توطئة
صعدت الحركات والتيارات الإسلامية المختلفة لحكم وإدارة عدد من الدول بطرق مختلفة، فمثلًا في إيران عن طريق الثورة الشعبية، وفي تركيا ومصر وتونس عبر الانتخابات، وحكمت حركة طالبان الأفغانية وحركة المحاكم الإسلامية في الصومال بعد الانتصار في معارك عسكرية، أما في السودان فقد قاد الإسلاميون انقلاباً عسكريًا استولوا بموجبه على السلطة. ومثَّلَ الانقلاب العسكري في السودان في 30\6\1989م، نقطة تحول كبرى في مسيرة الحركة الإسلامية السودانية، وذلك على مستويين:
أولًا: على المستوى الداخلي: حيث واجهت الحركة الإسلامية السودانية عدداً من التحديات في إدارتها للدولة السودانية.
وثانيًّا: على المستوى الخارجي: فقد نبَّه هذا الانقلاب العالم الخارجي إلى خطورة هذه الحركة والتي تحولت من جماعة ضغط صغيرة في ستينيات القرن العشرين إلى الاستيلاء على الدولة بالكامل في العام 1989م.
وجاء هذا التحول في ظل نهاية الحرب الباردة وانهيار سور برلين، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب وحيد فيما عُرف بـ(النظام العالمي الجديد) الأمر الذي عقَّد أمر هذه الحركة خاصة في إدارتها لملف العلاقات الخارجية، والذي بدوره كان له أثر كبير على إدارة الملف الاقتصادي وقضية الحرب والسَّلام في جنوب السُّودان.
وتأتي أهمية هذا المقال في سياق صعود الحركات الإسلامية لحكم وإدارة عدد من الدول – وعلى رأسها السودان – وذلك منذ نهايات سبعينيات القرن الماضي، وحتى بدايات العقد الثاني من القرن الواحد وعشرين، مروراً بما عُرفَ بثورات الربيع العربي. وأيضًا تأتي أهمية هذا المقال من أنَّ الحركة الإسلامية السودانية هي أول حركة إسلامية في (العالم السُّني) وفي المنطقة العربية والإفريقية تصل إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، أي أنَّ السلطة المطلقة كانت بيدها، مما جعلها أهم مثال يُمكن دراسته لمعرفة كيفية إدارتها للدولة الحديثة، والتحديات التي واجهتها وكيف تعاملت معها ؟
وأقول: إنَّ الفترة المثالية لدراسة نموذج وتجربة الحركة الإسلامية في الحكم والتحديات التي واجهتها في إدارة الدولة وكيف تعاملت معها هي الفترة الممتدة من 30\6\1989 لحظة استيلاء الحركة الإسلامية في السودان على السلطة وحتى 12\12\1999 ، وهي الفترة التي حكمت فيها الحركة الإسلامية موحدة بكامل هياكلها وتحت قيادتها التاريخية وذلك قبل انقسامها ومفاصلتها الشهيرة والتي أصبحت فيها الحركة الإسلامية بدون دولة، وحزبها (المؤتمر الشعبي بزعامة الشيخ حسن الترابي الأمين العام للحركة الإسلامية)، وأصبحت الإنقاذ دولة بدون الحركة الإسلامية، وحزبها (المؤتمر الوطني برئاسة عمر البشير رئيس الجمهورية).
وعلى ضوء ذلك كله يُمكن معرفة وفهم أهم التحديات التي واجهت الحركة الإسلامية في إدارة الدولة السودانية والتي تمثلت في الآتي:
التحديات السياسية:
واجهت الحركة الإسلامية السودانية تحديات كثيرة في إطار إدارتها للدولة، ولكن أشهر وأخطر هذه التحديات هي: (التحديات السياسية). فقد مثّل استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في 30 يونيو 1989 وعن طريق (الإنقلاب العسكري) نقطة تحول كبرى في مسيرتها خاصة على الصعيد السياسي، وتم تسمية الإنقلاب بـ(ثورة الإنقاذ الوطني). يقول الترابي في رسالة مكتوبة تحت عنوان (عبرة المسير) وتم نشرها في كتابه (في الفقه السياسي: مقاربات في تأصيل الفكر السياسي الإسلامي) يقول: ” إن الأوضاع والسياسات السلطانية لثورة الإنقاذ طلعت أولاً انقلابية مبهمة ثم تكشفت بعد عام ونصف عام تعلن وجهة إسلامية سافرة، ثم تطورت إصلاحاً متوالياً إلى دستور وقانون مرسوم يصدق مبادئها “.
وانقلاب 30 يونيو 1989 ليس الأول في السودان، بل هو الإنقلاب الثالث منذ استقلال السودان عن الاستعمار الإنجليزي في يناير 1956 (الأول كان في 17 نوفبر 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود وكان قومياً وطنياً) والثاني كان في (25 مايو 1969 بقيادة العقيد جعفر محمد نميري وكان يسارياً شيوعياً) ولكن انقلاب 30 يونيو – وحسب المراقبين – يختلف عن الإنقلابات العسكرية الأخرى. يقول دكتور محمد محجوب هارون في كتاب (المشروع الإسلامي السوداني: قراءات في الفكر والممارسة) :
“استقبل السودان عشية الثلاثين من حزيران (يونيو) 1989 حقبة جديدة في تاريخه السياسي المعاصر بإعلان مجموعة من الضباط توليهم السلطة في الخرطوم، برئاسة العميد عمر حسن أحمد البشير. ولم يكن انقلاب البشير الأول من نوعه في تاريخ الصراع السياسي في السودان. ولكن – مع ذلك – اعتبره عديد من المراقبين ومنذ لحظته الأولى مختلفًا عن الانقلابات السَّابقة”.
وأشار أستاذ التَّاريخ بجامعة كاليفورنيا روبرت أو. كولينز في كتابه (تاريخ السودان الحديث) أنَّ الانقلاب قام به (ضباط من الرتب المتوسطة) باعتبار أن قائد الانقلاب (البشير) كان برتبة العميد، وتعلوه عدد من الرتب العليا (اللواء، والفريق، والفريق أول، ثم المشير) ويقول في ذلك : “في ليلة الثلاثين من يونيو 1989، قامت مجموعة من نخبة ضباط الجيش ذوي الرتب المتوسطة بقيادة العميد ” عمر حسن أحمد البشير ” بالإطاحة بحكومة ” صادق المهدي ” الائتلافية المدنية في انقلاب غير دموي”.
وحسب رأي كولينز أن هذا الانقلاب لم يكن مجرد مغامرة قام بها الضباط، بل خلفه أيدولوجية محددة : “وفي أول الأمر بدا أنَّ انقلاب 30 يونيو يختلف قليلاً عن الإنقلابين السابقين، ولكن كان هناك قدر من الأيدولوجية الفكرية والسياسية في خلفية “ثورة يونيو” أكبر من أن يُعتبر الإنقلاب مجرد مغامرة أخرى لحفنة من الضباط الشبان للإستيلاء على الحكم”.
وعلى أثر ذلك الإنقلاب تنبَّأ الكثيرون للحركة الإسلامية من أنها ستواجه مزيداً من التحديات، فها هو محمد المختار الشنقيطي يتحدث عن الإستيلاء على السلطة، وما سينتج عنه من تحديات، فتراه يقول: “في الساعة الثالثة فجر اليوم الثلاثين من يونيو 1989 تحركت كتائب من الجيش السوداني، يقودها ضباط إسلاميون شباب إلى المواقع الاستراتيجية في الخرطوم، وسيطرت على القصر الرئاسي، وقيادة الأركان والإذاعة والتلفزيون، ثم أعلنت عن “ثورة الإنقاذ الوطني” .. لتسدل الستار على مرحلة من تاريخ السودان المعاصر، وتلج به مرحلة جديدة، لا تقف آثارها على السودان بلداً أو على السودانيين شعبًا”.
ثم تحدث الشنقيطي عن نجاح ثورة الإنقاذ (فنياً) وما يجب عليها فعله عملياً، فيقول في كتابه (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي): “كانت ثورة الإنقاذ الوطني ناجحة من النَّاحية الفنية بكل المعايير: سواء في أدائها العسكري الذي تجنب إراقة الدماء، أو مناوراتها الأمنية التي موهت بها على هويتها، أو التفافها السياسي الذي جعل ألد أعدائها أول المعترفين بها.. لكن هل كان فجر الثلاثين من يونيو 1989 نهاية أم بداية؟ وقتًا لبدء الراحة من رهق السنين ووعثاء السفر، أم إيذانًا بتحمل المسؤولية الأكبر والتَّحدي الأخطر؟ إنه الثاني بدون ريب، وليس الأول. ذلك أنَّ نجاح الثورة أكبر من مجرد استلام السلطة، والنجاح الفني ليس معيارا للنجاح المبدئي، خصوصًا إذا كان أهله يحملون رسالة أخلاقية، تهدف إلى تحرير الناس لا إلى إخضاعهم “.
ويتحدث الشنقيطي عن وضع السودان أثناء قيام (ثورة الإنقاذ الوطني) وما عليها
لتتحمله من مسؤوليات: “وفي بلد كالسودان، متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أنهكته الحرب الأهلية، وهددت فيه الحاجة إنسانية الإنسان، كان على الثورة الجديدة أن تتحمل أعباء زائدة، ومسؤوليات أخلاقية وإنسانية جسيمة، لم تواجه كل الثورات “.
وحسب ما يرى الشنقيطي فقد حدد (التحديات العامة التي تواجه السلطة الإسلامية السودانية)، في النقاط الآتية :
1\ على هذه السلطة أن تكف عن كونها حركة، وتقتنع بأنها أصبحت دولة، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات سياسية وأخلاقية.
2\ وأن تسعى لإطعام الإنسان السوداني من جوع، وتأمينه من خوف، باعتبار ذلك أهم بند في رسالتها، وأول خطوة على طريق البناء.
3\ وأن تبني شرعية سياسية على غير القوة والإكراه، فلا خير في سلطة تستمد شرعيتها من القوة حصرا، ولا مجال لاعتماد فقه الضرورات إلى الأبد.
4\ وأن توقف النزيف الإنساني الذي سببته الحرب الأهلية، لا بدماء الشباب المتعطش للجهاد والشهادة، بل بحكمة السياسة، ومنهج الحوار والتعايش.
5\ وأن تجهد في احتواء قوى التدين “الفاقدة للوعي بذاتها” داخل مجتمعها التقليدي المسلم، بمزيد من التعليم والوعي الذاتي.
6\ وأن تدرك أنَّ جسم الدولة متسع للجميع، بخلاف جسم الحركة، فالعجز عن احتواء واستيعاب المجتمع، معناه العجز عن تغيير المجتمع.
7\ وأن تعرف بأنَّ الحلول الفنية – على أهميتها وحاجة العمل الإسلامي إليها – لا تكفي. فالدولة الإسلامية دولة فكرة ومبدأ، قبل أي شيء آخر.
8\ وأن تعترف بموقعها الحرج في المكان، إقليميًّا ودوليًّا، فتتحمل مسؤوليتها بوضوح، وتنأى بنفسها عن أسلوب المغامرات والمهاترات والتخبط والتورط.
9\ وأن تعترف بموقعها الحرج في الزمان – حاملة لراية الإسلام أيام غربته – فتعضد ذلك بمزيد من الإقدام والتوكل والحكمة والدراية “.
