أشتات

المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج2)

عرجنا في الجزءِ الأول من هذه السِّلسلة المقالية عن ماهيَّة الجماعة، تعريفًا، وخصائصَ، وصفات، وقد لاحَ جليًّا مدى التَّباينات ما بينَ جماعةٍ وأخرى، وما يتضمَّنُ ذلكَ من أهدافٍ تتسقُ مع هذه الجماعة، ولا تتسق مع غيرها، لفواعل داخلية، ومناطاتٍ توافقية. إنَّ بناء وتكون الجماعات في تداخلٍ عالٍ وما ترنو إليه في مجموعها، ما يتطلب إذابة جليد الذَّات الواحدة في ذاتٍ كبرى جامعة لكلِّ تلكم الذَّوات، كيما يتسنى صناعة الرَّأي من جديد، واختبار المواقف بالتَّحديد، ولكن ليس من المنظور الفرداني هذه المرة، وإنما من المنظور الجمعي، في إعادة هيكلة لأشتات مختلفة من الرؤى، يوحّدها قالب الجماعة. يراود الفرد لون اعتقادٍ أن ما يُفرِغ عنه هو عين ما تفرِغ عنه تلك المجموعة من الأفراد، مستشعرًا قابلية تمنحه الرضا عن نفسه، وعن الأشتات المتبوتقة في قالبها الواحد.

*رؤية ديديه أنزيو Didier Anzieu.[1]

يحوصل أنزيو بناء وتكون الجماعة في عبارةٍ مكثّفة جدًّا؛ بقوله: “تكوين الجماعات يخضع للمنطق الذي يحكم تكوينها وتطوّرها”. إذًا المنطق هو قطب رحى الجماعة، في تكوّنها، وتطوّرها. هو الهادي والحادي إلى بلاد الأهداف، ومراد المصالح المشتركة. المنطق هنا مرد خلفية ثقافية، تتقاطع ومشتركات أفراد الجماعة. هذه الخلفية تُتَرجم عن طريق الكلمات، في تكاملٍ يعاكس؛ أو يحاول أن يعاكس حقيقة القصور البشري، لينشُد الكمال أو ما يتاخم الكمال، كحاجةٍ بشريةٍ، دافعها ضعفها الفرداني، إزاء تحاميها؛ بل قوتها في الجماعة.

يذهب أنزيو في تحديد العدد وما ينتج عنه من تكون الجماعة سواء أكانت أولية، أو ثانوية، إلى التفريق والتحديد في آنٍ واحد؛ بين التشكّلات العددية التالية:

1-الفريق/جماعة، من حجمٍ عددي لا يتجاوز ثلاثة أشخاص، ويمكن أن تحقق له شروط قابلية للاستدامة.

2-من ثلاثة إلى خمسة أفراد: نتكلم هنا عن جماعة صغيرة، غير مهيكلة عمومًا. أنشطتها غالبًا تلقائية وغير نظامية(جماعة المناظرة). 

3- أفراد في جمعية/اجتماع: من ستة إلى ثلاثة عشر فردًا، يمثلون جماعة صغرى، بيد أنَّ لها أهدافًا تمكِّن المشاركين فيها من علاقات معلنة، وإدراكات متبادلة. 

4-من أربعة عشر إلى أربعة وعشرين فردًا: جماعة ممتدة (لجان عمل، فرق بيداغوجية)؛ جماعات صعبة القيادة. لها ميولات نحو الانشطار والانقسام. 

5-من خمسة وعشرين إلى خمسين فردًا: جماعة عريضة واسعة، غالبًا ما تهدف إلى إرسال وتبادل المعارف  (لجان البرلمان). 

6-الجماعة المكوّنة من أكثر من خمسين فردًا،  تُشكِّل تجمعًا يقتضي بنية دائمة، ونظامًا داخليًّا.

الجماعات الأولية، أو الصغرى، من منظور أنزيو:

•البَنيَنة، أو درجة التَّنظيم تكون عالية. 

•زمن الوجود: من ثلاثة أيام إلى عشر سنوات، إلى أكثر، أو زمن مفتوح. 

•عدد أفرادها قليل. 

•العلاقات بين الأفراد جد غنية. 

•درجة التأثير على المعتقدات والقواعد: قوي، ويميل إلى التغيير. 

•الوعي بالأهداف قوي. 

•الممارسات المشتركة مهمة ومجددة.

نلاحظ في الجماعات الأولية إيجابية عالية، وثمرة نضيجة متدلّية، وذلك عائدٌ إلى الآراء القليلة بالنسبة لعدد أفرادها، ما يُمثل توافق مسبق؛ أو يوحي إلى ذلك، نظرًا لانبنائه على أساس الثقة، مع قابلية للتعامل البنّاء، وتبادل الأفكار في منادح واسعة من القبول. هذه الإيجابية ترافقها سلبية -على فرض التحقق- وزمن الوجود ابتداءً، إذ قد يقتصر زمنها على ثلاثة أيام، وهذا لا يحدث إلا لإشكالٍ مبدئي وقوة الوعي بالأهداف، حتى إذا ما تجاوزت عتبة الأيام الأولى، استوت الجماعة على سوق الكلمة، وخصوبة الأهداف، وفي قلبها غناء العلاقات، وودية التبادلات، وتأثير التراكمات المشتركة.

الجماعات الثانوية، أو التنظيم/ المنظمة. 

•درجة البَنْيَنَة والتنظيم الداخلي وتمييز الأدوار مرتفع. 

•زمن الوجود: عدة أشهر إلى عشرات السنين. •عدد الأفراد: متوسط إلى كبير. 

•تأثير المعتقدات والقواعد يتم عبر استقرائها عن طريق الضغط. 

•الوعي بالأهداف: ضعيف إلى مرتفع. 

•الأنشطة المشتركة: مهمة، مخططة، ومبرمجة، ودائمة.

ما يميز الجماعات الثانوية عن الأولية، هو عين ما يؤثر عليها سلبًا، فعدد الأفراد في الثانوية متوسط إلى كبير، وهذا يؤثر إيجابًا مبدئيًّا وزمن الوجود الذي يربو على أكثر من عدة أشهر، ولكن هذا المؤثر الإيجابي سرعان ما يعود ليؤثر سلبًا على الجماعة الثانوية، وذلك عن طريق الوعي بالأهداف، فبقدر ما هو مرتفعٌ عند بعض أفراد الجماعة، بقدر ما هو ضعيفٌ عند آخرين، وهذا عكس ما يحدث في الجماعات الأولية، فالوعي بين أفرادها قوي في مجموعة. المايز الآخر زمن الوجود النَّهائي في الجماعات الثانوية متماديًا، وفي هذا روافد أعداد منتسبيها. تتلبس الجماعة شخوص منتسبيها، لتستحيل جزء لا يتجزأ من شخوصهم، بل من حياتهم، حتى لا يكاد يُعرَف أو يُعرَّف أحدهم أو بعضهم إلا بالإشارة إلى الجماعة التي ينتمون إليها، كنوع ولاء مطلق،  يقتضي حاجيات، ومصالح نفسية خفية أو ظاهرة. بينما يقف زمن وجود الجماعات الأولية إلى عشر سنوات، مع احتمالات مفتوحة، وفي هذا ما يشف عن مشروعٍ أو مشاريع لا تتصل بجوانب مقدَّسة، أو تحمل طوابع تقديس، على أنَّ الجماعات الثَّانوية قد لا تصير إلى ذلك بالضرورة.

العصابة. 

•لها تنظيم داخلي ضعيف. 

•زمن الوجود قليل الاستدامة. 

•أفرادها قليلون. 

•منطق العلاقات: البحث عن الشبيه. 

•تعتمد القواعد لتقوية الجماعة. 

•الوعي بالأهداف متوسط. 

•الأفعال المشتركة تلقائية.

من المهم إدراك البعد التنظيمي والأدوار وزمن الوجود في العصابة، بيد أن الأهم هو منطق العلاقة، لكونه المحدد لما عداه من أبعاد. منطق العلاقة في العصابة هو البحثُ عن الشبيه، عمن يتواءم والمنطق المحقق للأهداف، لا عن الأهداف أولًا، ولا عن التنظيم ثانيًّا، ولا عن كثرة الأفراد ثالثًا، ولا عن زمن الوجود رابعًا. هذا العامل الخطير: البحث عن الشبيه. هو البذرة الأولى والأهم التي تخلق الغابة.

التجمع. 

•النظام الداخلي متوسط. 

•زمن الوجود: بضع أسابيع/شهور. 

•عدد الأفراد متوسط إلى كبير. 

•العلاقات بين الأفراد سطحية. •تأثير القواعد من أجل البقاء. 

•الوعي بالأهداف ضعيف إلى متوسط. 

•الأفعال المشتركة: المقاربة السلبية، أو أنشطة محدودة.

لا ينبني التجمع عن منطقٍ قوي يهدف إلى تماسك العلاقات بين أفراده، ولكن التجمع في ذاته هادف والغاية التي اختطها، على الأقل بالنسبة للفكرة التي نجدها في ثنايا تقسيماته الداخلية، بالمقارنة إلى العصابة، والفكرة القائمة: على الشبيه، وما يتولد عنها من محدداتٍ تالية عليها، لا سابقة لها.

ثمة ظواهر وسمات مشتركة لدى أنواع الجماعات، من تلك الظواهر؛ بروز/تبلور/اختيار القيادات، والتحديد الهوياتي للأفراد فيما بينهم، بالإضافة إلى المنطق السياقي والتنظيمي، وكذلك الانتماء اللاشعوري إلى التمثلات الاجتماعية المخيالية، فضلًا عن ظاهرة الصراعات، ونظريات اتخاذ القرار. تتداخل هذه الظواهر وسمات العصابات، والجماعات الصغرى، كما تتمثل في الجماعات الثانوية أو المنظمات، وكذلك التجمع، بقطع النظر عن أهدافه.

•المدارس/المقاربات العلمية؛ التي اشتغلت على ظاهرة الجماعات.

ستة مدارس حاولت الاشتغال على ظواهر الجماعات.

مقاربة دينامية الجماعات مع كورت لوين. Kunt lewin. 

•المقاربة السوسيومترية مع مورينوMoreno. 

• المقاربات المعرفية Coquitiviste. 

•المقاربات النقدية التجريبية مع Mosocovicci. 

•المقاربات التحليلية النفسية، فرويد/ كلاين/ ايشبورن/وبيون. 

•المقاربات اللاتوجيهية مع روجرز K.Rogers.

سنتناول في الجزء الثالث بعض هذه المدارس، والآراء التي بثتها حيال ماهية التكون والتطور للجماعة، من منطلق علم دينامية الجماعات، وتحليل الجماعة.

الهوامش:

  1. ديدييه أنزيو ( بالفرنسية:  [ɑ̃zjø] ؛ 8 يوليو 1923 – 25 نوفمبر 1999) كان محللًا نفسيًا فرنسيًا متميزًا.
  2. للاستزادة الرجوع إلى محاضرات أ.د حميد بودار.(قضايا سيكولوجية) أكاديمية نماء للعلوم الإسلامية والإنسانية https://www.namaeacademy.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى