

تَطُوفُ بِنَا سَاعَةَ المَغْرِبِ

عَلَى الصَّدْرِ مِنْهَا صَلِيبُ المَسِيحِ 

وَفِي (العَيْنِ) مِنْهَا صَلَاةُ النَّبِي!

وختامًا

فاللَّهمَّ، إنِّي أشهدكَ، وأشهِدُ حملةَ عرشكَ، وملائِكَتكَ وجميعَ خلقكَ أنّي على مِلَّةِ الإسلامِ القويمةِ، لا على الإبراهيميَّةِ المزعومةِ، وأنِّي بريءٌ مِنْ كلِّ مَنْ يؤمنُ بها، أو يدعو إليها، أو يتوقَّفُ عن إنكارِها، وسأظلُّ أُردِّدُ دونَ مُواربَةٍ أو تَلَعْثُمٍ -ما بَقِيَ فيَّ نفسٌ يتردَّدُ- أنَّ دينَ الإسلامِ هو الدِّينُ الحقُّ، وأنَّه ناسخٌ لكلِّ ما عداه، وأنَّ القرآنَ مُهَيْمِنٌ على ما سَبَقَه من الكُتُبِ وناسخٌ لها، وأنَّ كلَّ مَنْ يبتغِي غيرَهُ دينًا فلنْ يُقبَلَ منه، وهو في الآخرةِ من الخاسرينَ، فهذهِ العقيدةُ معلومةٌ من دِينِنا بالضَّرورةِ، ولا مُواربةَ فيها، وإنْ رَغِمَتْ أنوفٌ، ولا تَنازُلَ عنها وإنْ لاحَتْ حُتُوفٌ.

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى