أشتات

الإمام ” أبو بكر ابن فورك ” (ت 406هـ) وتفسيره للقرآن

من أهم مُقتضيات تقييمِ الموقف الإسلامي الحضاري الآن، والوقوفِ عليه وقوفًا صحيحًا؛ رؤيةُ التاريخ العلمي والفكري الإسلامي بوضوح كافٍ، واستجلاءُ كافَّة معالمه؛ على صعيد شخصياته وعلى صعيد مُؤلَّفاته، وعلى صعيد مذاهبه المختلفة. فهي الطريق لنظر سديد ورأي سليم لسؤال الهوية، الذي يجعلنا صامدين أمام المد الجارف لتيارات شتى تزعزع صمودنا في العصر الحالي.

ومن هذا المنطلق، تبدو الأهمية الكبيرة لاستجلاء الشخصيات المؤثرة في تاريخ فكرنا الإسلامي، فيما أودعتْه كُتُبُ التراجم عنها، لتعزيز رؤيتها من جهة، ولتأسيس قُدوات في طريق وعينا المعاصر من جهة أخرى؛ وفيما تركتْه هي نفسُها من كُتُب ونفائس، هي جزء أصيل منَّا يجب علينا استكشافه.

ومن أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ فكرنا الإسلامي؛ الإمامُ أبو بكر، محمد بن الحسن بن فورك (ت 406هـ)، لما له من دور ضخم في حفظ الهوية السُّنيَّة في مرحلة حرجة من تاريخنا الإسلامي. وهي مرحلة تلاطمت فيها التيارات الفكرية والعقدية؛ حتى عجَّتْ الساحة الإسلامية بآراء واعتقادات تكاد تذيب صلب الاعتقاد الإسلامي، وتتماهى به في غيره من اعتقادات. إلى أن أتى الشيخ أبو الحسن، علي بن إسماعيل الأشعري (ت 324هـ) ليقدم “الصياغة العلمية المتكاملة لعقائد أهل السنة والجماعة، ومواقفهم الفكرية، مَدعومةً بأدلة العقل والنقل. بعد أن كانت -في غالب الأمر- شذرات وفتاوى، أو مقالات مجردة عن الاستدلال والاحتجاج العقلي” (1) – على حد قول النظَّار الكبير د/ حسن الشافعي.

ثم خَلَفَ من بعد الإمام الأشعري ثُلَّةُ من ألمع رجال الفكر الإسلامي، الذين قاموا بتعضيد هذه السنة الشريفة، المُنافِحة عن الإسلام، المُوضِّحة لحقائقه العقائدية، ولأسسه الفكرية. ومن هؤلاء الثلة الأخيار الإمام ابن فورك. يقول الإمام يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ) في كتابه “تهذيب الأسماء واللغات” عنه، في أثناء ترجمته لأبي إسحاق الإسفراييني (ت 418هـ): “وكان الأستاذ أحدَ الثلاثة الذين اجتمعوا في عصر واحد على نصر مذهب الحديث والسنة فى المسائل الكلامية، القائمين بنُصرة مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. وهُم: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام أبو بكر بن فورك”(2). وقد كفانا هذا النقل عوز الاستدلال على قيمته وشرف مكانته في التاريخ الفكري والعلمي الإسلامي.

وجريًا على ما تقدم بناؤه، جاء التناول لهذه الشخصية المؤثرة، ولأهم مؤلفاتها؛ وهو تفسيره للقرآن الكريم. محاولةً لإرساء صورة واضحة عن شخصه، ولإظهار بعض ملامح وخصائص تفسيره للقرآن. وقد جاء هذا الجهد اعتمادًا على المنهجين: التاريخي، والتحليلي. باختصار يوفر الأهم، وينبو عن الزوائد التي تقتضي الإطالة.

ابن فورك في خصائصه الفكرية والنفسية

لم يحظَ الإمام ابن فورك بترجمة مفصَّلة، غنية بالتفاصيل عن حياته وأسفاره ومواقفه؛ كما حظي الكثير غيره من العلماء. وبذلك يتوسط بين المُترجَم لهم في كتب التاريخ؛ فينتمي لأصحاب الترجمة المتوسطة الحجم، العامة المقتضبة، من الذين لا تُبين تراجمُهُم المُودَعَة كُتبَ التراجم إلا عن بعض ملامح من حياته، أو خوضه فتنة أو موقفًا عصيبًا اعتركه. بينما نجد طبقة أخرى كانت ترجمتهم موجزة أشدَّ الإيجاز، وطبقة ثالثة بها شخصيات كُتِبَ لها بقاءُ تفاصيل حياتها -علماء وأدباء-، حتى أُلِّفَتْ في أخبارها كُتبٌ كاملة، مثل كتاب “أخبار أبي حنيفة وأصحابه” للحسين بن علي الصَّيْمَريّ، و”أخبار أبي نواس” لابن منظور الإفريقي.

وكثير من الأسباب يقف وراء الترجمة المختصرة -لا محل لها الآن-. لكنَّ الحاصل المُقرَّر أن ترجمة ابن فورك شحيحة المعلومات متى قِيستْ بأهميته البالغة في تاريخ عدد من العلوم العربية؛ منها التفسير، وعلم الكلام، والحديث الشريف.

وقد تتبعت مصادر الترجمة لابن فورك، فوجدتها سلسلةً آخذةً بعضها عن بعض، أبرز كُتبها:

1- كتاب “تاريخ نيسابور” لأبي عبد الله الحاكم -صاحب كتاب المُستدرَك على الصحيحين- (ت 405هـ). والكتاب مفقود في زماننا -حتى الآن-(3). وقد كان الحاكم مُصاحبًا لابن فورك؛ الذي عاش في نيسابور وعمَّرها بالعلم، وكانت له دار ومدرسة يُدرِّس فيها، في خانقاه “أبي الحسن البوشنجي”. فكانت ترجمته في تأريخ المدينة أمرًا ضروريًّا. كما ربطتْ علاقة بين الحاكم وابن فورك، قوامها الاشتراك في المدرسة العقديَّة وفي علم الحديث، وقد روى الحاكم عن ابن فورك حديثًا واحدًا. 

2- كتاب “تبيين كذب المُفتري” للحافظ أبي القاسم ابن عساكر (ت 571هـ)، وقد خصَّه بترجمة متوسطة، بوصفه من الطبقة الثانية من الأشعريَّة(4)

3- كتاب “طبقات الفقهاء الشافعية” لعثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح (ت 643هـ). وقد صرَّح في بدء ترجمته بترجمة الحاكم له في “تاريخ نيسابور” -الفائت ذكرها-(5)

4- كتاب “وفيات الأعيان” شمس الدين ابن خَلِّكان (ت 681هـ)، وقد خصَّه بترجمة مختصرة، أبان فيها عن طيب جهود ابن فورك، وخص بالذكر رده على “الكرَّاميَّة”(6)

5- كتاب “سير أعلام النبلاء” للإمام الذهبي (ت 748هـ)، وقد خصَّه بترجمة لطيفة، أودع فيها آراء السابقين والأخبار التي أتوا بها، خاصةً كلام ابن خلكان. ولعلَّ الكلام بالإحسان عليه استنفره فلم يخلف عادته في الإنكار على علماء المدرسة الأشعرية(7)

6- كتاب “طبقات الشافعية” لتاج الدين السُّبكي (ت 771هـ)، ترجم له ترجمة ردَّ فيها على الإنقاص منه، وأبان عن فضله الشديد. ولعلَّه كان يردُّ على شيخه الذهبي -كما اعتاد-(8).

أبو بكر ابن فورك ت 406هـ وتفسيره للقرآن 2 الإمام " أبو بكر ابن فورك " (ت 406هـ) وتفسيره للقرآن

مُوجَز حياته وإنجازاته

هو “محمد بن الحسن بن فورك، الأنصاري، الأصبهاني”. وكان يُلقَّب بـ”الأستاذ” تشريفًا واعترافًا بألمعيته، وكان يُكنَّى بأبي بكر. لا يُعرَف تريخ ميلاده. وُلِد بأصبهان، وبقي فيها يتعلم الفقه والحديث، ثم رحل إلى العراق لتعلُّم “علم الكلام”، ثم توجَّه إلى مدينة “الرَّيّ” وكان بها الكثير من المُجسِّمة والكرَّامية، فحاولوا إيذاءه لخلافه في الرأي معهم، وشدة رَدِّه عليهم، فشكوه إلى السلطان، مُدَّعين ادعاءات عقديَّة شنيعة، لكنَّ الله خلَّصه من هذه المحنة.

ثم راسله علماء مدينة “نيسابور” مُلتمسين منه المُكُوث فيها. فمكث فيها مدةً طالت، وأُنشئتْ له دار ومدرسة في خانقاه البُوشَنْجي -كما سلف-، واشتهر أمره، وذاع صيته، وتوافد عليه طلاب العلم، وأثمرت جهوده علمًا فياضًا. فصار من أعلام المدينة والمؤثرين فيها على مدار ثلاثين عامًا.

ولم يهدأ للكرامية بالٌ، فوشوا به إلى السلطان “محمود بن سُبُكتكين”، مُدَّعين ادعاءات لا يرضاها سويُّ العقيدة، منها أن ابن فورك يعتقد أن نبوة النبي انتهت بموته، وأنه لم يعد نبيًّا. فدعا السلطانُ ابنَ فورك إلى مدينة “غزنة” دعوة معرفة واستبيان، ولم يعلنْ له عن مقصده بعقابه. وقد بيَّن ابن فورك للسلطان إنكاره هذا الرأي، وغيره. وقعد للمناظرة فيها، فناظر الكرامية غير مرة، ومنهم محمد بن الهيصم (ت قبل 411هـ) نفسه، وكان رأسَهم هناك.

وفي طريق عودة ابن فورك من غزنة إلى نيسابور دُسَّ له السم، والغالب أن الكرامية مَن دسوا له السم، فمات شهيدًا، عام 406 هـ. ولذلك لُقِّبَ بالأستاذ الشهيد.

وقد برع ابن فورك في علوم اللغة، وفي علم الحديث الشريف، وفي التفسير، وفي علم الكلام. وقد تخرَّج عليه الكثير من جهابذة علماء الإسلام، لعل أبرزهم الحافظ أبو بكر البيهقي (ت 458هـ)، وحدَّثَ عنه الكثيرَ، وأبو القاسم عبد الكريم القشيري (ت 465هـ)، وذكره مرَّات في رسالته الشهيرة “الرسالة القُشيريَّة”. كما خَلَفَ من ذريته العلماء، منهم حفيده المنسوب إليه: أحمد، المُلقَّب بأبي بكر الفُوركي (ت 478هـ).

وقد كان أهل العلم الكبار يتبرَّكون به، فقد قال أبو الحسين الفارسي، عبد الغافر  بن محمد (ت 448هـ) إن قبره كان يُستسقى به. ومن ذلك ما ذكره السبكي في طبقاته: “قَالَ عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل: سَمِعت أَبَا صَالح الْمُؤَذّن يَقُول: كَانَ الْأُسْتَاذُ أوحدُ وقته “أَبُو عَليّ الدقاق” يعْقد الْمجْلس وَيَدْعُو للحاضرين والغائبين من أَعْيَان الْبَلَد وأئمتهم. فَقيل لَهُ يَوْمًا: قد نسيت ابن فورك وَلم تدعُ لَهُ. فَقَالَ: كَيفَ أَدْعُو لَهُ وَكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أَن يشفي علتي؟”(9).

وللإمام ابن فورك العديد من المؤلفات، أوصلها بعضهم لمائة. ضاع الجزء الأعظم منها. أما ما بقي منها، فأهمها هو:

1- كتابه “مُجرَّد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري”. الذي أخرجه إلى النور المستشرق الفرنسي “دانيال جيماريه”، عام 1987م. وقد وصف د/ حسن الشافعي إخراج هذا الكتاب بقوله “النص الحاسم في بيان فكر الإمام الأشعري ودوره، وإمامته المستحقة للمذهب المنسوب إليه”(10)

2- كتابه في تفسير القرآن. 

3- كتابه “الحدود في الأصول”. وهو نص هامّ مُعجميّ في مصطلحات الكلام والفكر والمنطق والأصول. 

4- كتابه “مُشكِل الحديث أو تأويل الأخبار المتشابهة”. وهو في علم مختلف الحديث ومُشكله.

من خصائصه الفكرية والنفسية

لكُلِّ شخصية مؤثرة فعَّالة في المجهود الإنساني العام الكثيرُ من الخصائص الفريدة التي تسهم في صناعة هذا التأثير. وقد كان للإمام ابن فورك خصائص فريدة وهبها الله إياه، من الممكن استقاؤها من ترجمة حياته، أو من مؤلفاته التي وصلتْ إلينا. سأكتفي هنا بخصيصتين: أولاهما فكرية والأخرى نفسية. كلاهما تكشف الكثير عن تفكير ابن فورك، وتفسر الكثير من إنتاج الرجل وإبداعه.

• الخصيصة الأولى: الشغف بالمعرفة واكتشاف الحقائق

لا شكَّ أنَّ الشغف بالمعرفة وشدة التعلُّق بالحقيقة واكتشافها من أهم الودائع التي يُودعها الله في نفوس عباده ذوي الهمم، الذين تقوم على جهودهم العلوم والفنون، وتُبنى على ما يُرسون القواعدُ. وكذا كان الإمام ابن فورك شديد الشغف بالحقيقة، شديد السعي في طريق الوقوف على جوهر الأشياء والأفكار.

ولا أدلَّ على ذلك من حادثة مفصليَّة في تاريخ الإمام؛ وهي حادثة انتباهه لعلم الكلام، وتحوُّله إلى دراسته. وقد أوردها ابن الصلاح في طبقاته، رواية عن الحاكم النيسابوري. فقال: “روى عَنهُ الْحَاكِم، حكى عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ سَبَب اشتغالي بِعلم الْكَلَام، أَنِّي كنت بأصبهان أختلف إِلَى فَقِيه، فَسمِعت أَن الْحجر يَمِين الله فِي الأَرْض. فَسَأَلت ذَلِك الْفَقِيه عَن مَعْنَاهُ. فَكَانَ لَا يُجيب بِجَوَاب شافٍ، وَيَقُول: أيشٍ تُرِيدُ من هَذَا؟ لأَنَّهُ كَانَ لَا يعرف حَقِيقَة ذَلِك. فَقيل لي: إِنْ أردْت أَن تعرف هَذَا فَمن حَقك أَن تخرج إِلَى فلَان فِي الْبَلَد، وَكَانَ يحسن الْكَلَام، فَخرجتُ إِلَيْهِ وَسَأَلته، فَأجَاب بِجَوَاب شاف، فَقلت: لَا بُد أَن أعرف هَذَا الْعلم، فاشتغلت بِهِ”(11).

كما يدلُّ على شدة شغفه بالمعرفة وصف الحاكم في تاريخ نيسابور جهود ابن فورك العلمية في المدينة بقوله “فأحيي الله به في بلدنا أنواعًا من العلوم، وظهرت بركته”(12). فوصفه يدلُّ على أن ابن فورك قد ركَّز على علوم لم تكنْ ذات رواج بين طلاب العلم، فجاء ابن فورك إلى نيسابور “فأحياها” وبثَّ فيها الرُّوح من جديد. وأرجح الاحتمالات أنه يقصد علم الكلام السُّنِّي مقابل جهود المعتزلة المنتشرة الكثيرة وجهود الفلاسفة، حيث كان الجهدان الآخران منتشرين بشدةٍ في تلك البلاد، على خلاف الكلام السُّنِّي الذي وطَّده الأشعري؛ كما يقصد أيضًا تداخُلات علم الكلام مع العلوم الأخرى التي يدل عليها تأليفه في مختلف الحديث، كذا امتاز ابن فورك بأنظار عميقة في أصول الفقه لعلها من مقصود الحاكم أيضًا من وصفه السابق(13).

• الخصيصة الأخرى: ثباته على الحق في الصعاب

لقد وهب الله ابن فورك وصف الثبات على الحق، والرسوخ به أمام الصعاب والمحن. وقد تعرَّض الأستاذ ابن فورك إلى الكثير من الصعاب في حياته. فذكر الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أنه اقتِيْدَ إلى مدينة شيراز للمحاكمة في موضوعات عقدية(14). وفي هذه المحنة يروي عن نفسه حاله فيها قائلًا “حُملتُ مُقيدًا إلى شيراز لفتنة في الدين، فوافينا باب البلد مُصبحًا، وكنتُ مهموم القلب. فلمَّا أسفر النهار وقع بصري على محراب في مسجد على باب البلد، مكتوب عليه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ). وحصل لي تعريفٌ من باطني أني أُكفَى عن قريب. وكذلك كان. وصرفوني بالعزّ”(15).

ثم تعرَّض لكثير من المضايقات والبلاغات من الكرامية في مدينة “الرَّيّ”، ثم كان ما كان من سعي السلطان “محمود بن سُبُكتكين” في الإيقاع به وشايةً من الكرامية. فوجدنا منه ثباتًا راسخًا عند السلطان في بلاطه، وفي مواجهة المجسمة في مناظرات عدة.

وهذا الملمح أثر في تفسيره كثيرًا، فقد بسط القول في كل موضع ذي علاقة بهذه المناظرات والتجاذبات الفكرية والعقدية.

أبو بكر ابن فورك ت 406هـ وتفسيره للقرآن 3 الإمام " أبو بكر ابن فورك " (ت 406هـ) وتفسيره للقرآن

تفسير ابن فورك، وخصائصه

من أجلّ تآليف ابن فورك، المُبينة عن خصائصه الذاتية، والمفيدة في السياق العلمي العام؛ تفسيرُه للقرآن الكريم. ولعلَّ أي عمل تفسيري -خاصةً إنْ كان تفسيرًا لكامل النص القرآني- لأي مفسر يقع على قمة إنتاجه الفكري والعلمي. وتفسير ابن فورك لم يُكتَب له البقاء كاملًا، بل وُجد منه أقل من نصف القرآن الكريم، حيث يبدأ الجزء المنقول لنا من سورة “المؤمنون” حتى آخر القرآن، أيْ من الجزء الثامن عشر.

وقد ظهر هذا التفسير على صعيدين: صعيد النقل منه في كتابات المفسرين السابقين على مدى العصور -كما سيأتي-، وفي العصر الحديث ظهر مطبوعًا في السنوات القليلة الفائتة. حيث كان أول ظهور “مُحقق” له في سلسلة تحقيقات لبعض الباحثين في جامعة “أم القرى”، في المملكة العربية السعودية؛ بُغية الحصول على درجة الماجستير. ويبدو من الجهود المبذولة فيها أن الغاية غلبت على السعي.

ثم ظهر مُحقَّقًا في طبعة علمية فاخرة عن مشيخة الأزهر الشريف، بالاتفاق مع مجلس حكماء المسلمين، عام 2020م. وتولى تحقيقه السادة الآتون: محمد يوسف الساكت، محمد محمود عزَّام، أحمد فتحي بشير، عمرو بكري. وأضاف الدراسة عن حياة ابن فورك الباحث: محمد نصر الفلكي. وهي طبعة في ثلاث مجلدات من القطع الكبير. وهي الطبعة التي اعتمدتُ عليها في الوقوف على جوانب من تفسير ابن فورك.

ثم أخرجتْه دار اللباب، السورية، عام 2022م، في مجلد واحد، بتحقيق: محمد بنصر العلوي، وتدقيق ومراجعة: محمد بوحمدي، وإشراف: الشاهد بوشيخي. ولم يتسنَّ لي الوقوف عليها، ولا معرفة سبب إعادة التحقيق. ولعلَّ الجهد فيها بدأ مزامنًا مع جهد تحقيق مشيخة الأزهر، ولكنْ تأخر ظهوره فقط.

وبذلك نرى هذه الأهمية التي بدأ الكتاب يكتسبها في العصر الحديث، مع دراسات أخرى عن الإمام ابن فورك نفسه، وعن تفسيره.

مؤهلات ابن فورك، وقيمة تفسيره

قد وفَّرتْ الأهلية العلمية الضخمة التي وهبها الله الإمام ابن فورك معينًا ناضحًا ليلج باب تفسير القرآن الكريم. وهو باب لا يقدر على الولوج فيه إلا مَن تأهَّل وحاز عديدًا من العلوم، ورسختْ قدمه فيها. والمُعاين لحياة ابن فورك يقف على كثير من هذه التأهيلات.

• المؤهلات العلمية التي ساعدت ابن فورك على تفسير القرآن

1- تعلُّقُه بعلم الكلام، وهو علم يُوقِف صاحبه على رؤية عميقة لمُرادات الشارع الحكيم، ويجمع الرؤية الشرعية والكونية في صعيد واحد، بفكر منضبط عميق. 

2- تعلُّقُه بتفسير المتنافر ظاهريًّا. ويظهر هذا في كتابه “مُشكِل الحديث أو تأويل الأخبار المتشابهة”. وهذا النهم في تفسير المختلف ظاهرًا يُكسب مَلَكَة ضخمة في التفسير عامةً. 

3- تبحُّرُه في علوم اللغة العربية وفنونها. وهذا ظاهر في وصف الحاكم له في تاريخه قائلًا: “الأديب، الْمُتَكَلّم، الأصولي، الْوَاعِظ، النَّحْوِيّ”(16). ولا يمكن لعالم أن يتصدى لمناقشة المسائل التفسيرية إلا بامتلاك العلوم اللغوية، بَلْهَ التعرض للتفسير نفسه.

4- تبحُّرُه في مسائل وفروع علم أصول الفقه. كما تدلُّ عبارة الحاكم السابقة. ولابن فورك عدد من الكتب في الأصول ضاعتْ، وبقيت رسالة له عنوانها “مقدمة في نُكتٍ من أصول الفقه”(17)

5- المُناظرات المباشرة وغير المباشرة التي خاضها ابن فورك في حياته ساعدت على إكسابه مَلَكة النظر إلى النص أو الموضوع من زوايا عدة، لا من زاوية واحدة. ولا يخفى ما لهذا الملمح من مزايا في التفسير القرآني.

• قيمة تفسير ابن فورك

قيمة تفسير ابن فورك تتضح على صعدين: الأول منهما أهمية الشخص نفسه ومركزيته في المدرسة الأشعرية. وهذا أمر يضمن لتفسيره الأهمية ابتداءً؛ لأنه عامل حاسم في إيلاء تفسيره الاهتمام الكافي لاستجلاء التفاسير السُّنية المدرسيَّة في هذا العصر. يزداد هذا العامل أهميةً متى عرفنا أنه تأثَّر كثيرًا بتفسير أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ) نفسه، والذي ضاع ولمْ يبقَ منه شيء. حتى قال الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ) عن تفسير ابن فورك: “وهو أقلها حجمًا، وأكثرها علمًا، وأبدعها تحقيقًا. وهو ملامح من كتاب “المُختَزَن” الذي جمعه في التفسير الشيخ أبو الحسن في خمس مئة مُجلَّدًا”(18).

والصعيد الآخر هو ما أودعه ابن فورك تفسيره من علوم اكتسبها من مصادر سابقة عليه، وأنظار تخصُّه وتخصُّ شيخه أبا الحسن الأشعري. ليخرج لنا تفسيرًا، تلقَّاه المفسر الثعلبي تلقيًا مباشرًا، حيث كان يحضر مجالس ابن فورك، يقول: “أملى علينا صدرًا بسيطًا من أوله، ثم استأنف ولخَّص، واقتصر على الأسئلة والأجوبة حتى فرغ منه”(19). ومعنى إملائه إيَّاه أنه كان عصارة فكره وخبرته ومعرفته.

ومن أجلى ما يوضح قيمة أي تفسير؛ ما قدَّمه للتفاسير التالية عليه من زاد تزوَّدوا به. وتفسير ابن فورك أثر في تفاسير كثيرة بعده؛ منها: تفسير “الكشف والبيان عن تفسير القرآن” لأبي إسحاق الثعلبي (ت 427هـ)، وتفسير “المُحرَّر الوجيز” لابن عطية (ت 542هـ)، وتفسير “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي المالكي (ت 671هـ)، وتفسير “البحر المحيط” لأبي حيَّان الأندلسي (ت 745هـ)، وكذا أثَّر في أجلى كتابين في علوم القرآن، وهما: “البرهان في علوم القرآن” لبدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، و”الإتقان في علوم القرآن” لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ)(20).

