تتخلق القيادة في روح الأحداث، أو من روحها، في تدافعٍ داخليٍّ يعاند لحظات الهبوط ويصبو إلى الإقلاع، رافضًا القيادة الفوضوية، مندفعًا نحو الواحد، هذا الواحد الذي من خلاله ترى الجماعة نفسها، ويرى الأفراد ذواتهم وتطلعاتهم. هذه الاندفاعية لا تنفي نموذج القيادة الفوضوية، بل هو نمطٌ ثانٍ من ثلاثة أنماط للقيادة -سنأتي عليها في الجزء الخامس- ما يترتب على الجماعة خلق نموذجيها الأخروين، والتخطيط مسبقًا وهذا الواحد، كيما يُنصَّب ويدير دفة الرؤوس المجتمعة في رواق الفكرة والكلمة في آن، وإن تَخفَّى في بعض الجماعات ولم يُبِن عن نفسه لأسبابٍ وأسباب، إلا أنَّ الإنسان بما هو إنسان تُنازِعهُ الفرادة في غيره أكثر ما يجد هذا التنازع في ذاته ولأجلها، محتسبًا فوارق عدة بين ذلك الواحد العَلَم، وبين هذا الواحد الذَّاتي الذي لا يستطيع أن يكونه، فيبحث عمّن يَشرُف بتبعيته، ولمن يرى ذاته التي لم تكن؛ في ذلك الكائن المتفرد.
ثمة تعريفات للقيادة من منظور علم دينامية الجماعات، من أبرزها تعريف بين (1)Benne وشتس (2)sheats إذ نصا على أن القيادة هي : “عبارة عن دور اجتماعي يقوم به فرد أثناء تفاعله مع غيره من أفراد الجماعة، ويتسم هذا الدور بأن ما يقوم به يكون له من القوة والقدرة على التأثير في الآخرين، وتوجيه سلوكهم في سبيل بلوغ هدف الجماعة” (3). كما ذهب كل من كوهين(4) cohen وبراون(5) Browne ولامبرت(6) Lambert في تعريفهم للقيادة بأنها: “سلوك يقوم به القائد للمساعدة على بلوغ أهداف الجماعة، وتحريكها نحو الأهداف، وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الأعضاء والحفاظ على تماسك الجماعة وتسيير مواردها”(7). هناك تعريفات أخرى للقيادة من منظور علماء وباحثين آخرين، وقد قصرنا ما رأيناه ملائمًا وأقرب إلى تكثيف المعنى المراد وماهية القيادة.
نجد في التعريف الأول مفهوم الدور، مع أفراد الجماعة، ونجد في التعريف الثاني مفهوم السلوك. يتمخّض عن الدور سلوكًا بالضرورة، يهدف إلى تحقيق الأهداف، والتأثير في الجماعة كمكون جماعاتي، وتأثيرًا فردانيًا يتفاوت وقعه مِن فردٍ إلى آخر، حتى تستحيل القيادة مثابة مهابة بين أفرادها. يفعل الدور في نطاقٍ أوسع، فكما أنه يتضمن سلوك القيادة كما ألمعنا، إلا أنه يعمل على ضبط إيقاع سلوكها أيضًا، ساعيًا في تخليق سلوكٍ واحدٍ منضبط، غرض توليد شخصيات منمّطة، تنُمّ عن شخصية الجماعة في سَمتِها العام، المنبثق عن درس التكوين الخاص.
*تبلورت ثلاث نظريات عن التحليل النفسي الاجتماعي للقائد/القيادة. اهتمت كل نظرية بجانبٍ معينٍ، لتتكامل جوانب القائد/القيادة في الثلاث النظريات، وهي :
نظرية السمات.
النظرية الوظيفية.
النظرية الدينامية التفاعلية.
نظرية السمات
ثلاث محددات للقيادة في نظرية السمات، وهي:
•السمات التي يتمتع بها.
•خصائص القائد. تتمثل في كلٍ من الجسمية، والعقلية، والانفعالية، والاجتماعية.
ترتكز نظرية السمات على ثلاث ركائز جوهرية، هي:
•السمات السيكو معرفية.
•السمات الوجدانية.
•السمات الاجتماعية.
تحتقب السمات السيكو معرفية في طياتها التناسب في معامل الذكاء، فليس من الجيد ارتفاع ذكاء القائد إزاء انخفاض ذكاء المكوّن الفردي للجماعة، والعكس صحيح، ولذا كان الأنسب؛ التناسب بين ذكاء القائد والمقود، حتى تترابط محاسن الإرسال بروابط محاسن الاستقبال. كذلك الخبرات المتراكمة التي يشتمل عليها القائد، كالحكمة في اتخاذ القرارات، وإنتاج الأحكام في صورةٍ توافقية، بالإضافة إلى النضج في تدبير وضعيات التوتر البين-فردي. تتلخص السمات الوجدانية للقائد، في القدرة على الثبات الانفعالي، فلا يكون شططًا في قوله، أو فعله، ولا ينود في رياح المواقف وأعاصيرها، وإنما يكون أكثر ثباتًا وتثبّتًا في آن، كما يسعى إلى تثبيت أفراد الجماعة، وحثهم على ضبط النفس، ولن يصير إلى ذلك حتى يكون واثقًا من نفسه، قادرًا على ضبطها وإثنائها. أستذكر هنا على سبيل الاستئناس ما قاله الشيخ المودودي(8)حين أُطلق عليه الرصاص، إذ قيل له : اجلس. فرد عليهم بقوله : إن جلست أنا فمن يقوم(9)!
