أشتات

الحرير والحديد في حضارة السادة والعبيد

بُهرُج الحضارة والمثقَّف العربي

قد يجف المداد الأسود على الرقعة البيضاء، مع توالي الكتابة المتصلة بفحمة الليل، وضوء النَّهار، وقد تذرفُ المآقي مآقيها رفقة دموعها، ولا يستطيع القلم أن يترجم ارتجافة طفلٍ من أطفالِ غزَّة، أو نشيج طفلة صغيرة في خضم بحثها عن أمها، لتتبيَّنها من شعرها المخلوط بغبار البارود وأتربة المباني المتهدِّمة. إنَّ العاطفة معقل الضَّمير الأخير في هذا العالَم المادي القاسي، وأُسُّ مباذخ الوعي الحضاري المنشود، والقسوة والبربرية رأس مال الحضارة النَّاجزة، وعنوان سوقها الأبرز. خُدِع بعض المثقفين؛ وفي كل مرةٍ يجرعون كأس الخديعة عسلًا، مع تحوّل الإعلام إلى أداة قتل، تنخر خلايا العقل، وتُكبّله بقيودٍ من حرير، تاركةً قيودها الحديدية إلى ساعة المفاصلة التي تتلاشى معها المخادنة، وتنفجر الفضيحة. إنهم يتقبّلون قيم الحضارة المتحصلة بعلمٍ وحذاقة، ليكتشفوا عوارها بجهلهم وضحالتهم.

ولأنهم متحضرون آضوا أذيالًا في شوارعها، خلعوا عن زوجاتهم وبناتهم حجابهن وما فوق ذلك، ليُلبِسُوهُنَّ عُري الحضارة، ولأنهم مثقفّون مبرزون عليهم إثبات ذلك بالتبعية التَّامة، ولن يحدث ذلكَ مالم يبدأوا من حيث انتهى الآخر، من وضاعةٍ فكرية تؤدي إلى الإلحاد أو الشُّذوذ الجنسي، أو تعري من ذكرنا، كنوع ترضية للجيران، أو للحي الذي يعيشونَ فيه. هذا البغاء الحضاري الذي يختارهم في الوقت الذي يعتقدونَ إنهم يختارونه، يدفعهم للواجهة، كمثقفين رضعوا من ثدي الإمبراطورية الرومانية الثَّانية، فمِن ادَّعاءٍ لم يتبصَّر ما وراء الصُّورة، صرخَ صاحبه: “رأيتُ إسلامًا بلا مسلمين”، مرورًا بمن أوغلَ في نصيحته: “على المسلمين إذا أرادوا أن يخلقوا حداثتهم، أن يأخذوا هذه الحداثة الغربية كاملة دون نقصان”، إلى انبطاح ظاهر للمنافحة الممضّة الحارقة عن الوضعية المنطقية، والدَّعوة إلى مساوقة ومساورة الغرب حذو القذة بالقذة، راغبًا إلينا حتى نصير غربًا لا شرق. وفي واقعنا من الأحياء الكثير، ممن أماتتهم غزة، وأهانت أقلامهم وثقافتهم.

إنَّ هذه الوجاهة التي ينالها هؤلاء المتّسعون في اطّلاعهم، الجهلة في استبصارهم، بل المتواطئون في مشاطرة الحضارة عارها وعوارها، وجدوا فراغًا في ثقافتنا، وترهلًا في وعينا، واستبدادًا في أوطاننا، وجوعًا في ربوعه، ثمَّ في الجهة المقابلة لفحة المفقَّرون لفحة الانبهار بمن يسكنون في الشقق المطلّة على شارع الشانزيليزيه، أو بمن يتصوّرون بمحاذاة الشارع الأحمر في هولندا-في الوقت الذي لا يعرفون ماذا يمثل الشَّارع الأحمر- أو بمن يكتبون قصيدتهم على نهر الراين في ألمانيا، بهذا الزخم الضافر أُسهم لأذيال الثَّقافة وجاهتهم، وبذلك الهم والوهن اكتسبوا نظرة الإكبار على الرغم من أنهم صِغار.

ليس منطقيًا أن تكونَ قارئًا جيدًا، ولا تفهم لماذا كان الاستبداد فينا لعقودٍ من الزَّمن، أو الجوع؛ في الوقت الذي نعيش على بحرٍ من الذهب الأسود، ليس شرفًا أن تتفاخر على أمّتك بما أجرمت فيه الحضارة التي تتعبّدها، أن تنتهز تصورات الناس السطحية عن اقتعادك كرسيًا في الجامعة الكذائية، أو التمظهرات عن طبيعة حياتك المنعَّمة، لتقدح في رؤوسهم مساحات الافتتان، ومغبّة التخيلات الخادعة.

إن هذا الصنف من المثقفين في الغرب، يتمتعون بالتناقض الرهيب، وبالتشامخ الغاصب، وبالوجع النرجسي فيما لو كان لغيرهم مالم يك لهم. هذه الخصال الثلاث هي ذاتها خصال الحضارة التي يفخرون بها، ولا تفخر بهم، فهي حضارة متناقضة، ومتشامخة بالاغتصاب والسرقة والاستعمار، وبالنرجسية المتعالية على من دونها من العالَم، فضلًا عن عُريّها الذي آض لهم عريًّا، وانحطاط شخصياتهم أخلاقيًا فيما يكتبون ويلهجون، وانحطاطها بالإزاء أخلاقيًا فيما تقول وتفعل. الحق أقول لكم مستدركًا، إنَّ تناقضها -وهم تبعًا لها- معايير التأسيس، اعتقدناها تناقضًا مع طفح الوجع، في حين هي ممأسسة لنيل المصالح، وتحقيق السَّرقات بقيود الحرير.

إنَّ الثَّقافة في خضم هذه الحضارة؛ ظاهرة خطيرة للغاية، فقد مسخت ضمير الإنسان محوّلة إيّاه إلى مكنة، هذه المكنة تمتلك القدرة على توليد ما أُوكل إليها بطريقةٍ آلية، ولكنها لا تستطيع أن تنفعل أو تتفاعل، كما أنَّ الحضارة في عهد هذه الثقافة تُنذِر بمزيدٍ من العمى، إذ أننا في حالة تعاضد متبادل فيما بينهما، وضحية ذلك التَّعاضد: الإنسان كقيمةٍ أولى، بينما تكمن مرابحها في نزواته وشذوذه.

السياسة والحضارة الغربية

تكمن إشكالية الربيع العربي؛ وأي ربيعٍ عربيٍ قادم، في استغلاله أمريكيًّا، وذلك لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت. تخشى أميركا عدم بسط سيطرتها على حكم الثورة، ما يدعوها إلى خلق جهة مقابلة تكون طوع بنانها، لتقوم بحراسة آبار النفط، واخضاع روح القرآن لروح الحداثة المادية، كما أنَّ مشكلة الثورات المضادة أنها أعادت الوطن العربي إلى بيت الطاعة الأمريكي، خشية سقوط من لم يسقط من الحكام من جهةٍ، ومن جهة أخرى إعلامية؛ خشيتها من التفتيت؛ تفتيت بلدانهم لا بلدان الثورات.

يتضح من ذلك أن الدول التي لم تُقَسّم كانت وما زالت تبعًا لأميركا، وأنَّ الدول التي قُسِمت سياسيًا أو جغرافيًا، لأميركا نصف تلك القسمة.

*نموذج الدول التي لم تقسَّم: مصر-دول الخليج- الأردن- المغرب-الجزائر-موريتانيا-تونس-جيبوتي-جزر القمر. 

*نموذج الدول التي قُسِمت سياسيًا:  السودان-ليبيا-سوريا-لبنان- العراق-فلسطين. 

*نموذج الدول التي قُسِّمت جغرافيا: السودان-الصومال. 

*اُتخذت في اليمن استراتيجية أخرى مختلفة عمَّا سبق، وإن كانت أقرب للاستراتيجية المتبعة في سوريا ولبنان. ملحقات إيرانية تسهم في تفتيت الكتلة السُّنيَّة، وحكم الأقليات على الأكثريات.

بعض الدول التي لم تُقسَّم، تسهمُ في تقسيم دول الثورات، وفي ظني أنَّ دويلة عربية هي رأس الحربة الأمريكية في هذا التَّقسيم، رأينا ذلك في اليمن، والسُّودان، وليبيا، إضافة إلى دعم انقلابات العسكر في بعض البلدان العربية؛ كخيارٍ أميركي ثانٍ، يضمن مصالحها، ويحقق بسط سيطرتها. 

إذا لم يكسروا المقاومة في غزة بواسطة الحرب، سيسعون إلى كسرها بواسطة السَّلام، وذلك من خلال تقسيمها من الداخل، بوسائل احتيالية وفخاخ ديمقراطية. لذلك نحى بعض المفكرين منحى الحفاظ على الحاكم المستبد العادل، مستندين في ذلك إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمَّد عبده، وبعض روَّاد الفكر في العالَم العربي والإسلامي، وذلك خشية ضياع ما في أيدينا، واتساع الشّرخ في قلب الجغرافيا العربية، وتفتيت الأمة، وسفك دماء أبنائها بواسطة أبنائها، متطلعين إلى العدل بصرف النظر عما عداه من استبداد بالحكم، أو استئثار بالثروات، خاصة والتطلُّع الأميركي إلى شرق أوسط جديد، بناء على التصريحات العلنية؛ وما نشرته وزارة الخارجية الأمريكية على موقعها في أعوامٍ مضت، من خطةٍ للتقسيم في قلب الجغرافيا العربية، ولعل ما أحدثته أميركا عن طريق أدواتها إزاء الربيع العربي خير دليلٍ على ذلك كما سبق وألمعنا إليه. بيد أنَّ منحى أولئك المفكرين غاية الحفاظ على الحاكم المستبد، نقطة عمياء في شبكة العين المبصرة، ووهمٌ لا يُرجى الشفاء منه، لأنه ينطلق من فكرة صحيحة جزئيًا، ليتورط في بناء المجد الشخصي، والمصالح الذاتية بفضل التقرّب من الحاكم المستبد، وكل ذلك على حساب الأمة ومصيرها، فضلًا عن أن الحاكم المستبد لن يكون عادلًا، إذ لا عدل مع استبداد، كما أنَّ من يقسم الأوطان هم أولئك المستبدون أنفسهم لصالح الأمريكي، لأنهم أدوات، وجماعات أميرية، أو عسكرية، لا دول ذات سيادة. هذا الارتباك؛ أو بالأحرى الاشتباك في المشهد العربي، عمل في سبيل إصمات الشعوب العربية، إذ جعلها ترى نماذج حية لتقسيم بلدان الثورات، مع قبضةٍ حديدية قاتلة لمن يناهض مسار الطغاة. إن هذا الطغيان صورة من صور احتلال الوطن العربي أكثر منه صورة من صور الطغيان، ولعلَّ غزة العظمى كشفت الغطاء عن هذا النوع من الاحتلال الحديث، الذي أجاد تطوير وسائله وأدواته، حتى اعتقدنا فيمن يتحدث العربية عروبته، وفيمن ولد من أبوين عربيين نخوته وشهامته، ناسيين أو متناسيين تعريف الخيانة، وأساليبها، ونماذجها، وصورها.

محور المقاومة: هل هو مقاومة؟

دأبت إيران وأذرعها في المنطقة على رفع شعار المقاومة، بالضد من (الشيطان الأكبر): أميركا، وإسرائيل، ومن في حكمهما، وبهذا الشعار الخلاّق قضت على أناسٍ كُثُر، وهشّمت رؤوسًا، وهمشَّت أوطانًا، وفي هذا ما يعرفه الجميع، ولا حاجة للإسهاب فيه، الأهم في رأيي هو فهم هذا البعد المتناقض المتعارض: الدعوة إلى مقاومة أميركا وإسرائيل، وقتل من تدعوهم إلى القيام بالمقاومة من المسلمين، دون من تدعي مقاومتهم!