ولا يخفى ما له من أثر على تتابع الأزمان، وثقل مَن نقلوا عنه.

أبو بكر ابن فورك ت 406هـ وتفسيره للقرآن 4 الإمام " أبو بكر ابن فورك " (ت 406هـ) وتفسيره للقرآن

خصائص تفسيره، ونموذج منه

• أجلى خصائص تفسير ابن فورك

لقد تمتع تفسير ابن فورك بخصائص مُميِّزة، لعل أبرزها:

1- أنه تفسير بالرأي. ويُعرِّف د/ حسين الذهبي التفسير بالرأي بأنه “عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم فى القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها، واستعانته فى ذلك بالشعر الجاهلى ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التى يحتاج إليها المفسِّر”(21). وهو المنهج نفسه الذي اتبعه ابن فورك في تفسيره؛ حيث يجتهد وسعه في استجلاء معاني الآيات الكريمة، مُستعينًا ببنية العلوم العربية التي يجيدها. 

2- أنه تفسير عقديّ؛ حيث يُكثر ابن فورك من الوقوف عند المعاني العقدية التي تنبث في الجسد القرآني، ويحاول من خلال الكلمات المقتضبة التي يُوردها أن يردَّ ردًّا مختصرًا على الفرق الكلامية المختلفة، السُّنية وغير السُّنيَّة. وقد يفوت غير المُتنبه لقضايا ومبادئ وموضوعات علم الكلام هذا الملمح. وهذا الملمح يرتبط بالدور الكبير الذي أداه في نقل المدرسة الأشعرية السُّنيَّة في التفسير، كما يرتبط بوُلُوعه بعلم الكلام بوصفه العلم الذي كشف لثام الحقيقة عن عينيه -كما ورد في مبحث ترجمته-. ومن جانب آخر يرتبط هذا الملمح بالخصيصة السابقة؛ فتمحوُرُ كثير من مواطن تفسيره على الموضوعات الكلامية والمناقشة الحرَّة فيها عزز من إدخاله تحت صنف التفسير بالرأي. 

3- أنه تفسير مختصر؛ حيث عقده على نظام السؤال والإجابة؛ كما سبق أن عبَّر الثعلبي “ثم استأنف ولخَّص، واقتصر على الأسئلة والأجوبة حتى فرغ منه”(22). فمَحوَرَ خصيصة الاختصار في وصفه تفسير شيخه ابن فورك. وهذه الخصيصة أثرت بشدة على السمت العام لتفسيره.

ولعل إيراد نموذج من تفسيره يضع هذه الخصائص في حيز النظر المُباشر، والقدرة على التمثُّل والفحص في نظر المُعاين. لذا يَحسُن إيراد نموذج منه.

• نموذج من تفسيره

“مسألة:

وإنْ سأل سائل عن قوله -سبحانه-: (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) إلى قوله: (وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

فقال

– ما النصر؟ 

– وما معنى: (بِأَعْيُنِنَا)؟ 

– وما معنى: (وَفَارَ التَّنُّورُ)؟ 

– وما الفرق بين: “سلكتُهُ في كذا” و”أسلكتُهُ فيه”؟ 

– وما معنى: (مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)؟

الجواب:

النصر: المعونة على العدو. نصره الله -عزَّ وجلَّ- بإهلاك عدوه، ونجاته من بينهم بمَن معه. وقوله (بِمَا كَذَّبُونِ): يقتضي الدعاء عليهم بالإهلاك من أجل التكذيب.

ومعنى (بِأَعْيُنِنَا) فيه قولان: 

– الأول: بحيث نراها كما يراها الرائي من عبادنا بعينه. 

– والثاني: بأعيُن أوليائنا من الملائكة والمؤمنين؛ فإنهم يحرسونك من منع مانع لك.

ومعنى (وَفَارَ التَّنُّورُ): جُعلت العلامة في الغرق خروج الماء من أبعد المواضع من الماء، وهو التنور؛ لتكون العلامة معجزة تدعو إلى الإيمان به.

ومعنى “سلكتُه في كذا” و”أسلكتُه فيه”: بمعنى واحد. وقيل “سلكتُه فيه” فيه محذوف، من: سلكتُه به فيه.

وقيل: (رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا) حين خرج من السفينة، عن “مُجاهِد”. 

وقيل: (مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) من الحيوان ذكر وأنثى.

وقيل: (وَأَهْلَكَ)، أيْ الذين آمنوا معك. 

والزوج: واحدٌ له قرين من جنسه. 

والمنزل المبارك هو السفينة؛ لأنها سبب النجاة. 

قال الحسن: كان في السفينة من المؤمنين سبعة أنفس، ونوح -عليه السلام- ثامنهم. 

وقيل: ستة. 

وقال: كل ما كان على الأرض هلك بالغرق إلا مَن نجا مع نوح في السفينة. 

وقال الحسن: كان طول السفينة ألفًا ومائتَيْ ذراع، وعرضُها سِتَّمئة ذراع. وكانت مُطبَقَةً، تسير بين السماء والأرض. 

قرأ عاصم في رواية أبي بكر: (مُنزَلًا) بفتح الميم وكسر الزاي. وقرأ الباقون: (مُنزَلًا) بضم الميم وفتح الزاي.

وقرأ عاصم في رواية حفص (مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ) مُنوَّن، وقرأ الباقون بالإضافة”(23).

الهوامش:

  1. اللمع في الرد على أهل الأهواء والبدع، أبو الحسن الأشعري. تحقيق حسن الشافعي. والكلام من مقدمة التحقيق، صـ22. 
  2. تهذيب الأسماء واللغات، محيي الدين بن شرف النووي، ج2، صـ170، دار الكتب العلمية. ترجمة أبي إسحاق الإسفراييني. 
  3. مقدمة تحقيق تفسيره، ج1، صـ14، 17، في هامش الصفحتين. 
  4. تبيين كذب المفتري، ابن عساكر، صـ439. 
  5. طبقات الفقهاء الشافعية، ابن الصلاح، ج1، صـ137، وما بعدها. 
  6. وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج4، صـ272. والكرَّامية فرقة من غُلاة المُجسِّمة. للمزيد عنهم يُنظر “التجسيم عند المسلمين، مذهب الكرامية” د/ سهير مختار، كما أفرد لهم د/ علي سامي النشار فصلًا في موسوعته “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام”، ج1، صـ297. 
  7. سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج17، صـ214، وما بعدها. 
  8. طبقات الشافعية، تاج الدين السبكي، ج4، صـ127. 
  9. طبقات الشافعية، السبكي، ج4، صـ128. 
  10. اللمع، أبو الحسن الأشعري. تحقيق حسن الشافعي. والكلام من مقدمة التحقيق، صـ22. 
  11. طبقات الفقهاء الشافعية، ابن الصلاح، ج1، صـ137. 
  12. السابق، صـ136. 
  13. انظر أبو بكر بن فورك وآراؤه الأصولية، محمد بن سعيد بن عواض، بحث لنيل الماجستير عام 2000م، في جامعة أم القرى، المملكة العربية السعودية. 
  14. سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج17، صـ206. 
  15. تبيين كذب المُفتري، ابن عساكر، صـ441. والآية المذكورة من سورة “الزمر”، 36.
  16.  طبقات الفقهاء الشافعية، ابن الصلاح، ج1، صـ136. حيث نقل نص الحاكم في “تاريخ نيسابور”. 
  17. راجع عنه مقدمة تفسير ابن فورك، ج1، صـ30، في الهامش. 
  18. قانون التأويل، أبو بكر بن العربي المالكي، نقلًا عن مقدمة تحقيق تفسير ابن فورك، ج1، صـ88. 
  19. تفسير الكشف والبيان، أبو إسحاق الثعلبي، نقلًا عن مقدمة تحقيق تفسير ابن فورك، ج1، صـ47. 
  20. راجع مقدمة تحقيق تفسير ابن فورك، ج1، صـ92، وما بعدها. 
  21. التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، ج1، صـ183. 
  22. تفسير الكشف والبيان، أبو إسحاق الثعلبي، نقلًا عن مقدمة تحقيق تفسير ابن فورك، ج1، صـ47. 
  23. تفسير ابن فورك، ج1، صـ15، وما بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى