أشتات

الشيخ الخليلي وإعادة الاعتبار للعلم والإفتاء

منذ وقتٍ طويلٍ وأنا أتابعُ جهود ونشاط الشَّيخ أحمد بن حمد الخليلي، مفتي سلْطَنة عُمَان، وأقول في نفسي: كيف لهذا الرَّجل أن يقول ويصرح ويفتي بكلِّ هذه الحرية والجسارة في الطَّرح، دون أي اعتبارٍ لمكانته الرَّسمية كمفتي للسَّلطنة؟ إذا أخذنا في الأذهان أنَّ كراسي الإفتاء في البلدان العربية أصبحت كراسي مسيسة، مُسخَّرَة لمهازلِ الحكام وأهوائهم وألاعيبهم في خدمةِ كراسيهم، وتسخير الدِّين والدُّنيا والفتوى والعلم والعلماء، في سبيل كرسيِّ الحكم، في أغلبِ الأنظمة العربية ملكية كانت أم جمهورية.

ومنذ فترة أيضًا وأنا أنوي الكتابة عن هذا الرَّجل في حياته لا بعد موته كما هي عادتنا في البكاءِ على أطلالِ الرَّاحلين، وجاءت مقابلته الأخيرة في برنامج “المقابلة” مع الصَّديق العزيز علي الظفيري، لتدفعني أكثر للكتابةِ عن الشَّيخ الخليلي، لنُنْصِفَ الرَّجل في حياته – أطال الله في عمره – لا بعد موته، فجميلٌ أن تكتبَ للشخصِ وعنه, ويقرأ ما كُتِبَ، فذلك هو الحديث الجميل المنصِف، عن الشخص الذي تقرُّ عينه بما يُقالُ عنه في حياته، أمَّا الرثاء بعد الموت فذلك رثاء لا يصله منه شيء، سوى عمله الصَّالح الذي يرافقه في رحلةِ موته تلك.

في المقابلة التي أشرنا إليها آنفًا, ظهرت لنا شخصية الشَّيخ الخليلي الحقيقية، بكلِّ ذلك القدر من التَّواضع والزهد والبساطة والحياء والبشاشة معًا، وزاد حديث الشيخ عن حياته وطفولته، تجلية لسرِّ شخصيته تلك، كرجلٍ عصامي، عاشَ حياة كفاح كغيره من النَّاس الذين تصنعُ منهم حياة الكفاح شخصيات فارقة وفريدة عن سواها، الكفاح ومواجهة الصعاب والشدائد، بعقلية المراقب والمتأمل لكل هذه الأحوال والتحولات في المجتمعات.

لعبت طفولة الشيخ التي قضاها في “زنجبار” دورًا كبيرًا، فقد فتحت للشيخ منافذ الوعي والتأمل واسعًا، وجعلته يبصر الحياة من خلال نوافذ الزَّمان والأحداث الجسام، وليس فقط من نافذة بطونِ الكتب وحواشي الشرَّاح لها، ولا شكَّ أنَّ مثل هذه الأحداث التي عاشها الشيخُ طفلًا، ورحلته الطويلة بعد ذلك، من زنجبار وصولًا حتى بهلة عُمان، كلها قد أكسبت الشيخ تجربة علمية وسياسية ثرية رفدته بجدلية الأفكار وأدوارها في صراع المجتمعات وتحولاتها.

لن أتوقف هنا، عند أحداث زنجبار الدَّامية في ستينات القرن الماضي، التي تعرَّضَ لها العنصر العربي هناك؛ بفعلِ المؤامرة الغربية ضد الوجود العربي على سواحلِ شرق أفريقيا حينها وتورط اليسار فيها ، فتلك حكايات وأحاديث ليس مكانها هنا، لكني سأتوقف عند سؤالٍ ملح: كيف رفدت تلك الأحداث شخصية الشيخ الخليلي بقدرٍ كبيرٍ من الوعيِّ السِّياسيِّ والمعرفي؟ ذلك الوعي الذي دفعَ الشيخ الخليلي للانفتاح على كلِّ الأفكار والتيارات والمذاهب الإسلامية وغيرها، فاندفع يقرأ كل ما يمرُّ عليه من كتب ومتون تلك المذاهب، فتشكلت شخصيته بكل ذلك الاتساع في الأفق وعمق الرؤى وصلابة المواقف تجاه كل ما يتعلق ليس فقط بالشأن العُماني، بل بكل ما يتعلق برؤيةِ الشيخ الخليلي لمفهوم الأمَّة الإسلامية برمتها.

قد يعترض بعضهم، ويقول: إنَّ الشيخ الخليلي، ليسَ أكثر من مجرد لاعب أدوار في بلاطِ السَّلطنة، التي تتعارض كثير من سياساتها مع مواقف الشيخ المُعْلنة فيما يتعلق بفلسطين والتَّطبيع مع الكيان الصهوني، مثلًا, أو موقف السَّلطنة المهادن للمشروع الإيراني وتمدداته في المنطقة العربية من بغداد مرورًا بدمشق وبيروت وصولًا إلى صنعاء اليمن، وكثير كثير من السِّياسات التي تقفُ فيها السلطنة موقفًا رماديًا  – أحيانًا –  فيما يتعلقُ بقضايا المنطقة كلها.

لكني هنا لا أجدني أتفق مطلقًا مع هذا القول، بخصوص مواقف الشيخ الفاضلة والشَّجاعة، فالشيخ لا يحاول أن يعلب دورًا ما بقدر ما يعبر عن قناعاته الخاصة دون أي تردد و بلا رتوش، ودون أي اعتبار للموقع الرَّسمي الذي يشغله في السَّلطنة كمفتي،  وما يؤكد هذا هو هذا القدر من النُّضج والصراحة ووضوح الرؤيا للعلاقة القائمة بين التيارات والمذاهب الإسلامية كلها، وهذه لا تتأتى من خلال الرؤيا السياسية فحسب، وإنما يتأتى عن وعيٍ كبير و عميق و عظيم بأسس المعرفة الدينية  وتجلياتها السلوكية و الأخلاقية، وذلك ما تجسده شخصية الشيخ فعلًا وقولًا.

وجزء مهم من عظمة الشَّيخ الخليلي، هو ذلك القدر من التَّواضع الذي يعكس سلوكًا صوفيًا نابعًا من التزام سلوكي عميق لا تناقض فيه بين المعرفة والسُّلوك، كما هو حال الكثيرين اليوم، وخاصة ممن يتصدرونَ الفتوى والمعرفة، الذين يعيشون شخصيتيْن متناقضتيْن في آنٍ معًا، شخصية المفتي كوظيفة وشخصيته الأخرى كإنسان خاضع لكلِّ تقلبات السِّياسة ومواسمها المتقلَّبة.

نظرة سريعة لمشهدِ المؤسسات الإفتائية العربية والإسلامية حول العالم، تجد فيها هذا النموذج المتناقض من الشخصيات، إلا من رحِمَ الله، فكثير ممن يتصدرون مؤسسة الإفتاء الرسمية، تجد بعضهم شخصيات قليلة العلم وضحلة الثقافة وضعيف الحضور العام، ويُنظَر لهذا العمل في كرسيِّ الإفتاء مجرد وظيفة تابعة للسُّلطة، وهي التي توجه خطاب هذا الكرسي وتحدده وأنه مجرد موظَّف مهمته تذييل فتوى السلطة باسمه وتوقيعه فحسب، وهو ليسَ له – غالبًا – رأي ولا موقف، مستبطنًا و ممارسًا مسارًا علمانيًا واضحًا في الفصلِ بين الدِّين والدُّنيا وإن لم يقصد ذلك.

من هنا، أعتقد أنَّ الشيخ الخليلي، أعاد الاعتبار لهذه الكرسي، ولم يأسر نفسه وحضوره بمجرد وظيفة المفتي فقط، بل هو قبل كل ذلك شخصية اعتبارية يستمد وجوده وحضوره من وعيه العميق كإنسان ومثقف قبل أن يكون مفتي، ويستمد وجوده كمسلم ضمن إطار هذه الأمة الإسلامية الواسعة الانتشار، التي لا يمكن تقزيمها وتقسيمها إلى مذاهب وتيارات مسيسَة تزيد الأمة ضعفًا وانقسامًا وترهلًا وضياعًا وصراعًا.

فالشيخ الخليلي، لم تقيده إباضيته، في حدود المذهب وتخومه، وإنما كان وعيه أكبر من حدود المذهب، وعي يتسع لكل التيارات والمذاهب، ويتجاوزها للإسلام الواسع والكبير، وهذا هو سر الشيخ وسبب حضوره الوازن في المشهد الإسلامي العام اليوم كرمز من رموز العالم الإسلامي بمختلف مذاهبه وطوائفه، التي مزقت أهواء زعمائها العالم الإسلامي، وحولت التعددية المذهبية فيه من منحة وميزة إلى محنة ينفذ من خلالها الأغراب لضرب وحدته ونسيجه الاجتماعي ويعيثون فيه فسادًا وتقتيلًا.

لأجل كل ذلك، اندفعت لكتابة هذا المقال الموجز، إنصافًا لهذا الشيخ الجليل والشجاع المتصوف، الممتلئ بكل هذا الوعي الكبير لحقيقة الدين والتدين والمذهبية وصراعات هذه اللحظة وتحولاتها الكونية، من حداثة وما بعدها وشظايها التي تضْربُ الاجتماع البشري اليوم بكثير من الأفكار البائسه والمدمرة، التي قد تقود البشرية جمعًا إلى الانهيار، ما لم يستيقظ تيار إعادة الاعتبار للدين والدنيا معًا، فتحية للشيخ الخليلي، رمزًا للاعتدال والوسطية والعلم والتَّواضع والإنصاف والشجاعة، والذي يمثل بهذه الصفات مدرسة إسلامية مستقلة بذاتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى