قضت سيرورة الإنسان إلى تشكل المجتمعات، والجماعات، على شكلها الحالي، والبدائي، كمرجعٍ لتشكّلها الأولي. المجتمعات الحضاريَّة النَّاجزة مرد نشأة بدائية بدوية، احتطبت الحياة؛ وأول ما احتطبت مشاقها، حتى آضت في ترسلها إلى القُنّة التي هي عليها اليوم، وفي أعطاف ترسلها وتدرجها كانت الأسرة كنواةٍ حرجة، تناسل عنها المجتمع في تلاوينه المختلفة، والجماعات الحصرية، في اختلافاتها المتباينة. ولأن حديثنا متسربلًا في ثيابِ الجماعات، لا في سرادق المجتمعات، أو ماهيَّة الأسرة ووظائفها، كان لابد من مقدمة أولى، نعرف من خلالها الجماعة من منظورٍ سيكولوجي، ثمَّ ندلف إلى تبيان خصائصها، وأنواعها، ومبادئ التصنيف، إذ أرى نوع تغييب لهذا الحقل وتداخله بالسيكولوجيا، على الرغم من أهمية ذلك. هذه الأهمية لا تقتصر على ما نرغب الكتابة عنه فحسب، بل في عموم الحقل الإنساني، لما يتداخل ذلك من ترابطية، وأوشاج لازمة. ثم نتطوف وإياكم مع مقاربات بناء وتكون الجماعات.
يذهب روجر موشيلي Roger Mucchielli في تعريفه للجماعة بأنها: “وحدة اجتماعية، تشمل فردين أو أكثر، يتشاركون في الأهداف والصفات” المايز في هذا التعريف من وجهة نظرنا، هو ذلك التشابك بين الأهداف والصفات، وكأنَّ صفات الجماعة تضاهي أهدافها، والعكس، في نسقٍ واحدٍ متحد. بينما يذهب نيكولاس فيشر Nicolas fischer ، في تعريف الجماعة بقوله: “هي مجموعة اجتماعية، محددة الهوية، ومهيكلة، مكونة من مجموعة من الأفراد، تجمعهم روابط متبادلة، يلعبون أدوارًا حسب القواعد المتبعة، لهم قيم مشتركة، من أجل استمرارية تحقيق أهدافهم”. نجدنا أمام تعريفا أشمل من تعريف روجر، ينص على عوامل الهويَّة، ومفاعيلها في الجماعات، من هيكلةٍ، ومناطاتٍ تبادلية، ولعب أدوارًا، خاضعة لقواعد مرسومة سلفًا، مع قيم جامعة، غرض الغاية، أو الغايات المنشودة. ينتقل بنا ماكس فيبر Max Wiber خطوة للأمام في تعريفه، ليجانف من أسلفنا، ويتفق معهم في جزئية أخرى: “نسق من العلاقات الاجتماعية، يترابط فيه الفرد بوحدة الإحساس والشعور العاطفي، وبوحدة المصالح، ويشتركون في ثقافة معينة، تحدد أدوارهم الاجتماعية، والمسؤوليات التي تميز أعضاءها عن غيرهم”. وقف بنا فيبر على الترابطات الحسية، والعاطفية، أو بمعنى آخر: النفسية. ودورها في تحقيق المصالح للجماعة، وللفرد، مع توافقية ثقافية، لا توفيقية، تروز كل واحدٍ منهم بمسؤوليات وأدوار، مع التمييز بينهم وبين الآخر. هذا التمييز يترتب عليه منافع العلاقة الواحدة، والهدف الواحد، حتى وإن قام : الآخر، أو الغير بتعبير فيبر، بتحقيق الهدف الذي ترغب فيه الجماعة، سيظل الهدف منقوصًا في نظر الجماعة بالمقارنة إلى أعضائها، أو أحد أعضاءها، وما يترتب على ذلك من منافع.
يرى جان مايسونوف Jean Maisoonneuve في كتابه دينامية الجماعات، أنَّ: “الجماعات وحدة اجتماعية، تتكون من ثلاثة أشخاص فأكثر، يتم بينهم تفاعل اجتماعي، وعلاقات اجتماعية، وتأثير انفعالي، ونشاط متبادل، على أساسه تتحدد الأدوار، والمكانة الاجتماعية لأفراد الجماعة، وفق معايير وقيم الجماعة، وإشباعا لحاجيات أفرادها، ورغباتهم، سعيا لتحقيق أهداف الجماعة دائمًا”.
ثمة ناظم ينظم التعريفات التي ذهب إليها الباحثين، يكمن ذلك الناظم في :الأهداف، التي هي الخط الرئيس للجماعات. مع تباينات استقرائية، تبتعد عن بعضها في التعريف، لتتحد في ماهية الجماعة، نفسًا، وحسًّا، ومصالح.
يمكن تلخيص الخصائص في النقاط التالية:
1- مجموعة من الأفراد.
2- علاقات تبادلية.
3- استثمارات جماعية فردية: أهداف وحاجيات.
4- مراكز، أدوار: مكانة اجتماعية.
5- انفعالات، وجدانات، مشاعر، صراعات وتوترات.
تتسع دائرة الصفات عن دائرة الخصائص، لكونها الحامل لها، المفرِغ عنها، وذلك في النقاط التالية:
1- عدد أفرادها لا يقل عن ثلاثة.
2- وحدة الأهداف، والغايات، والمقاصد.
3- وجود ترابط وتماسك داخلي بين أفرادها.
4- تهيئ لأفرادها فرص النمو والتطور، وإشباع الحاجات، والنضج في سبيل الأهداف.
5- تتعرض للتوترات، والصراعات، والازمات.
6- تخضع لقيادة تحدد منطق التبادلات، وتحرص على تنفيذ المهام، وتحقيق الأهداف.
7- تحدد مراكز أفرادها، ومكانتهم، وأدوارهم، وتنظم التبادلات، والتفاعلات فيما بينهم.
8- تتميز بخصائص وجدانية، وعاطفية، ومشاعر بين أفرادها.
في فرزه لخصائص الجماعة، يرى موشيلي Muccheilli بأن وجود الأهداف المشتركة، ينبني عليها تبني جماعي للمعايير وقواعد للتصرف، كتمظهر منطق خاص للتفاعل، وبروز بنية غير مستقرة لنظام العواطف والتقبل والرفض، مع وجود منطق نمطي/ دائري لتبادل المعارف، والخبرات، والتجارب، فضلا عن مشاعر وانفعالات جماعية مشتركة، وفي ذات اللحظة وجود لا شعور جماعي داخل الجماعة.
ثمة تباينات في التصنيف، بين الجماعات الصغيرة، والجماعات المتوسطة، والجماعات الكبرى، مع تشاركية في بعض النقاط.
1- أفرادها قليلون.
2- لها استمرارية زمنية محددة.
3- أهدافها قريبة المدى.
4- قد تتكون بطريقة مقصودة، أو غير مقصودة.
5- لها دينامية داخلية متغيرة غير محدودة.
مثالها: الروابط الخيرية.
1- عدد أفرادها متوسط.
2- لا يعرف أفرادها بعضهم بعضا.
3- يشترك أفرادها في نفس الهدف.
4- تتكون هذه الجماعات بقصدية.
مثالها : النقابات، والأحزاب.
1- عدد أفرادها كبير.
2- أفرادها لا يعرفون بعضهم بعضًا.
3- قد تكون لهم أهداف محددة/ وقد لا تكون لهم أهداف.
4- يشترك أفرادها في نفس المشاعر والقيم والوجدانات المشتركة.
مثالها : التجمع/الحشد.
في الجدول أعلاه، نوع نمذجة للجماعة، أصنافها، وأنواعها، وأمثلتها، لتقريب الصورة عن الجماعة في أطرها التفاعلية الشاملة.
تخضع الجماعة لمنطق زماني/ مكاني والحياة التي تخوضها، يتشكل المنطق الزماني في ولادة الجماعة، ثم تشكل التكوين، أكان تشكلا تلقائيا، أو غير تلقائي، مؤسساتي رسمي، أو غير مؤسساتي، كذلك زمن التأسيس، وزمن التطور، ونوع الأزمات التي تواجهها، وزمن تفكيكها. كما تخضع للمنطق السياقي/مكاني، كسياق الولادة، من تكَوّنٍ، وتشكُّل للجماعة، وسياق تلقائي، كمكانٍ افتراضي، أو سياق مؤسساتي نظامي، أو سياق ثابت، أو سياق متغير. يتمخض عن حياة الجماعة مرجعيات التشكل والتكون، والأبعاد الدينامية لتموقع الأفراد، ومكانتهم، ومواقعهم، وأدوارهم، ومهامهم، ومنطق تدبير وصيانة العلاقات التفاعلية، وكذلك طبيعة النمو، والتطور، وتدبير الأزمات.
يمتاز المنطق الدينامي للجماعة بمنطق التَّأسيس، والتَّشكل، والنَّمو، والتَّطور، وذلك بتشكيلِ وبناء القواعد/القوانين والأعراف، والقيم، ومحددات صيانة كيان الجماعة. منطق السلطة/القيادة، وتوزيع المراكز والأدوار، وتحديد طبيعة التبادلات، والتفاعلات، لتحقيق الأهداف. منطق تدبير العلاقات، والتوترات، والصراعات، والأزمات، وتحديد إمكانات الاستمرار والتفكك. (1)
رائع جدا