الركيزة الثالثة في نظريات السمات الواجبة في القائد، السمات الاجتماعية، كالانفتاح واحتضان أفراد الجماعة، وكسب مشاعرهم، والميل للمشاركة والإسهام في النشاط الاجتماعي، وتحفيز الروح المعنوية لدى أفرادها.
النظرية الوظيفية
تتمثل محددات القيادة في النظرية الوظيفية في القيام بالوظائف الاجتماعية، التي تساعد الجماعة على تحقيق أهدافها، إما وظائف موسعة، وإما وظائف منحصرة بدرجات ضيقة في شخص واحد. بالنظر إلى الجماعات الواقعية، فإن القائد الفرد ذو وظائف واسعة. وظائفه (المنحصرة) تنم عن وظائفه الكلية أو شبه الكلية، بما أنه المركز، والمرجعية النهائية، بينما تتعدد الوظائف المنحصرة، في القيادة، أكثر منها في القائد. القيادة التي نرمي إليها ثلة تدير دفة الجماعة، لكل واحدٍ منهم وظيفة، أو وظائف محددة.
وظائف القائد في الجماعة في النظرية الوظيفية، لها جوانب متعددة، من ذلك:
•التخطيط للأهداف القريبة والبعيدة المدى.
•وضع السياسات والاستراتيجيات التنفيذية.
•تفعيل الخبرات العلمية والفنية والإدارية، وجعلها في خدمة أهداف الجماعة.
•الإدارة لتنفيذ العمليات والمهام.
•الحكم والوساطة في الصراعات البين-فردية داخل الجماعة، متخذًا في ذلك صورة : الأب.
النظرية الدينامية التفاعلية
تقوم النَّظرية الدينامية التفاعلية على مبدأ التفاعلات الدينامية، بين المتغيرات، والمكونات الرئيسية المشكلة كبنية الجماعة، بحسب منطق تكونها، وبنائها، وهويتها، وسياقاتها، ونموها، وتطورها.
تتمحور أبعاد الدينامية التفاعلية للقائد، في المركز والأدوار التي يقوم بها، وفي الشخصية النخبوية ذات الكفايات وهذا المركز الذي يشغله، ومدى خبراته، وجودة أفكاره، فضلًا عن الأيديولوجية، والمعتقد، والمواقف، كمعالم كاشفة توحي عن ممارسات، وسياقات آتية، كما يلتمس من ممارساته، وسياقاته المهنية السابقة، أو أي وضعيات أخرى، دينامية تفاعلية كامنة، تُبين عن أغطيتها في مرحلة القيادة الآتية. ومن ثم علاقات القائد بأفراد الجماعة، وأدوارهم المناطة بهم، وكفاياتهم، والتوفر على حاجياتهم، وحل مشاكلهم، والنظر إلى ممارساتهم للمهام، بحسب السياقات والوضعيات. تأتي علاقة القائد بالجماعة في شمولها، من حيث نوعها- تحدثنا عن أنواع الجماعات في الأجزاء الثلاثة السابقة- وماهية الهوية الجامعة، والقواعد والمعايير التي تلوذ بها، وتنتمي إليها، والأهداف التي تصبوا لتحقيقها.(10)
الهوامش:
- دان بيني (1902-1997) عالم اجتماع أمريكي، وأستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلفًا للعديد من الكتب والمقالات حول القيادة والتنظيمات.
- ألفريد شتس (1902-1983) عالم نفساني أمريكي، وأستاذًا في جامعة ييل، ومؤلفًا للعديد من الكتب والمقالات حول القيادة والسلوك التنظيمي.
- عمل بيني وشتس معًا في جامعة هارفارد في الخمسينيات من القرن الماضي. في عام 1953تحديدًا، ونشرا كتابًا بعنوان: القيادة: نظرية وممارسة. في هذا الكتاب، قدما تعريفًا للقيادة هو أحد أكثر التعريفات شيوعًا وقبولًا.
- جيريمي كوهين 1964. أستاذ إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف للعديد من الكتب والمقالات حول القيادة، بما في ذلك “القيادة الأخلاقية: نظرية وممارسة” (2007).
- ستيفن براون (1944-2022) عالم اجتماع أمريكي، وأستاذ في علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. كان مساهمًا رئيسيًا في مجال القيادة، وطور نموذجًا للقيادة يركز على الرؤية والمهارات والعلاقات.
- مارك لامبرت 1962.أستاذ إدارة الأعمال في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. مؤلف للعديد من الكتب والمقالات حول القيادة.
- كتاب: القيادة الناجحة: نموذج براون-كوهين-لامبرت (2004).
- أبو الأعلى المودودي(1903-1979) عالم إسلامي باكستاني. تأثر بحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. حكم عليه بالإعدام 1953ثم خفف حكم الإعدام إلى السجن مدى الحياة نتيجة لردود الفعل الغاضبة الذي واجهته الحكومة الباكستانية إذ ذاك، ثم اضطروا بعد ذلك إلى إطلاق سراحه. تعرض المودودي لأكثر من محاولة اغتيال.
- كتاب: العاطلون عن الحياة. مهيب نصر.
- للاستزادة الرجوع إلى محاضرات أ.د حميد بودار (قضايا سيكولوجية( أكاديمية نماء للعلوم الإسلامية والإنسانية https://www.namaeacademy.com/.