وحتى تكون الحركات الإسلامية عامة في أرجاء الدنيا، والحركة الإسلامية في السودان خاصة على قدر التحدي والمسؤولية وجه لها الشنقيطي النصائح التالية :
” ولكي تكون الحركات الإسلامية على مستوى التحديات، فإن عليها الانتباه للمعاني التالية” :
1\ استيعاب العلاقة الجدلية بين المبدأ والمنهج، والإدراك العميق لضرورة حسن إعداد الوسائل وشحذ المناهج.
2\ مزيد من المرونة والروح العملية، والابتعاد عن التنظير في غير طائل، ونبذ الأفكار الذهنية المجردة، التي لا تعكس واقعا، ولا تلبي حاجة موضوعية.
3\ استيعاب خبرات العصر، في مجال التنظيم والتخطيط والفكر الاستراتيجي والسياسي، تجنبًا لأي تخلف في المناهج يضر بالمبادئ.
4\ التحرر من أسر الأشكال التنظيمية، والحذر من الجمود على ما لم يعد مناسبا، ولا مواكبا لمقتضيات العمل وضرورات التجديد.
5\ تحقيق الشورى في أمر الحركة كله، وخصوصا في مجال البناء القيادي، واجتناب أي استبداد مادي أو معنوي.
6\ فهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي، كما هو، لا كما نريده، والتزام روح المبادرة والإيجابية في التفاعل مع الدولة والمجتمع.
7\ التحرر من الروح الحزبية، والارتفاع إلى مستوى حمل الأمانة، وتمثيل الأمة، بدلا من التقوقع في أطر التنظيم وفكره.
8\ الاعتراف بالتنوع والاختلاف بين المجتمعات الإسلامية والتجارب الإسلامية، وبناء علاقات تناصر وأخوة، دون وصاية أو مصادرة.
الشرعية السياسية
ومن أهم التحديات السياسية التي واجهت الحركة الإسلامية في سنوات حكمها الأولى هي : تحدي (الشرعية السياسية) التي تُخّول لها حكم البلاد وتعيين حكومة تنفيذية تدير بها البلاد، وكذلك مؤسسة نيابية تسن وتصدر القوانين. وحتى الحصول على هذه (الشَّرعية) ستضطر الدولة للتَّعامل بـ(الطوارئ والقوانين الاستثنائية) وفي ذلك يقول محمود ممداني في كتابه (دارفور: منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب): “فإنَّ انقلاب العميد عمر حسن أحمد البشير بدعم من الجبهة القومية الإسلامية في عام 1989 صوّر نفسه أيضًا بعبارات ثورية، مثل “ثورة الإنقاذ الوطني”، واستخدم قوانين الطوارئ لحل الأحزاب السياسية ونقابات العمال، وحكم بمراسيم تصدر عن مجلس قيادة الثورة “.
أما وليد نويهض مؤلف كتاب (العقد السياسي: الإسلاميون والدولة والمسألة الديمقراطية (1984 – 1996) فيؤكد أن هذا الانقلاب وضع الإسلاميين أمام خيارات صعبة ويقول:
“لعبت ثورة الإنقاذ العسكرية التي هبت في السودان في العام 1989 دورًا في إعادة إنتاج الخلافات السَّابقة ووضعت الإسلاميين للمرة الأولى في تاريخهم أمام خيار صعب: إما تأييد الإنقلاب العسكري وهو أمر يتنافى مع تربيتهم العقائدية التي ترفض الأسلوب المذكور لأنه في النهاية يولد كتلة عسكرية – أيدولوجية حاكمة من طريق القوة والإستيلاء، وإما معارضة الإنقلاب وبالتالي محاولة تفسير جديد لعلاقات القوى وموازينها ومسألة السلطة ودور الدولة والأسلوب السلمي في كسب الغالبية العددية”.
وواضح أنَّ الحركة الإسلامية – حسب رؤية نويهض – قد اختارت الخيار الأول وهو تأييد الإنقلاب ولها مبرراتها حسب قوله: “وترى الجبهة الإسلامية أنها كانت مضطرة لتأييد الإنقلاب لانقاذ ما يمكن انقاذه من ضعف عام وفوضى سياسية أنهكت الدولة وجعلت أبوابها مشرعة لكل الطامعين من الخارج والطامحين من الداخل “.
وأي انقلاب – بالطبع – سيُواجه عدد كبير من المشكلات المختلفة والمعقدة في آن واحد، وفي ذلك يقول دكتور سليمان حامد، وهو أحد قادة الحركة الإسلامية السودانية وأستاذ جامعي ومؤلف كتاب (تجربة الإسلاميين في السودان: الإنتقال إلى السلطة ودواعي الإنشقاق) يقول: “أما الإنقلابيون فيواجهون مشكلات مثل الانقسام إلى راديكاليين ومعتدلين وإعادة السلطة إلى المدنيين أو حجبها عنهم، بروز مراكز قوى في أوساطهم أو الصراع المفضي إلى القفز فوق المؤسسين في كثير من الأحيان. وفي كلا الحالين فإن كيفية نقل السلطة وتداولها بينهم، الإنقلابيين أو الثوار، يشكل أحد التحديات هو الآخر”.
ورغم هذه المشاكل والتحديات تختار بعض القوى السياسية طريق الانقلاب العسكري، وكان على رأس القائمة الحركة الإسلامية السودانية، يقول دكتور سليمان حامد: “بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان، فإنها قد آثرت أن تختصر الطريق وتتسور جدار السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري. بهذه الكيفية فإن معالجة آثار انتقال الحركة إلى السلطة يقتضتي الانتباه إلى أنها ستواجه ما واجهته الثورات سيما النماذج التي لم يمض عليها وقت طويل كالثورة الإيرانية، وما واجه الإنقلابات في الوقت ذاته”.
ومعروف أنَّ الإنقلابات العسكرية تقوم بها الجيوش التي تربت وتدربت في كنف العلمانية وتأخذ عنها نظمها وحتى عقيدتها العسكرية والقتالية. على عكس انقلاب الإنقاذ في السودان، فقد كانت خلفه الحركة الإسلامية. يقول حامد : “لكن انقلاب الانقاذ كانت من خلفه الحركة الإسلامية المعروف عنها ارتباط ذكرها بحركات الإسلام السياسي التي تجد مقاومة حيثما صعد له نجم”.
وستواجه الحركة الإسلامية السودانية تحديات مركبة، أولًا لأنها جاءت عن طريق الإنقلاب العسكري، وثانيًا أيدولوجيتها مرفوضة من قبل القوى العالمية المسيطرة كما يقول سليمان حامد : ” لكل ما سبق فإن قدر الحركة الإسلامية، التي قدمت إلى السلطة عن طريق الثورة الصامتة أو الإنقلاب، أن تواجه تحديات مركبة، بعضها لكونها ثورة وبعضها لكونها انقلابًا. وفوق هذا وهذاك لكونها ذات أيدولوجيا تصنف في عداد الأصولية التي تجابه بالحساسية كلها خاصة من قبل القوى المهيمنة في عالم تشابكت فيه العلاقات وتداخلت فيه المصالح، ولم يعد يمض أمر في بلد بمعزل عن سائر بلاد العالم “.
جاءت الحركة الإسلامية للسلطة عن طريق (الإنقلاب العسكري) وعلى أعقاب حكومة منتخبة ديمقراطياً، وجمعية تأسيسية (البرلمان) عن طريق الإنتخاب أيضاً. ولأن الإنقاذ استبدلت النظام القائم – آنذاك – عن طريق الإنقلاب العسكري، فلذلك سيكون التحدي السياسي الأول لها – كما ذكرنا سابقاً – هو (الشرعية السياسية) بدلاً عن الشرعية الثورية (شرعية الإنقلاب). لذا سلكت الإنقاذ دروب (سن القوانين واستصدارها) والمراسيم الدستورية إلى أن وصلت وأنشأت دستوراً كاملاً أجازته عبر المجلس الوطني وأجرت عليه استفتاءاً شعبياً وأصبح مشهوراً بـ(دستور98)حيث أُجيز في العام 1998م.
وعلى ذات المنوال والتأكيد أن مسألة الشرعية هي تحدي أساسي كتب حيدر طه في كتابه (الإخوان والعسكر: قصة الجبهة الإسلامية والسلطة في السودان): “ومنذ اللحظة الأولى لانقلاب 30 يونيو واجهت الجبهة الإسلامية سيل من القضايا القديمة المتراكمة منذ زمن بعيد وجديدة خلقتها الجبهة الإسلامية بيدها، ومن أهم المسائل التي شكلت وما زالت تشكل تحدياً صارخاً لها مسألة الشرعية وما تتفرع عنه من مسائل لا تحصى”.
وهذا شيء معروف أنَّ الوصول إلى السُّلطة عن طريق الإنقلاب سيولد عدة مشاكل وتحديات كما يقول سليمان حامد:
” لم تكن حركة الإنقاذ استثناء مما سبقت الإشارة إليه، فقد ساق البيان الأول الذي تلاه العميد عمر حسن أحمد البشير، قائد الحركة، مبررات الإستيلاء على السلطة والتي أجملها في إنقاذ البلاد من التردي في الأداء السياسي، والفساد الذي استشرى، والإنهيار الأمني، وتهديد كيان البلاد نتيجة الحرب، وحمل توجهات أساسية منها العناية بالسلام “.
ولخص البيان الأول للإنقاذ المشاكل والتحديات التي جاءت الثورة من أجلها، ونورد هنا مقتطفات لأهمها، مأخوذة نصًّا من البيان الأول: “التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة. الاستقرار السياسي (عدة حكومات خلال فترة وجيزة). ضياع هيبة الحكم والقانون والنِّظام. العبث السِّياسي أفشل التجربة الديمقراطية وأضاع الوحدة الوطنية بإثارة المعارك العنصرية والقبلية. إهمال القوات المسلحة. والفشل في تجهيز القوات المسلحة والفشل في تحقيق السلام. تدهور الوضع الاقتصادي. انعدام التنمية. انعدام الضروريات وارتفاع الأسعار. فساد العمل الإداري وضياع هيبة الحكم وسلطان الدولة. إهمال الأقاليم (انقطاعها عن العاصمة، وانهيار المواصلات، وغياب السياسات القومية، وانفراط عقد الأمن، انعدام المواد التموينية). عزلة مع العرب وتوتر مع الأفارقة والدول الأخرى “. نص البيان بالكامل أورده الكاتب الأستاذ محمد محمد أحمد كرار في كتابه (الجيش السوداني والإنقاذ).
ويوثق الأستاذ المحبوب عبد السلام لحظات الإنقلاب الأولى ودخول السودان والحركة الإسلامية عهدًا جديدًا، وذلك في كتابه (الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء وخيوط الظلام) حيث يقول: “في صباح 30 يونيو (حزيران) 1989م بدأ السودان عهدًا جديدًا بإذاعة البيان الأول لـ(ثورة الإنقاذ الوطني)، وأخذت الحركة الإسلامية شكلًا جديدًا”.
ولمواجهة الترتيبات الجديدة خاصة السياسية وحكم البلاد وعملاً بمبدأ (الشرعية الثورية) تم تقسيم العمل على عدة لجان يترأس كل لجنة أحد أعضاء (مجلس قيادة الثورة) كما ذكر المحبوب: “انقسم مجلس قيادة الثورة إلى بضع لجان، لجنة للأمن والعمليات العليا التي استترت في مباني المجلس الوطني ليلاً، يرأسها نائب رئيس الثورة ويفرغ لها أشد الأعضاء حماسة ونشاطًا في أمر القوات المسلحة والأصغر سنًّا، ثم اللجنة السياسية التي تجهر بنشاطها في ذات المبنى نهارًا، يرأسها أكبر أعضاء المجلس رتبة وقِدمًا ورسوخًا في تنظيم الحركة الإسلامية، فلجنة السلام والجنوب، ولجنة الاقتصاد والخدمات، ولجنة الإعلام “.
ورصدت هذه المرحلة والفترة التي تليها (دائرة البحوث الاقتصادية والاجتماعية) بوزارة العلوم والتقانة في تقرير حصر (الإصلاح السياسي والإقتصادي في السودان في الفترة من 1989 وحتى 2004) وصدر في 338 صفحة. يقول التقرير: “المرحلة الاستثنائية للإنقاذ هي الفترة التي تولى فيها مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني زمام السلطة السياسية والسيادية والتنفيذية والتشريعية. وكان المجلس يمارس جميع هذه السلطات، بموجب قراراته وقرارات اللجان الأربع التي شكلها لمعاونته، وهي: اللجنة الأمنية، واللجنة السياسية، واللجنة الاقتصادية، واللجنة الإعلامية “.
بناء المؤسسات السياسية
بدأت الإنقاذ بما لديها من (شرعية ثورية) في بناء المؤسسات السياسية والخدمية، وبدأت هذا البناء من القواعد، فأنشأت ما سمته (اللجان الشعبية)، وهي فكرة ناشئة من نظرية (المجتمع الرائد أو القائد الذي يسبق الدولة) وكانت المحور الذي قامت عليه (الإستراتيجية القومية الشاملة لحكومة الإنقاذ)، وكذلك رؤية الشيخ حسن الترابي والتي تتحدث عن (المجتمع المؤمن مصدر السلطان) وفصّلها في الفصل الثالث في كتابه (السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع). وشرح هذه الفكرة دكتور سليمان حامد (تجربة الإسلاميين في السودان) : ” لئن كانت المؤسسة الأولى التي شرعت ثورة الإنقاذ في ممارسة السلطة عبرها، هي مجلس قيادة الثورة من خلال لجانه الأربع، ريثما يعلن التشكيل الوزاري في التاسع من يوليو لحكومة الإنقاذ ذات الواحد وعشرين وزيراً مركزياً، فإن أولى المؤسسات التي التفتت الإنقاذ إلى تأسيسها هي اللجان الشعبية التي كانت تعني إشراك الجماهير في السلطة من خلال وجودهم في الأحياء وأماكن العمل. فقد أصدر معتمد العاصمة القومية قانوناً بتكوين اللجان الشعبية للرقابة والخدمات في العاصمة في العاشر من شهر أغسطس أي بعد اقل من شهر ونصف الشهر على قدوم الإنقاذ، وفي السابع والعشرين من أكتوبر بدأت اللجان الشعبية تمارس مهامها “.
ثم كانت الخطوة التالية في بناء المؤسسات السياسية هي انعقاد مؤتمر للنظام السياسي ليحدد المسار الذي ستسلكه الثورة الوليدة حيث: ” انعقد مؤتمر الحوار القومي حول النظام السياسي في الفترة من السادس من أغسطس حتى الحادي والعشرين من أكتوبر من عام 1990م، وقد خلص المؤتمرون في تقريره الختامي، من خلال تداولهم حول تجارب السودان السابقة، إلى أن المبادئ والقيم التي تحكم المسار يجب أن تستمد من تراث الأمة الغني بالتنوع نأياً بها عن المبادئ المستوردة التي لا تناسبها، وأكدوا على ضرورة الإنحياز إلى الجماهير، والتجاوب مع متغيرات الواقع ولابد من رفع الوصاية عن الجماهير وتحرير إرادتها لتشارك بفعالية أكبر في صنع القرارت والإبتعاد عن الصفوية في العمل السياسي العام حتى يكون شعبياً قريباً من الجمهور “. (سليمان حامد تجربة الإسلاميين في السودان).
وبعد مداولات استمرت شهرين ونصف وتمت فيها مناقشة كل التجارب السابقة بالسودان، والإستئناس ببعض تجارب الدول الأخرى، انتهى المؤتمرون إلى تبني نظام المؤتمرات، الذي يستند إلى ركائز أهمها :
• اعتماد النظام الرئاسي.
• اعتماد النظام الفدرالي.
• تعريف العلاقة بين الدين والدولة في مسألة التشريعات.
• التأكيد على استقلالية القضاء “.
وتم وضع خطة استراتيجية لبناء النظام السياسي محددة بآجال تبدأ بتأسيس المؤتمرات وتنتهي بانتخاب المجلس الوطني ورئيس الجمهورية، وبذلك تكون الإنقاذ انتقلت من (الشرعية الثورية) إلى (الشرعية الدستورية) على الأقل على حسب رؤيتها وقناعاتها، وحسب سليمان حامد فقد ” قضت الخطة الإستراتيجية الشاملة التي اختطها النظام، في شأن النظام السياسي أن يبدأ بناؤه بتأسيس المؤتمرات في مطلع عام 1992 م بداية الاستراتيجية على أن يكتمل بناء النظام السياسي قبل نهاية النصف الأول من عمر الاستراتيجية، أي خمس سنوات “.
والاستراتيجية القومية الشاملة (1992 – 2002) هي خطة انبثقت من مؤتمر الاستراتيجية القومية الشاملة في أكتوبر 1991م. وشارك فيه (6580) من مختلف التخصصات المعرفية والأكاديمية والخبرات المهنية والعملية، من القطاعين العام والخاص، من كل الأقاليم بل ومن خارج السودان. وشملت الاستراتيجية (14 قطاعاً)، و(52 لجنة) وعملوا لمدة ثلاثة أشهر. وقام بطبعها مركز الدراسات الاستراتيجية.
وتم تقسيم هذا العمل على مرحلتين ليتم تنفيذه فيهما:
المرحلة الأولى: (1992م – 1993م): وتشمل استكمال بناء النظام السياسي، بدءاً بالمؤتمرات الأساسية حتى مؤتمرات الولايات، بما في ذلك المؤتمرات القطاعية على مستوى الولاية والمجالس الناجمة عن تلك المؤتمرات انتهاء بمجلس الولاية وحكومتها.
المرحلة الثانية: (1994م – 1995م): ينعقد فيها المؤتمر الوطني إضافة إلى انتخاب المجلس الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية.
وبهذه الانتخابات تكون الانقاذ قد تجاوزت مرحلة (الشرعية الثورية) وانتقلت إلى (الشرعية الدستورية) ولو بصورة شكلية لم تُرض الأحزاب المعارضة الداخلية أو الأطراف المناوئة الخارجية، ووفق سليمان حامد في (تجربة الإسلاميين في السودان): ” بعد انتخابات مارس من عام 1996م لم تعد الإنقاذ تحكم وفق الشرعية الثورية كما كان الحال من قبل، فقد حازت قدراً كبيراً من التفويض الشعبي بموجب تلك الانتخابات، وإن قلل من وزنه مقاطعة الأحزاب لها. لقد كان مدلول ذلك الإحجام عن المشاركة أنّ أيّ تغيير لم يطرأ على النظرة إلى الإنقاذ من قبل القوى المحلية والخارجية على السواء، وأنّ كل الذي حدث هو أنها امتلكت مبرراً دستورياً للاستمرار في الحكم، والمضي في بناء النظام سياسياً ودستورياً “.