أرغب في قول شيء لا يجرؤ الكثير على قوله، ليس لأنني أمتلك الجرأة والآخر لا يملكها، ولكن لأني حريص على التعبير فيما أعتقده، وفي رأيي أن ما سأقوله يحتقب مقاربة منطقية إلى حدٍ لا بأسَ به، مع حاجة إلى استفاضة شرح لا يسعه المقام، وذلك في نقطتين رئيسيتين:

الأولى: إن إيران وأذرعها في المِنطَقَة تبتغي المقاومة نهجًا، وتعمل على ذلك بالضد من الأميركي والإسرائيلي، ولكن السياسي الأمريكي؛ وبعد الثورة الإيرانية تنبّه لهذه النزعة العلوية، فقلب ظهر المجن على إيران من زاوية، وعلى الأمة العربية في عمومها من زاوية أخرى، وذلك بإعطاء إيران الضوء الأخضر لتوسعاتها، ومد أشياعها من شيعتها ما يخلق منهم دولة، أو يسقط بهم دولة، حتى تحوّل هذا الاكتناز المقاوِم إلى الداخل بدلاً عن الخارج،  فكان الاحتواء سبيل أميركا، وكان التوسّع سبيل إيران، وكانت خطتهما -غير المكتوبة- حكم الأقليات الشيعية، ولن يتأتّى هذا الحكم إلا بتشطير الأمة وتمزيقها، وفي تمزيقها غاية أميركا وإسرائيل، وفي حكم الأقليات الشيعية مرابح إيران!

الثانية: الاحتلال الحديث للوطن العربي سهّل المهمة الإيرانية الأمريكية، فالحاكم الأمريكي في المنطقة، والذي يقال له مجازًا : الحاكم العربي، كرَّسَ نفسه في احتواء الدَّاخل الشَّعبي، وفي إرضاء الخارج الأمريكي، ولأنه لا يستطيع أن يكون مع الشَّعب، دفعته مخاوفه إلى قمعه وإخضاعه أحيانًا، وإلى إلهائه أحيانًا أخرى، ولأنه لا يستطيع أن يكون بالضد من أميركا خافها وخضع لها، وبين هذين الخوفين أصبحت قضيته، خوفٌ من أميركا، وخوفٌ من الشعب، بينما خطة التقسيم الإيرانية الأمريكية تمضي على قدمٍ وساق، ليس لأنَّ إيران وأميركا أصدقاء، وليس لأنهم أعداء، بل لأن هناك مصلحة مشتركة، تقتضي ما أسلفنا ذكره، وهذه المصلحة لا تمنع إيران من تزويد المقاومة في فلسطين بالسلاح، لأن منزعها في الأساس منزع مقاوم، ولا يمنعها في تشطير الأوطان، لأن لها مصلحة استراتيجية هائلة، ولا يمنعها من دفع أذرعها لمهاجمة أميركا أو إسرائيل في خطوط الاشتباك المتفق عليها، وربما غير المتفق عليها إذا اقتضت مصلحة أحد الطرفين.

يفترض بالعقلاء في هذه الأمة المعطاءة، رفض الإيدلوجيا التي رغّبتنا في القوة، والكرامة، ولكنها عجزت عن النَّصر، ورفض القُطْرية العربية التي أوهمتنا بالنَّجاح، فكان نجاحًا ترفيهيًا غرض الحفاظ على سيادة الأنظمة لا سيادة الدول، في حين أسقطت حق الأمة الواحدة وأفشلت نجاحاتها المفروضة. إنَّ أوروبا التي قسمت أمتنا تجاوزت قوميتها لتتحد، وإن الإيدلوجيا التي أقامت الحرب العالمية الثانية، هُزِمت، فثاب الناس بعدها إلى الاجتماع لا إلى الفرقة، إلى التغيير في الأفكار لإصلاح مؤسسات الدول، لا ضرب مؤسسات الدول لإصلاح الأفكار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى