تنشأ مراحل الصِّراع الأولية، عن اعتمالات نفسية داخلية، تتسارع في تحرزاتها الكامنة، إمَّا عن طريق الاتساع البطيء، وإما عن طريق التمركز الانفجاري، في تشكلاتٍ إيجابية وأخرى سلبية، إذ الصِّراع في مدلوله اللغوي الظاهر ليس موضوع ما نتحدث عنه فحسب، لأنَّ ذلك المدلول جزءٌ من جزءٍ آخر؛ يمثّل اللغة الناتجة ويلعب دورًا خلاقًا في بنية الجماعة، كما يعلب الجزء الآخر الموافق للغة الظاهرة دورًا هدّامًا في البنية ذاتها. يتوافق الصراعان الظاهر والمنتج في حراكهما، ولكنهما لا يتفقان بالضرورة في نتائجهما، فما بين الإثمار وتخصيب الجماعة، توافق مع ظاهر اللفظ، واختلافٌ مع النتيجة، والعكس بالعكس تمامٍ بتمام، في حين يفرض التوتر إيجابية التبادلات الناجعة، بين أعضاء الجماعة والقائد.
يُعرَف التوتر بأنه: “ارتفاع منسوب التبادلات الإيجابية بين الأعضاء أفراد الجماعة، ومنطق المسارات الواقعية، لسيرورات الجماعة في ارتباطها بمخطط عمل/ أهداف محددة، في منطق الديناميات التفاعلية بين الأعضاء، والقائد والأعضاء فيما بينهم.” يتخذ تعريف الصراع منحىً آخر كما ألمعنا إذ هو: “سيرورات التجاذبات السلبية بين الجماعات، أو بين الأفراد داخل الجماعة، من خلال المنطق الدينامي للتفاعلات والتبادلات على قاعدة الأهداف الفردية أو الجماعية/ أو معايير التبادلات بحسب المراكز والأدوار/أو بسبب تعارض الاستثمارات الفردية، أو بين الأفراد والقيادة/ أو بين الفرد والجماعة على مستوى الأفكار والسلوكات والنتائج”. من الواضح أننا نتحدث عن بديهية الصراع في مدلولها الأوسع للمفهوم، أو ما يسهل للمفهوم النَّاجز إدراكه ببساطة ويسر. على إثر هذا المفهوم للصِّراع تتولد مرحلتين:
الأولى: الصراع في منظور السوسيولوجيا، ويعرف بأنه: “التناقض أو التعارض أو التضاد بين قوى اجتماعية(طبقات/تيارات/لوبيات..) بسبب اختلاف الرؤى أو المعتقدات، أو الإديولوجيات، أو المواقف، أو المصالح المادية، أو الاستثمارات الفئوية ذات الخلفية الدينية/ السياسية/ أو المعرفية”.
يتلخص عن هذا التعريف:
– الصراع هو دينامية طبيعية في الجماعات.
– الصراع هو قوة حيوية لتطور الجماعات.
– الصراع هو آلية دينامية من آليات التغيير الاجتماعي.
يترتب على هذا التلخيص للتعريف الآنف؛ النُقلة من الظاهر إلى النتيجة، أو إلى الجمع بينهما في آن، فالصراع لم يعد سيئة تنتج سيئة أو سيئات أُخَر، وإنما اعتراك محبّذ، بل مطلوب، في انبناء السيرورات، وتراكمها حتى مخاضها كصيرورات فاعلة، تغير الراكد الآسن، وتبعث الموات المتستر، كما تقلب المسار الغامر محولة إياه إلى صروحٍ عامرة، ومنادح واسعة. فمن ضيق الصراع كان الاتساع، ومن الاتساع كانت الصيرورة الباعثة على التَّقدير والدوام.
يذهب علم النفس في تعريف الصراع إلى أنه: “تناقض أو تعارض بين القوى النفسية الباطنية(دوافع/نزوعات غريزية/طاقات وجدانية/ رغبات تعتمل داخل نفسية الفرد مما يسبب لديه حالات نفسية، قد يسيطر عليها فيحقق التوازن النفسي وقد لا يسيطر عليها، فيتحول الصراع إلى أعراض باثولوجية”.
يتسق التعريفان النفسي والسوسيولوجيا في المبدأ العام للصراع، ويختلفان؛ لا أقول في منشأ التعريف، بل في الأسس التي على عمدانها يحدث التحول. التوازن النفسي يقابله حيوية التطور في الجماعات، وأعراض الباثولوجيا يقابلها طبيعية الصراع في الجماعة. طبيعية الصراع في السوسيولوجيا ليست دقيقة، فيما لو كان الغرض من الكلمة: طبيعية؛ أي عادية الصراع، وبالتالي التطبيع معه كحالة معافاة لا كحالة مرض، لأن الصراع السلبي هو حالة أعراض مرضية فردانية، تتلاقح أو قد تتلاقح عن طريق التداخلات البينية، وليست حالة استنزال خارج النفس الفردانية، التي تراكم هذه الأعراض لتبثها، ثم تحولها من أعراض جانبية إلى أمراض ثقافية تقطع مع الآخر ولا تتقاطع معه.
يذهب كل من ليبيتس [1] Lippit ووايت White [2] في تعريفها للصراع من منظور علم دينامية الجماعات إلى أنه :” دينامية تفاعلية بين الجماعات وبين أعضاء الجماعات، ناتجة عن تجاذبات سلبية أو إيجابية في المواقف، والميول، والتمثُّلات، والانفعالات، والأحكام، والقرارات”.
كما يذهب ليفين [3] Lewin إلى أن الصراع: “هو مختلف أشكال التعارض داخل الجماعة/ بين أفراد الجماعة على مستوى الاستثمارات الفردية في الأهداف، والمصالح، والأفكار، والمواقف، والقرارات، مما يؤثر سلبًا أو إيجابًا على غايات الجماعة، أو بنيتها، وتماسكها الداخلي”.
كلا التعريفان يتحدثان عن ظاهر الصراع ومنتجه. أن يُفهَم من الصراع بأنه سلبية، فهذا ما يتقاطر كأول وهلة لدى القارئ، بيد أن يُفهم الصراع كإيجابية منتجة، فهذا مما يَزهد ويُزهَد التطرق إليه، والسبب في ذلك منابع الثقافة الغالبة التي حددت وتحدد سلفًا ضغط الكلمات، أو العبارات، أو الأفكار في كبسولة واحدة، راسمة عليها اسمها، المشحون بمدخل واحد، لا ثنائي الاحتمال، فضلًا عن وجود قابلية لأكثر من مدخل.
الصراع كآلية من آليات تفعيل ديناميات التفاعل داخل الجماعة.
1- الصراع يولد الأفكار ويخرج المواقف والرؤى الفردية الكامنة، ويكشف عن المواقف غير المعلنة.
2- الصراع هو إخصاب لموضوع/قضية/مشكلة أو قاعدة/معيار/قرار/ حكم، يساعد الجماعة على التواصل إلى نتائج مرضية متوافق عليها.
3- الصراع هو تواصل دينامي يؤدي بأفراد الجماعة إلى تعلم أفكار وخبرات جديدة، كما يؤدي إلى تعديل المواقف وتغيير الرأي والحكم، سواء عند الفرد أو الجماعة.
4- الصراع يساعد على إشباع الحاجات الفردية والجماعية، وتفريغ النوازع العدوانية وتقليصها، كما أنه محفز للإبداع والابتكار.
هذه الآلية المنتجة عن الصراع تتمخض عن إيجابيات، تبعثنا على التساؤل وما آل إليه ضيق عطن الفرد في واقعنا العربي تحديدًا، سواء داخل المجتمع الواحد، أو الجماعات التوافقية، وكيف تحوَّل الاختلاف لا أقول الصراع؛ الاختلاف في أبسط صوره إلى خصومات، وحزازات غائرة في نفس الفرد، أو الجماعة التي ينتمي إليها، بل كيف أصبحت شخصية الفرد الذي يتجنب الاختلاف، سواء داخل الجماعة أو المجتمع ككل؟
لقد آضت نسخة رديئة من نسخٍ كثيرة، اعتقدتها، ثم صمتت عن عوارها، تجنّبًا للخصومة سالفة الذكر، أو حفاظًا على ذاتها في مستنقع الإيمان الواثق الذي لا يخالطه شك، فضيعت على نفسها الاستفادة من الآخر، واطفأت عقلها وضميرها، حتى جف عودها، وذبلت ملكاتها، وارتهنت إلى المجموع، أو إلى الذات التي اعتقدت إنها تمثل المجموع.
أوجه الصراع على ضوء ابحاث مونتين[4] Montaigne و براون[5] Browen وكوهين [6]Cohen .
1- في الصراع التفاعلي الإيجابي يتحصل التالي:
– إخصاب أهداف وقواعد ومعايير الجماعة.
– إخصاب الانسجام الداخلي ومحددات صيانة الجماعة.
– تطوير البناء للتماسك الداخلي للجماعة.
– رفع مستوى الإنتاجية لدى الجماعة وتحقيق الأهداف.
2- في الصراع التفاعلي السلبي يتحصل التالي:
– يرتبط الصراع باستثمارات وجدانية انفعالية عدوانية.
– ينحصر الصراع في منطق المصالح الفردية أو لدى اللوبيات.
– يرتبط الصراع بتجاوز القواعد والمعايير وقيم التبادل الإيجابي.
– يرتبط الصراع باستقطاب القيادة.
يتكشف بجلاء استقطار الإيجابي من هذه الصخرة المسماة بالصراع، واستقطار السلبي من عيون الصخرة ذاتها، ما يشف عن حياد الصراع في ذاته، وحياد الأحداث المساوقة له، ليقف العقل في ضعفه وقوته، ومن ورائه حشود الثقافة، بتمظهراتها المختلفة، بمعوَل الهدم والبناء، وبتحديد ما يرى وما يرى فقط، لا ما يجب أن يراه.
في الجزء السابع نتطرَّق إلى دينامية القيادة وتدبير الصراعات داخل الجماعة.
الهوامش:
- عالم الاجتماع الألماني كورت ليبيتس (1901-1966) هو أحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي الحديث. اشتهر بنظريته في الصراع، والتي ترى أن الصراع أمر طبيعي وملازم للوجود البشري، ويمكن أن يكون مفيدًا أو ضارًا، اعتمادًا على كيفية إدارته.
- هربرت جورج وايت (1926-2019) هو عالم اجتماع أمريكي، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الصراعي. اشتهر بنظريته في الصراع، والتي ترى أن الصراع أمر أساسي للوجود البشري، وأنه يلعب دورًا مهمًا في تشكيل المجتمع.
- كورت ليفين((1947-1890 هو عالم نفس أمريكي ألماني المولد، يُعرف باعتباره أحد روّاد علم النفس الاجتماعي والتنظيمي والتطبيقي الحديث في الولايات المتحدة. بعد نفيه من مسقط رأسه، بدأ ليفين حياة جديدة، عرّف فيها نفسه ومساهماته ضمن ثلاث عدسات من التحليل: البحث التطبيقي، والبحث الإجرائي، والتواصل الجماعي.
- ميشيل دي مونتين (1533-1592) هو كاتب وكاتب مقالات فرنسي، وأحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسي. يُعد رائد المقالة الحديثة في أوروبا، حيث تميزت مقالاته بأسلوبها الشخصي والعفوي، وتناولها لقضايا فلسفية وأخلاقية واجتماعية متنوعة.
- ستيفن براون (1944-2022) عالم اجتماع أمريكي، وأستاذ في علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. كان مساهمًا رئيسيًا في مجال القيادة، وطور نموذجًا للقيادة يركز على الرؤية والمهارات والعلاقات.
- جيريمي كوهين 1964. أستاذ إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف للعديد من الكتب والمقالات حول القيادة، بما في ذلك “القيادة الأخلاقية: نظرية وممارسة” (2007).