أشتات

التيه في بيداء من ورق

ربما كانت أصعب اللحظات التي مرَّت على الرسول، صلى الله عليه وسلم، في علاقته بالوحي، هي تلك اللحظات التي كانت تنقطع فيها الصِّلة بينَ الأرض (الوقائع) والسَّماء (الوحي) في فترات كان يتراخى فيها الوحي، والرسول عليه الصلاة والسلام أحوج ما يكون له؛ انتظارًا للإجابة عن سؤال، أو حل معضلة حادثة لم يُسبق لها أشباه أو نظائر تقاس عليها..

كذلك الموقف الذي دونته “سورة الضحى” أو انتظاره صلى الله عليه وسلم، الوحي ليحسم الحديث في واقعة الإفك، أو انتظاره حكم ربه في مسألة الظهار التي ورد الحديث بشأنها في أوائل سورة “المجادلة”.

هذه إلماحة عجلى، تبين مدى حاجة الواقع للوحي، وتبين من زاويةٍ أخرى، أنَّ معالجة قضايا الواقع، تحتاج معرفة دقيقة به وبقضاياه، وبالخلفيات التي تحيطُ بكلِّ حادثة تكون محل دراسة، حتى يتعافى الواقع المحدد، بالنَّص المحدد، الذي يعالج قضيته، مثلما يعالج الدواءُ الداءَ، كما قال صلى الله عليه وسلم: “لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ” (صحيح مسلم).

دواء الأمم والقرون

وإن القرآن، بما حواه من محبوبات وأوامر ونواه وزواجر وعظات وعبر، ليشكل منظومة دوائية شاملة لكل أدواء الأمم والمجتمعات والأفراد، في كل عصر ومصر، قال الحق سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}  (الإسراء:82).

لكن القرآن الكريم أو الحديث النبوي، لا يثمر تنزيله على الواقع شفاء، إلا حين يتوفر قارئه على فقه، يؤهله لإدراك العلاقات التي تصل بين الوحي من جهة، والواقع الذي تعالجه النصوص المعينة من جهةٍ أخرى.. وإلا وقع القائم على هذه المعالجة، فيما وقعت فيه الكثير من الفرق، التي زاغت عن سبيلِ الحق، بسبب تخيل علاقة متوهَّمة بين نص معين وواقعة معينة، كما حصل مع الخوارج في قضية التحكيم بين الصحابة وقول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (يوسف:40).

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يتوجب على المشتغلين بالعلوم الشرعية التعامل مع الواقع الذين يعيشون فيه، تعامل الطبيب مع الجسد المعتل الذي يعالجه، وإلا أصبح علاجهم لهذا الواقع أحد المرضين (وإن كان ما يعالجون به الواقع تحت عنوان الكتاب والسُّنة)، ذلك أنهم ينزلون النصوص غير منازلها، ويرون الواقع بغير العين التي ينبغي أن تراه، أو لا ينظرون إلى الواقع أصلًا، مكتفين بحفظ النصوص وإلقائها في وجوه المشكلات، دون تبصر أو استبصار، وهذا الصنف من الناس، -وإن كان كثير الحفظ- ربما كانت عاقبة سعيه الضلال والإضلال، قال صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا” (متفق عليه).

003 01 2 التيه في بيداء من ورق

دواء منتهي الصلاحية

ولعلَّ بعض طلبة العلم، زهدوا في النَّظر لواقعهم، مكتفين بالواقع الذي دونت فيه كتب العلم التي درسوها، والتي تزخر بمشكلات وقضايا وحلول نجمت في القرون التي ألفت فيها الكتب التي ينكَبُّون على دراستها، ويحفظون دقائق مسائلها.. تلك المسائل التي تعالج أدق دقائق أزمنة المؤلفين، رحمة الله عليهم، من مثل المسائل التي عاش فيها على سبيل المثال، الإمام أحمد ابن حنبل، رحمة الله عليه، وعالج فيها فتنة الاعتزال، أو الإمام الغزالي، والاشتباك الذي كان حادثًا في زمنه بين الوحي من جهة، والتصوف والفلسفة والمنطق من جهة أخرى.. أو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه، رحمة الله عليهما، والمعارك النظرية والعملية التي تفجرت بينهما وبين مناوئيهما من أئمة الفرق الصوفية أو المذاهب الفقهية، أو غيرها من المعارك التي قتلها الزمان بتتابع أيامه ولياليه، ونسيتها القرون فيما نسيت من أشياء، كانت ابنة بيئاتها وظروفها..

بما في ذلك المعارك الفكرية التي نشبت بين علماء المسلمين والمستشرقين وتلاميذهم في بداية عصر الاستعمار الحديث، والتي أبلى فيها علماء الإسلام بلاء حسنًا حتى أصبحت الحقائق حولها جلية، ولم تعد تثير ذلك اللغط الذي ثار حولها أول مرة.. وحتى المعارك التي حمي وطيسها في النصف الثاني من القرن العشرين حسم معظمها حتى لم يعد المرء يجد في الساحة الإسلامية من يحمل لواء العلمانية والليبرالية والاشتراكية في شقوقها النظرية، وإن بقيت آثارها العملية كاللقطة التي لا تجد لها أبًا تنتسبُ إليه.

العيش في الأزمنة المائتة!

يظنُّ بعض طلبة العلم أو المشتغلين بالعلوم الشرعية أو حتى المفكرين المعاصرين أنَّ هذا التراث العلمي والتاريخي والفكري، بما يحتويه من وقائع وتحديات فجرت ينابيع الفقه لدى أئمة تلك القرون، فدونوا ذلك في تلك الأسفار العظيمة.. يظنون أنَّ ذلك يغني عن تأمل الواقع المعاصر بعينٍ فاحصة، والاستماع إلى نبض قضاياه وتتبع منابعها، بغرض الوقوف على الأسباب الباعثة والدوافع الحقيقية، التي تبعث مثل هذه التحديات المستجدة، على سطح الأحداث، حتى يتمكن العالم والفقيه والمفكر من علاجها بما هو علاجها، من نصوص كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دون حيف أو تعسف أو شطط أو تفريط.

3 1 التيه في بيداء من ورق

معارك المقابر!

وإنَّ المتابع للواقع ليشهد كم أن بعض المحسوبين على العلم غائبون عن الواقع الذي يضج بقضايا، لا تجد لها رغم كثرتها وزحمتها وتنوعها وخطورتها، أي أثر في خطاب هؤلاء الهاربين من مدينة الواقع إلى بطون الكتب وكهوف التاريخ، ينفعلون بقضاياها انفعالًا يكاد يبعث جيوش القرون الغابرة بدروعها وأسنتها ورماحها وحمحمة خيولها، حتى ليكاد يغطي نقع غبارها كل لوحات الزينة التي تتفنن في فتنة الإنسان المعاصر في الشوارع والمراكز والأسواق!

غصن في الهشيم

كنت مرة أجمع مادة لمقالات مجموعة من العلماء العاملين والمفكرين الإسلاميين الذين كتبوا للمطبوعة التي أعمل فيها في فترة السبعينات والثمانينات..

ووقفت على قضايا كانت محل اهتمام الكثير من علماء ومفكري ذلك الزَّمن.. وقد أصبحت اليوم لدينا من المسلَّمات التي لا يسترعي نقاشها اهتمام الأكثرين.

وعند التَّأمل في هذا الواقع الذي نحكم فيه على تلك المعارك، خلصت إلى أنه لولا جهود أولئك الملهمين، ما رست سفينة الأفكار على شاطئ الأمان، ولما أصبحت التحديات التي بعثها أشقياء ذلك العصر نسيًا منسيًّا في أذهان العامة والخاصة.

فرضي الله عن أولئك الأفذاذ الذين أحسنوا فقه واقعهم وأحكموا التعامل معه، حتى أسلموه لنا خاليًا من كثير من الشوائب التي ربما لو تركت لزماننا لوقف أمامها الكثير من الحفظة أصحاب الأصوات العالية كما يقف أميٌّ أمام لوحة ديوانية متداخلة الحروف.

04 01 1 التيه في بيداء من ورق

لمن كان له فهم

أيها القائمون على أمانة توجيه المجتمعات الذين ابتلاكم القَدَر بقدْرٍ عظيمٍ من الحفظ والاستظهار، إنَّ العلم الذي بين أيديكم أخطر من الرصاص الذي بين يدي المحاربين، فإن لم تحسنوا توجيهه، وتبصروا بدقة متناهية مواضع تنزيله، فإن رميكم الواقع بالكلمات، سيكون أشبه برمي الأعشى الذي يُخشى من رميه على الصديق، أعظم من الخشية على العدو!

فلتصغوا للواقع جيدًا قبل الحديث عنه، كما كان حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم يصنع، مع المحب والمبغض على السواء، وانظر كيف كرَّر الحديث لعتبة، عندما جاءه موفدًا من قريش، ففي بداية الحديث قال له: “قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ”.. وفي نهايته، ليتحقق من أنه أنهاه ولم يبق لديه شيء ليقوله قال له: «أَقَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»!

أي إصغاء للواقع أعظم من هذا.. علمًا أنه صلى الله عليه وسلم، يعلم يقينًا ما سيقوله الوليد، فإنَّ المعركة بين الفريقين ليست أيامًا ولا أشهر!

وكما كان مع المخالفين حريصًا على الاستماع، كان مع الأنصار كذلك، بل وأعظم، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام، لا يريد أن يكون معزولًا عما يختلج في صدور أصحابه من همس، ربما يؤدي تركه إلى أن تتخلق من بذوره المدفونة في الصدور شجر فتنة في لاحق الأيام، إن هو أهمل، أو عولج معالجة سطحية عامة.

03 01 التيه في بيداء من ورق

مسك الكلام

وما أجمل أن نختتم هذه التناولة بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، للأنصار يوم حنين، حين تنامى إلى سمعه شيء من الهمس الذي باحت به أنفاسُ الأنصار، حين اختلطَ فيها شهيق المعركة وزفيرها بالأسى والحسرة، حين ظنوا أنَّ المكانة التي كانوا يجدونها لهم في قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد تراجعت، وحلَّ محلها في قلبه غيرهم! فلم يترك القائد الحكيم جنده لوساوس الشيطان، بما بثَّه فيها من فتنة الغنائم، التي نجمت نتيجة هذه الواقعة المستجدة، لكنه استدعاهم (وحدهم) ليدور بينه وبينهم، رضي الله عنهم، ذلك الحديث الذي سيبقى عالقًا في عيون الدَّهر؛ دمعة حبٍ متبادلٍ بين “أعظم نبيٍّ وأعظم أنصار” تجمعوا على الحق، منذ بدأت الرسالات حتى ختمت.

وسنكتفي بهذا الجزء من الحديث الذي لا يمل تكراره، لأنه يبين كيف أنَّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، رسم المشهد الكلي العام من كافة أطرافه، حتى تكون كلمته التي سيختم بها كالبلسم الذي يبرئ الجراح، وكالغيث الذي يقع على ظمأ القلوب.. وكالنسيم البارد الذي يأتي على نار الفتنة، كما أتى أمر الله على نار إبراهيم، عليه السلام.

قال: “فأَتاهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، ما قالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟ قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال: ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرْناك، وطَريدًا فآوَيْناك، وعائِلًا فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْمًا وحَظًّا، ثُمَّ انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَفَرَّقوا”.

(أخرجه أحمد وصححه الألباني).

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقالة جميلة، مكتوبة بلغة مغرية جداً، وقلَّما تجتمع اللغة العالية والمحتوى الرصين جنباً إلى جنب في مقالة واحدة، بالرغم أنني قرأت اسم كاتبها للمرة الأولى إلا أنني قررت تتبع مقالاته لما وجدته فيها من تماسك الطرح وجمال اللغة.

    ما أسلفت ذكره لا يمنعني من إبداء ملحوطة خول خطأ مهم ورد في صلب المقالة تحت عنوانها الأخير (مسك الكلام)، الخطأ جاء عرضاً عند حديث الكاتب عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار حينما بلغه أنهم وجدوا في أنفسهم حيث رأوا اهتمامه عليه الصلاة والسلام بالمؤلفة قلوبهم ومعظمهم من قومه القرشيين دونهم، فتلك الحادثة ليست في غزوة حنين كما ذكر المؤلف، بل في منطقة الجعرانة التي جمعت فيها غنائم المشركين المنهزمين في حنين، ولكنها لا تحسب ضمن موقعة حنين لأنها لم تليها في الزمن، بل كان حصار الطائف الذي دام أربعين يوماً وانتهى بفك الحصار وترك الطائف دون فتح، كان حصار الطائف فاصلاً زمنياً كبيراً بين توزيع الغنائم في الجعرانة وغزوة حنين ذاتها، ألم تر مؤرخي السيرة النبوية قد فرقوا بين غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد بالرغم أن الفارق بينهما كان ليلةً واحدةً فقط، نعم ليلةً واحدة فحسب.

    في المقالات الراقية ذات الخصائص التي ذكرتها آنفاً لا يحمد السكوت عن مثل خطأ كهذا لأنه قد يثبت ويترسخ في ذهن بعض القراء ثقةً منهم بدقة الاستشهاد، وملحوظة كهذه لا يقلل من أهمية المقال ولا تنقص من قدر كاتبه، فكلنا ذوو خطأ، والقصور سمة الإنسان.

    والشكر الجزيل موصول للكاتب ولموقع حكمة يمانية.

    1. سعدت بهذه القراءة البصيرة، سعادة، أسأل الله أن تكون من عاجل بشرى المؤمن.. فرضي الله عنك أخي الكريم.. وسعدت ثانية للملاحظة التي كحلت بها عين المقال، فزاد بها جمالا على جمال ما فيه من ظلال وارفة مبسوطة تحت دوحة السيرة العطرة لنبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام رضي الله عنهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى