أشتات

الرفض الاجتماعي للطبقية.. الشاعرة غَزَال الـمَقْدَشِيَّة نموذجاً

لطالما قيل: الشعر ديوان العرب وما ذاك إلا لأن الشاعر مدرسة يتعلم منها الناس القيم الأخلاقية والمجتمعية ، والعربي حين يبحث عن الحكمة يرجع إلى الشاعر وليس إلى الفيلسوف أو الحاكم ، وعبر عن هذا المعنى أبو تمام (1) حين قال :

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بغاة العلا من أين تؤتى المكارم

وهذا الأمر ليس حكراً على الشعراء بل يشمل الشواعر كذلك، كما أنه ليس حكراً كذلك على نوع أو لون من الشعر بل يشمله أغلبه إن لم يكن كله، ومن ذلك الشعر العامي، والعامية: هي اللغة المستخدمة بين عُموم شعب دولة ما، وعادةً تتكون من مزيج من اللغة العربية الفصحى وعدد من اللغات الأجنبية التي ترتبط حضارتها مع حضارة هذه المنطقة أو الدولة(2) .

في اليمن برز في كل العصور شعراء وشاعرات شعبيون ينظمون بالعامية التي يتحدثون بها، وفي اليمن لهجات عامية تختلف من منطقة إلى أخرى وليس هذا موضوع حديثنا.

غَزَال الـمَقْدَشِيَّة أحد الشاعرات الشعبيات في اليمن ومن القلائل الذين لايمكن المرور عليهم مرور الكرام وما يجعلنا نجزم بذلك ايراد اثنين من عمالقة الأدب والشعر اليمنين لأخبارها وأشعارها ضمن دراساتهم لشعراء العامية في اليمن وهما: الشاعر والأديب عبدالله البردوني (3) والشاعر والأديب الدكتور عبد العزيز المقالح (4).

هي غزال بنت أحمد بن علوان الـمَقْدَشِيَّة  أو العَنسِيّة من ذمار وسط اليمن ، ولا يوجد تحديد دقيق لتاريخ مولدها لكن المرجح انها من مواليد النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشـر الميلادي، وتوفيت في عام 1266هـ 1850 م في قرية قرية حَوَروَر(5) ، وبحسب الدكتور المقالح الذي أورد أخبارها في كتابه (شعر العامية في اليمن): “بأنها شاعرةٌ ريفيةٌ جهيرة الصوت، اتخذ بعض أشعارها طابع الأحكام، وكان لهذه الأشعار من الشهرة والنفاذ إلى القلوب ما لأشعار أولئك الحكماء الريفيين، على أن غَزَالاً قد خالفتهم في طريقة النظم، وفي الخروج بالشعر من دائرة الزراعة والبيئة الريفية إلى مجال القضايا الإنسانية العامة، كذلك تخطتهم بـمشاركتها في الحديث عن كثيرٍ من القضايا ذات الصلة المباشرة بالواقع اليومي لجماهير الريف في عصرها”(6) .

وأورد البردوني في كتابه (رحلة في الشعر اليمني قديـمه وحديثه) بأن شهرة قصائد “غَزَال المَقْدَشِيَّة” يرجع إلى تنقلها من منطقةٍ إلى أخرى، وإنشادها الشعر في كل منطقة، وعند كل مناسبة (7)، وهذا ما خلَّد مواقف وقضايا اجتماعية عاشتها الشاعرة وربـما يعايشها البعض مع اختلاف الزمان والمكان ، ويستعيد مقولاتها مباشرةً كجزءٍ من الذاكرة الشعبية المحفوظة والمتناقلة جيلاً بعد جيل، كما أن جرأة وإقدام الشاعرة يتناسب مع شعرها وأقوالها .

المهم هنا أن نتوقف عند ظاهرة نادرة تتلخص في مقاومة رذيلة الطبقية التي ابتلى بها اليمنيون وكانت في فترة ظهور الشاعرة غزال في أوجها فالشاعرة حسب أغلب من أرّخ لها أو ذكر أخبارها تنتمي لطبقة اجتماعية هي طبقة (أهل الخُمسْ) وهي أدنى الطبقات اجتماعياً وتشمل عدد ممن يمتهنون الحرف التي يصنفها المجتمع الطبقي كحرف وضيعة كحرفة حلاقة الراس (المزاينة) وذباحي المواشي (الجزارين) وضاربي الطبول والمغنيين (الدواشين) وهم في الغالب طبقة فقيرة فالمهن المذكورة لا تدر عليهم الا القليل من الدخل -على الأقل في ذلك الزمن- ، ولا يشترِط المجتمع الطبقي أن يكن الفرد منهم يمارس الحرفة، والمهم لديهم أن يكون انتمائه العرقي لأسرة اشتهرت بأحد هذه المهن، سواء كانت تمتهن الحرفة حالياً أو لا .

وعلى اختلاف هل الشاعرة غزال كانت تعد من بنات الخمس أم أن أمها فقط، وهذا في الحقيقة لا يغير من الأمر شئ وخاصة أننا نتحدث عن القيم التي حملتها، ولن يضيرها انتمائها من عدمه، مع أن البردوني اثبت في كتابه (رحلة في الشعر اليمني قديـمه وحديثه) ملاحظة في الهامش أن أحد اقاربها أكد له أنها تنتمي لأسرة عريقة، وربما هذا الذي حدا بالمقالح حين الحديث عنها تقرير أن أمها فقط من بنات الخُمس.

وبحسب الكاتب بلال الطيب معنى (أبناء الخمس) أنهم سموا بذلك لأنَّ إعاشتهم لا تتم إلا من خُمس غنائم الحروب التي تخوضها القبائل، وهي الحروب – سواءً كانت هجومية أو دفاعية – التي لا يشاركون فيها. (8) وبمعنى أخر يعتمدون على الصدقات من الطبقات الاجتماعية العليا.

انتماء أم غزال إلى هذه الطبقة جعلها محل احتقار من قبل الفئات الأخرى، ولكنها ماكادت تشب ويتسع وعيها بما حولها من فوارق طبقية واجتماعية حتى انطلقت في شجاعة لتواجه هذه الأمراض الاجتماعية التي تمزق أبناء الوطن الواحد، ولم تحاول أن تدفن موهبتها في الرمال أو تقتدي بغيرها من الشعراء أو غير الشعراء الصامتين عن مهزلة الفوارق، بل صارت تستهجن هذه التقاليد وتشن حرباء شعواء ضد ألوان التفرقة.(9)

قالوا غَزَال وأمها سَرعهْ بناتْ الخُمسْ

ما بِهْ خُمسْ يا عبادَ اللهْ ما بِهْ سُدسْ

من قدْ ترفــــــعْ لَوَا رَاسه وعَدّ البُقشْ

وقالْ لا باسْ كم يحبسْ؟ وما يحتبسْ

سَـــوا سَـــوا يا عِبَادَ اللهْ مِتْساوِيـِـــــةْ

ما احَّدْ وَلَدْ حُرّ والثَّانيْ وَلَدْ جَـــارِيِه

عِيـالْ تسعةْ وقالــوا بعضَنا بيتْ نـاسْ

وبعضنـــا بيتْ ثانــي عيِّنـــهْ ثانيـــهْ

لقد ارتفعت “غَزَال المَقْدَشِيَّة” بـموهبتها الشَّاعرة وتحديها الجريء إلى أعلى مستويات النضال الاجتماعي لأنها قررت مبدأ المساواة، قبل ميلاد الأمم المتحدة – وقوانينها الخاصة بإلغاء التمييز العنصـري وإعلان حقوق الإنسان – فكتبت تلك القصيدة التي أوردتها هنا لتكون لها مفتاح عبور إلى العالم الحر وميدان الشعر على حدٍ سواء، وهذه الابيات التي دائـماً ما يستشهد بها الناس حتى يومنا هذا للتأكيد على مبدأ الإنسانية المتساوية ونبذ الفوارق الاجتماعية.

الشاعرة غزال الذي من المرجح أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة شانها شان النساء في المجتمع الطبقي كما أنها من أدنى الطبقات فيه، لكنها تغلبت على اميتها واحدثت محاولة للتغير الاجتماعي مستخدمة أخطر سلاح للغاية في ذلك العصر ، والذي لم يكن سلاح المال أو جاه القبيلة ، بل الشعر الشعبي وحده، وما صاحبه من جرأة وشجاعة نابعة من ثنايا امرأة متمردة على العادات المتخلفة والتقاليد البالية ، وبهذا صنعت لذاتها مكانة مميزة في أوساط مجتمعها ولازلنا نتداول شعرها باعتزاز حتى اليوم .

yemeni woman by bubsi d1rej83 fullview e1675537205939 الرفض الاجتماعي للطبقية.. الشاعرة غَزَال الـمَقْدَشِيَّة نموذجاً

ولنعرج على بعض اخبار الشاعرة غزال نصيرة المساواة وعدوة الطبقية فقد وصفها البردوني  بقوله “كانت (غَزَال المَقْدَشِيَّة ) طويلة وممتلئة تبدو عليها مظاهر القوة والجمال والصحة، وكانت تُلَقَّب في كل منطقة تسكنها بالحصان، وإلى جانب أن لها جمال المرأة الفاتنة فلها استعداد الرجل المقاتل، فقد عُرِفَ عنها، أنها كانت تحرس حقول أبيها في أشد الليالي خوفاً، وكان والدها يأمن عليها من ذئاب البشر، لثقته بقوتها واقتناع الرجال من مراودتها؛ لأن شهرتها بالصلابة كشهرتها بالجمال، وشهرتها بالشعر كشهرتها بتواضع الطبقة، لهذا طمع فيها ما كان يُسمَّى بالكبار، من شيوخ ومحصلي زكاة وتجار يفدون إلى المنطقة، وإلى جانب امتناعها، كانت تفضح بالشعر من يحاول التعدي عليها، وقد حاول هذا المثمر – المحصل المنكود الحظ – أن يعتدي على غزال أو ينال منها فثارت في وجهه وفضحته بقصيدةٍ ترددت أصداؤها وما تزال تتردد في أرجاء اليمن حتى اليوم :

يا رِجَال البـــــــلد قد المِثَمِّر مُخــــــالِفْ

جا يطـــوفْ الذُّرةْ أو جا يطوفْ المكالف

قال يشتي غَـــزَالْ 

وإلا يزيدْ الغـــــرامهْ

بأضربه في القذالْ

وإلا أربطه بالعمامهْ

لا رجعْ يا رِجَـــال

ماشِي عليَّ مَلامَـــــه (10)

ولعل في الحادثة ووردة فعل الشاعرة جانب أخر مرتبط بنضالها ضد الطبقية وما يترتب عليها من أحكام أو ممارسات ، فلو كانت غزال من الطبقات الاجتماعية العليا ماتجرأ المثمر على مراودتها بل السبب الرئيسي أنها من بنات الخمس التي لا يتورع المجتمع عن مضايقتهم في حياتهم وكسبهم وحتى شرفهم باعتبار أن لا ظهر تحميهم، ومن عادة أبناء هذه الطبقة الاستكانة وتقبل هفوات وانتهاكات الطبقات الأعلى بالصمت على أقل تقدير، لكن غزال ذات الصوت الأقوى تمردت على وسطها الاجتماعي ولم تقبل بانتهاك المثمر، واستخدمت سلاحها الأقوى للرفض والتمرد والتشهير بهذا الرجل الـ(مُخـالِفْ) كما وصفته ، ثم بالتهديد والوعيد له ، وهذه حالة متقدمة من الثورة الاجتماعية بقدر ما تبرز عفة الشاعرة تبرز قدرتها على تجاوز محددات الطبقية الاجتماعية التي ما انزل الله بها من سلطان .

ولأنها قوية الحجة واشعارها جزيلة المعاني فقد أصبحت شاعرة قبيلتها وسارت قصائدها ليتناقلها الناس وفرضت حالة من الاحترام تبينه حادثة مهمة ذكرها الأستاذ/ مطهر علي الإرياني في معجمه، حُكْمَها بين متخاصمين اختصما فيما بينهما، حيث خاطبت قاضي المحكمة واسـمه (أحمد) مستخدمة جزء من شعرها الذي سار مثلاً بين الناس:

يا مَرْحَبا قاضِيَ أحْمَدْ كُرْسِيَ الزّيْدِيِةْ    

قَدْ جِيْتْ سِدِّيْدْ بَيْنَ الشُّمَّخَ العالِيِـهْ

سَوا سَوا يا عِبَادَ اللهْ مِتْساوِيـِـــــــــــةْ 

ما احَّدْ وَلَدْ حُرّ والثَّانيْ وَلَدْ جَارِيِهْ

فقال القاضي أحمد الذي رحَّبت به الشاعرة: لقد حَكَمَتْ غَزَال، وذكَّر الطرفين بأنهما إخوة فعادوا إلى التآخي والوفاق والصلاح (11)

لم يكن الوصول إلى هذه القدرة على التأثير في رجل من علية القوم مجرد أمر عابر إنما نتيجة طبيعية لجهود غزال للحضور في الشأن العام لمجتمعها، وتجاوز عقدة الطبقية الاجتماعية ليس بالأقوال فقط إنما بالأفعال.

ومن طرائف اخبارها أنه حصل بينها وبين الشاعر علي بن صالح الجُمَيزَة – من قبيلة الحَدَاء – مساجلاتٍ شعريةٍ، وهو من الشعراء المنافسين لها، فعجز ذلك الشاعر عن منافستها في ميدان الشعر فلجأ إلى سرقة جملها الملقب (خرصان)، فما كان منها إلاَّ أن أصلته بنار شعرها فاحترق – وتعدُّ هذه الأبيات البالة التاريخية للشاعرة غزال المقدشية ولا تزال تُغنَّى حتى يومنا هذا:

ياللهْ يا مُنصفْ المظلومْ بَكْ نتكِــــــــلْ

لانتهْ مِهِلْ يا إلهَ العرش فَانَا عَجِلْ

انصفتْ لي من علي صالح جُمَيزَهْ قِتِلْ

جعلْ لهْ الصوبْ يُمسي من رسيسها يِزلْ

ما عاد احدْ يُبكي الميِّتْ وقلْ لِهْ بــــحلْ

وبعضَ الأصحابْ، عَيِّنْ صحبتهْ ما تِحِلْ

غَزَالْ قالتْ تعالـــــــــــوا يا وجيهَ القُبِلْ

ادي لكم حكمْ لا ينزِلْ ولا يِنْدِوِلْ

الهيْج به هيْج، والنعجهْ بدلهـــــــا رِخِلْ

حاكبــــر يوم قلتمْ يا غَزَالْ الغزِلْ

مثلت غزال حالة متقدمة من الرفض الاجتماعي للطبقية ومحاربتها في زمن لم تكن هذه الأصوات حاضرة، وتمسّك الكثيرون ممن أتو بعدها بقيم المساواة الاجتماعية لأنها الأصل، وليس من تأكيد لهذا التمسك أكثر من حفظ وتناقل أخبارها واشعارها ، وهذه حالة إيجابية في المجتمع من الحكمة تعزيزها والبناء عليها لنصل للقضاء على كل مظاهر الطبقية المقيتة وأثارها على المستوى الفردي والقومي .

الهوامش:

  1. هو الشاعر حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (188-231هـ / 803-84)
  2. موسوعة ويكيبيديا على الرابط https://ar.m.wikipedia.org/wiki
  3. عبدالله صالح حسن الشحف البردوني شاعر وناقد وأديب ومؤرخ يمني (1929- 1999م)
  4. الدكتور عبدالعزيز صالح المقالح أديب وشاعر وناقد يمني (1937- 2022م)
  5. مجلة الثقافة الشعبية (فصلية علمية محكمة) العدد 43 ، 2018م – دار الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر – الكويت .
  6. عبدالعزيز المقالح ، شعر العامية في اليمن.. دراسة تاريخية ونقدية – ص:401 الطبعة الأولى 1978م – دار العودة – بيروت – لبنان.
  7. عبدالله البردوني – رحلة في الشعر اليمني قديـمه وحديثه ، ص 333: الطبعة الخامسة 1415هـ 1995 م – دار الفكر – دمشق – سوريا.
  8. مقال للكاتب منشور على الرابط : https://www.khaleejinews.net/art2431.html
  9. المقالح ، ص: 401 مرجع سابق .
  10. عبدالله البردوني – رحلة في الشعر اليمني قديـمه وحديثه – ص326 – دار العودة – بيروت – الطبعة الثالثة -1978م
  11. مجلة الثقافة الشعبية – مرجع سابق .
  12. المقالح ، ص: 405 مرجع سابق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى