لو سألتكَ أن تذكر لي بعض رموز وأحداث يمنية حدثت في العهد الجمهوري الممتد من ١٩٦٢ وحتى ٢٠١١، فعلى الغالب لن تجد صعوبة في ذكر أسماء شخصيات من تلك الحقبة كعبدالله السلال، وعلي عبد المغني، ومحمود الزبيري، والبردوني، وغيرهم ويمكنك الحديث لساعات عن حصار السَّبعين والملحمة البطولية التي خاضها الجيش الجمهوري أمام جحافل الإمامة، و قد تذكر حروب المناطق الوسطى وتصف المشاعر الجياشة التي عمَّت جموع أبناء الشَّعب اليمني بشطريه عند تحقيق الوحدة، ثمَّ الخوف والترقب اللذان رافقا حرب الانفصال، وقد لا تتوقف عن سرد الأحداث والأشخاص حتى أكلُّ من سماعك وأرجوك أن تتوقف، ماذا لو سألتك: ماذا تعرف عن اليمن قبل الإسلام؟ قد تتوارد عليك مسميات الدول القديمة كقتبان وحمير ومعين وسبأ، وشخصيات سياسية كبلقيس، وشمر يهرعش وكرب إيل وتر، ربما لا توجد أي أحداث ولكن توجد مسميات على الأقل، أليس كذلك؟ إلى هنا، ما زالت النتيجة منطقية، فمن غير الغريب أن يكون العهد الجمهوري أكثر حيوية في ذاكرتك وذاكرتي من تاريخ اليمن القديم الذي لم نعاصره ولم نعشه، ولكن ماذا لو سألتك عن أحداث ورموز وشخصيات حدثت في الألف وأربعمائة سنة بين دخول الإسلام لليمن وقيام الجمهورية؟ إن كنتَ قارئًا جيدًا ففي أفضل الأحوال قد تتبادر إلى ذهنكَ بعض الأسماء كنشوان الحميري وأبو الحسن الهمداني والشوكاني، وحتى هذه الأسماء بعينها ليس تواردها مجرد مصادفة، ماذا عن الأحداث؟ ماذا حدث في ألف وأربعمائة سنة قريبة؟ كيف تشكلت اليمن على الشكل الذي نعرفه اليوم؟ ما الذي جلب تعز وحضرموت وصعدة معًا؟ كلنا نعرف متى وكيف تحققت الوحدة، ولكن كيف ولماذا نشأت دولتين مختلفتيْن تمامًا في الشمال والجنوب في المقام الأول؟ أليس من الغريب أن يعرف اليمني من أسماء الدول والحكام الذين حكموا اليمن قبل دخول الإسلام أكثر من عدد أسماء الحكام الذين حكموه بعد دخول الإسلام؟ أمن المعقول ألا يكون فيهم حاكم عادل أو شاعر بليغ يستحق الحفظ في الذاكرة الجمعية؟
لو سألت جدَّك هذه الأسئلة ففي الغالب لديه أجوبة للكثير منها، فهو يمتلك الكثير من الحكايا والقصص عن الأشخاص والأحداث تلك الحقبة الزمنية، لكن لماذا لا يوجد لدينا نحن أبناء جيل الجمهورية أي اتصال أو ارتباط بتلك الحقبة الطويلة من تاريخنا؟
في السنوات التي قضيتها في روسيا، ذلك الشعب العريق تاريخيًّا والغني ثقافيًّا، كان فضولي لا يسمح لي أن أتجاهل فرصة سانحة لتعلم أي شيء عنهم، كانت هذه الفرص تأتي على شكل محادثة مع عجوز روسية على حافلة عامة، أو تذكرة مجانيَّة إلى متحف، أو ما شابه ذلك، لكن كان هناك شيء غريب في كل ذلك، كان يبدو لي وكأنَّ الشعب الروسي يعاني من فقدان ذاكرة جزئي تجعله لا يتذكر ولا يرتبط بالحقبة السوفيتية رغم امتدادها لقرابة قرن من الزمن، ورغم قربها التاريخي النسبي من زماننا المعاصر، ومع ذلك، فالروسي يتحدث عن أمجاد وبطولات بطرس الأكبر والامبراطورة يكترينا، واغتيال القيصر الكساندر الثاني، ولكنه لا يذكر شيء عن الحقبة السوفيتية رغم تأثيرها الكبير في تاريخه، وبالرغم من وجود الشواهد الكبيرة عليها في المعمار والبُنى التحتية.
هذه الظاهرة ليست حالة خاصة بالشعب اليمني أو الروسي، ولكنها حالة تصاب بها العديد من الشعوب والأمم كما يصاب الفرد بفقدان ذاكرة متعمد أو غير متعمد نتيجة لأحداث جسدية أو معنوية تفقده جزء من ذاكرته أو يحاول تجاهلها عمدًا. أما بالنسبة لفقدان الذاكرة المتعمد فهي آلية يتبعها العقل البشري في محاولة منه لتجاوز أحداث مروعة أو حقبة مخزية من ماضيه، وبالمثل فإنَّ الشعوب تحاول أحيانا تجاوز حقبات مروعة أو مخزية من تاريخها بتجنب ذكرها والقفز عليها أو بذكرها بطريقة حذرة وواعية لأخذ العبرة. يتجنب الألمان ذكر النَّازية في حياتهم العامة بالرغم من حرصهم على تدريسها في المدارس نظرًا للمآسي التي مثلتها تلك الحقبة والتي ارتكب فيها الألمان أبشع الجرائم ضد الإنسان، وبالمثل فإنَّ الرُّوس يتجنبون الحديث عن الحقبة السوفيتية بخيرها وشرها بالرغم من تدريسها في المدارس. وهكذا، فإنَّ هذا التَّجاهل الواعي الذي تقوم به الأمم لا يلغي التاريخ، بل يؤرشفه ويبقى حاضر في السَّجل التَّاريخي الجمعي للأمة.
لكن ما يحدث مع اليمنيين شيء مختلف عن الحالة الروسية والألمانية، فاليمنيون – خاصة أبناء المدن الكبرى منهم- لا يتجنبون الحديث عن حقبة ما قبل الجمهورية وحسب، بل يبدو أنهم غير قادرين عن الحديث عنها، فقد فقدوا سجل تلك الفترة التاريخي من ذاكرتهم الجمعية بشكل غير متعمَّد لا حول ولا قوة لهم فيه. من أجل فهم كيف حدث فقد الذاكرة الجمعي هذا وماهية انعكاساته علينا، يجب علينا أولًا أن نفهم ما هي الذاكرة الجمعية.
الذاكرة الجمعية هي مجموع القصص والرِّوايات التاريخية عن الأحداث والأشخاص والرموز التاريخية لشعب أو أمة ما والتي تمثل المرجع التفسيري للحاضر الاجتماعي والسياسي والثقافي. يتناقل النَّاس هذه الذاكرة من خلال القصص والمرويات التي يرويها الآباء للأبناء في مختلف مراحل نموهم والتي يستخدمها الأبناء ليكونوا تصورًا عن أنفسهم وعن مجتمعهم فيما نسميه الهوية.[1]
لتسهيل هذا التعريف وتفكيكه سنقوم بتجربة بسيطة، حاول استدعاء ذكرى من طفولتك المبكرة، ما الذي تراه؟ في الغالب تلك الذكرى تجمعك بمجموعة من الأشخاص من حولك، ربما عزاء، عُرس، وليمة غداء لمعازيم لا تعرفهم، تميل عقولنا لتذكر الأحداث الجمعية على الحوادث الفردية من عمرنا المبكر، لأنَّ الأحداث الجمعية هي الأحداث التي نكتسب من خلالها المعنى ونفهم المغزى خلف الواقع الماثل أمامنا ومكوناته المختلفة من مؤسسات اجتماعية[2]. لا يمكن أن نفهم في ذلك العمر المبكر ماهية الموت دون حدث العزاء، ولا ما هية الزواج دون حدث العرس، وفي الحالة اليمنية ماهية الصُلح دون حضور حدث “تهجير” حيث تذبح الثيران. وهكذا فالأحداث الاجتماعية هي لحظات يتم من خلالها نقل المفاهيم الأساسية التي تفسر لنا الواقع وتشكل وعينا بذاتنا والمجتمع. حتى في حالة التأريخ للأحداث الشخصية من ماضينا، فإننا لا نجد مهرب من ربط ذلك الحدث بالذاكرة الجمعية للمجتمع ككل[3] ، فيقول الواحد منا “هاجرت قبل اندلاع الحرب بعامين”، أو نقول “فلان ولد في حرب الانفصال”، وكم من شخص جُهل تاريخ ميلاده نظرًا لكونه لم يصادف حدث جمعي كبير، لاحظ هنا أن الولادة وحرب الانفصال حدثان غير مرتبطان بأي شكل من الأشكال معنويًّا، غير أنَّ الفرد يستند للذاكرة الجمعية من أجل التأريخ لذاكرته الفردية، ومجموع المعاني المكتسبة من هذه الذاكرة الجمعية هي ما تشكل هُويته سواءً القبلية أو الدينية أو غير ذلك.
تشكل الذَّاكرة الجمعية المخزون الذي من خلاله يفسِّر الفرد العالم من حوله ومكانته فيه، وبالتالي كيفية تفاعله معه، لن تشعر بقيمة الدِّين الإسلامي دون دراسة سيرة النَّبي عليه الصلاة والسَّلام، ولن تعرف حقيقة إسرائيل دون دراسة تاريخ نشوئها، وهكذا نجد أنه ليس من الغريب أن تحاول السلطات الصاعدة – على تنوعها سياسية كانت أو فكرية أو دينية- عند قيامها على أنقاض سلطات أخرى القيام بإعادة صياغة الذاكرة الجمعية للأمة بما يتوافق مع مصلحة هذه السلطة وذلك لإحداث تغيير في طريقة تفاعل الفرد مع واقعه، فالإسلام مثلًا عندما أتى لم يُلغ تاريخ العرب الذي سبقه، لكنه منحه معنىً مختلفًا حينما وصمه “بالجاهلية”، وهذه الجاهلية هي التي تكسبُ التَّاريخ الإسلامي بعده الصفات المقابلة للجاهلية مثل صفة “الهداية”، وهكذا تصبح المعبودات المقدسة الممثلة للخير والآلهة من منظور أبناء قريش، أصنامًا تمثل الشَّر والشيطان من منظور الإسلام، وما كانت بطولة وطنية وقومية من منظور الدولة النَّازية، تصبح فاشية من منظور الدولة الألمانية الحديثة، وما كانت فترة صحوة إسلامية من منظور الإسلاميين، تصبح فترة تطرف وإرهاب من منظور المملكة الفلانية الحديثة، ويتنافس الفلسطينيون والإسرائيليون على تقديم سرديات مختلفة للتاريخ، تشرعن أو تنزع الشرعية عن الدولة الصهيونية، وهكذا تقدم كل حقبة جديدة سردية جديدة عن الحقبة التي سبقتها لا تلغي الحقبة السَّابقة ولكنها تعيد تفسيرها بطريقة تخدم شرعنة الواقع الجديد وإخضاع الناس له. فليس من المبالغة القول: إنَّ التحكم بالذَّاكرة الجمعية التاريخية للشعوب هو تحكم بحاضرها ومصائرها.
ينطبق هذا أيضًا على ما فعلته الجمهورية بحقبة أسرة حميد الدِّين التي لطالما استحضرتها الجمهورية كفترة ظلامية ممتلئة بالتَّخلف والشر على سبيل شرعنة النِّظام الجمهوري، ماذا عما تبقى من الأربعة عشر القرون الماضية؟ تكاد تكون تلك الفترة غائبة بشكل كامل من الوعي الجمعي اليمني وهذا يعود لسببين اثنين: أجنبية النظام الجمهوري، وحركة التمدن المشوهة التي أنتجتها الحقبة الجمهورية.
في العادة تبدأ سلطة تاريخية جديدة على أنقاض سابقتها وبالرغم من كونها سلطة مختلفة عن سابقتها إلى أنها في الغالب تتشارك مع سابقتها في كثير من الخصائص فهي إما تتطور عن سابقتها أو تولد كمنافس (معارض) لها، لكن السلطتان تتشاركان ذات المؤسسات الاجتماعية التي تحكم من خلالها الشعب، وبالتالي فإن السلطة الجديدة تكون حريصة على الإبقاء على الذَّاكرة الجمعية للأمَّة ولكن بسردية جديدة تكسبُ الواقع معنىً مُختلفًا وتمكِّنُها من السيطرة على المكونات والمؤسسات الاجتماعية ذاتها التي كانت تسيطر عليه السلطة السابقة، فالسردية المختلفة للماضي لا تُلغي الواقع بتعقيداته ومؤسساته الحاضرة، لكنها تعطي معاني مختلفة لهذا الواقع.
الأمر نفسه لا ينطبق على الحالة الجمهورية، فالدولة الجمهورية لم تكن تطورًا طبيعيًّا للتاريخ اليمني أو من السلطة السياسية السابقة، بل هو نظام تطور في أوروبا ضمن سياق اجتماعي مختلف وهو بحاجة لمؤسسات اجتماعية مختلفة عن المؤسسات الاجتماعية اليمنية ليبسط نفوذ سلطته، فالنظام الجمهوري بحاجة إلى طبقة تجار، وموظفين، وعُمَّال، وملاك رأس المال، وأحزاب، ونقابات، وبرلمان، وانتخابات، وغيرها من المؤسسات الأوروبية الصنع، بينما كان (ولا يزال إلى حدٍّ كبير) المجتمع اليمني ينظم نفسه وفقًا لمؤسسات محلية الصُّنْع كَالقبيلة والمَشيخية والعُرْف. وهكذا لم تر الدولة الجمهورية أي حاجة لإعادة تعريف المؤسسات التقليدية، فهي تحتاج إلى بسط سلطتها من خلال مؤسسات جديدة تحاول بنائها بينما تحاول في الوقت ذاته هدم البُنى والمؤسسات القديمة لما قد تمثله من عائق أمام مساعيها لبناء تلك المؤسسات الجديدة، ولهذا لم تهتم الدولة بإعادة صياغة الذاكرة الجمعية وأهملتها في التَّعليم والإعلام وغيره، فَالذاكرة الجمعية تُبقي تلك المؤسسات حية وتمنَحُها معنىً في عقول أبناء المجتمع، وهو ما قد يقف عائقا أمام شرعنة الدولة الجمهورية.
أما السبب الثاني في ضياع تلك الحقبة الطويلة من الذَّاكرة الجمعية اليمنية: هو أنَّ الدولة الجمهورية أنتجت حركة تحضُّرٍ مشوهة سببت قطيعة بين الأجيال وشكلت حاجزًا أمام التَّوارث الطبيعي للذاكرة الجمعية. الأجداد هم المسؤولون أولًا في عملية نقل الذاكرة الجمعية إلى الأحفاد حيث تُشَكل الحكايا والروايات التاريخية التي يحكيها الأجداد المخزون الحيوي للذاكرة الجمعية الممتدة لمئات السنين، وفي الوقت الذي ينشغل الأبوان عادةً في الحياة العملية يقضي الأحفاد والأجداد وقتًا طويلًا يولي كلٌ منهم ذلك الوقت نفس القدر من الاهتمام، حيث يهتم الأجداد بنقل الحكايا والقصص التاريخية، ويستمع الأبناء بكل شغفٍ وإقبال، فَهُم من خلال تلك الحكايا يفسرون واقعهم وتُصاغ هويتهم[4] . غير أنَّ هذه العملية الطبيعية تعرضت للمقاطعة، ففي سبيل بناء المؤسسات الاجتماعية اللازمة للجمهورية في المدن، قامت الدولة الجمهورية بعزل المدن بشكل تدريجي عن الأرياف وكثفت فيها عملية بناء المؤسسات اللازمة لاستقرارها، فأنشأت الأحزاب والنقابات ودفعت الدولة باتجاه تشكيل المدن بطريقة تسمح للدولة بالاستقرار فيها بعيدًا عن الأرياف التي تكون فيها المؤسسات اليمنية المحلية قوية وترفض تواجد كيان الدولة الأجنبي فيها. وكنتيجة لهذه العملية حصلت حركة تمدن مشوهة، حيث انتقل كثير من أبناء جيل ما بعد الثورة للمدن وأنجبوا أطفالهم في المدينة المعزولة عن الريف ثقافيا وعن عن الأجداد الذين فضلوا البقاء في الريف والابتعاد عن المدينة التي لا تشبههم بأي شكل من الأشكال.
ونتيجة لهذه الأسباب أصبح عموم أبناء المدن الكبرى اليوم يفتقدون لجزء كبير من الذاكرة الجمعية التاريخية، ويؤثر فقدان الذاكرة ذاك على الكثير من مناحي الحياة الفردية والجمعية للإنسان اليمني، أما على المستوى الفردي فابن المدينة غير المتصل بتاريخه ولا بهويته الحضارية ضعيف الشخصية يسوده شعور دفين بالخزي تجاه هويته وكل ما يتعلق بها، و يتضح ذلك جليًّا في ميلان هؤلاء الأشخاص للتبني السريع للهجات عربية أخرى فور اغترابهم، أو إسراع هذا النوع من الشباب لاتباع الأفكار الدخيلة والمستوردة وتحوله إلى هدف سهل وسريع للمشاريع الأيدلوجية الخارجية عربيةً كانت أو غربية أو إسلامية، ومؤخرًا تجلى هذا في حماس هؤلاء الشباب تجاه الإيديولوجيات والأفكار الغربية، فهم يبحثون عن هوية تملأ الفراغ الهوياتي بداخلهم، ولا توجد هوية أكثر إغراء من الهوية الغربية في وقتنا الحالي. ونظرًا لانقطاع السَّردية التَّاريخية عند الشباب، فهو يصبح غير قادر على فهم المؤسسات الاجتماعية المحلية كالقَبيلة والمَشيخية، فهي بالنسبة له لا تحمل أي معنى، ولهذا فهو يكيل لها العداء ويرغب لو أنها اختفت وتبددت من واقعه، فما هي لازمة شيء لا معنى لوجوده؟
أما انعكاسات فقدان الذَّاكرة على المستوى الجمعي، فهي أكبر وأطغى، فنظرًا لإفراغ هذه المؤسسات الاجتماعية من أي معنى تُصبح هذه المؤسسات معرضة للاستهداف عن طريق الأيدولوجيات المختلفة التي تعبئ فراغ المعنى هذا بأي معنى متطرِّف يتوافق ويخدم تلك الأيديولوجية، فعلى سبيل المثال: تُحمِّل الإيديولوجيات والأفكار اليسارية هذه المؤسسات معاني سلبية بالتخلف والرجعية والظلامية، فتُحول الشباب الفاقد إلى ما يشبه الأجسام المضادة لمريض مصاب بمرض المناعة الذاتية والذي تقوم فيه الأجسام المضادة – المنوط بها مهاجمة الأجسام الدخيلة على الجسد – بمهاجمة الخلايا الصحيحة لجسد المريض نتيجة عدم قدرة هذه الأجسام المضادة على تمييز نوعية الخلايا التي تستهدفها. وهكذا يقوم بعض أفراد المجتمع بعملية تدمير مؤسسات المجتمع الذي ينتمون إليه.
ومن تأثيرات غياب المعنى هذا، أن العلاقات الاجتماعية بين المجموعات البشرية ضمن المجتمع الواحد تفقد معانيها الحقيقية وتصبح هي كذلك عرضة للتفكك والتشوه، فلا يدري فاقد المعنى من اليمنيين القحطانيين هل الهاشميون ذرية ملائكية مقدَّسة أم شياطين بهيئة بشرية؟ وهنا تأتِ الأيديولوجيات لتقدم الإجابة، فيصبح “السيد” إنسان مقدَّس يصل إلى رتبة الأنبياء لدى أتباع الحوثي، أو يصبح شيطان رجيم لدى معارضيه وكارهيه. وليس من المبالغة القول: إنَّ الهاشميون لم يتلقوا من الحب والكراهية في تاريخهم في اليمن كالذي تلقوه في هذه الحقبة. فالكثير من الشباب القحطاني لا يعرف ما هي طبيعة علاقة أجداده بالهَاشميين التي كانت في غالبها علاقة حماية واحترام لا اضطهاد ولا سيادة، وبالمثل لا يعرف الكثير من شباب الهاشميين طبيعة علاقتهم التاريخية بالقحطانيين التي كانت علاقة فئة مستضعفة بفئة حامية ومُستضيفة، ولهذا تمكن الحوثي من خداع الشباب الهاشمي من خلال إعادة تعريف علاقتهم ببقية اليمنيين في معزل عن المعنى التَّاريخي للعلاقة، فأغرى الكثير من الشباب الهاشمي بطموحات المُلْك والسِّيادة بإشعال حنينهم لماضٍ لم يكن!
وما لا يقل أهمية عن كل هذا، هو أنَّ غياب جزء كبير من الذَّاكرة الجمعية أدى إلى صعوبة توحيد الهوية الوطنية للشعب اليمني، فالهوية اليمنية الحالية هوية قائمة على ما لا يزيد عن ستين سنة من التفاعلات بين مناطق اليمن المختلفة، وهي فترة زمنية فقيرة من الأحداث وغير كافية لصياغة سردية وطنية واحدة عن تضم أبناء الشعب اليمني من المناطق المختلفة، بل إن فيها ما يفرق أكثر مما يجمع، فإذا قلنا إن ما يُكوِّن الهويَّة هي الذاكرة الجمعية وأن الذاكرة الجمعية هي مجموع الأحداث والقصص الجماعية، فما هي الأحداث في العهد الجمهوري التي تجمع حجة والضالع غير حرب الانفصال؟ وما هي الأحداث التي تفسر وتُشرعن ارتباط عمران وذمار بِتعز غير الحروب الوسطى؟ أما في حالة لجأنا للتاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرن فلا شك أننا سنجد الكثير من التفاعلات والأحداث الإيجابية بين هذه المناطق المختلفة والتي يمكن توظيفها من أجل بناء سردية وطنية توحد همدان بِحميَر ومَذْحج بحضرموت.
وخلاصة القول: إنَّ اليمنيين بحاجة ماسة إلى زيارة تاريخهم الممتد لأكثر من أربعة عشر قرن، فمن ذلك التاريخ تكتسب كل المؤسسات الاجتماعية الماثلة أمامنا معانيها الحقيقة، ومن ذلك التاريخ يمكن صياغة سردية مشتركة تعالج التناقضات الهوياتية الناتجة عن التباعد والتنوع الجغرافي، ومن خلال ذلك التاريخ تُعاد ترميم الهوية الوطنية بطريقة تصبح بعدها قادرة استيعاب كل أبناء البلد دون احتقار أحدهم. لكن يبقى السؤال الأهم، هل يمكن حقاً فعل ذلك في ظل النظام الجمهوري؟
الهوامش:
- Maurice Malbwach, 1980, The Collective Memory, Harber Colophon Books,.
- Malbwach, 76.
- Malbwach, p 50-83.
- Malbwach, p 63.