أشتات

المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج7)

إنَّ مكمَن توسيع نطاق حديثنا عن القيادة، ليس لأدوارها المهمَّة والفاعلة فحسب، بل لرمزيتها، هذه الرمزيَّة تمثل قيمة عالية برأسها، قد تتاخم؛ وربما تفوق المهام الروتينية للقائد. قد تغتال الجماعة باغتيال قائدها، سواء كان ذلك الاغتيال ماديًا أو معنويًا كما ألمعنا فيما مضى، وتسمو وتتحوصل في شخص هذا القائد أو ذاك، وقد تُعرَف الجماعة به، أكثر ما يُعرف هو بالجماعة. هنا أستذكر مقولة لصاحبها، حيال شيخ الإسلام ابن تيمية:  “لقد بلغَ أثره مبلغ أثر الدولة التي عاشَ فيها، ولعل أثره يخلد أكثر من آثارها”. هذه الموازنة بين الفرد والدولة المملوكية أواخر العصر العباسي الثَّالث، ليست تقليلًا من أثر الدولة، بل رفعة ومكانة سامقة لهذا العالِم القائد، والمجاهد المجتهد. ومن ضروب القيادة في تفرعاتها العامَّة غير المحصورة على فئة، أو فرع من فروع التَّكوين، الأدوار الأخلاقية النَّبيلة التي ناخ بحملها تشي جيفارا، معلنًا للدنيا: “إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاكَ هو وطني”. قد لا يعرف الكثير بلد جيفارا، ولكنهم يعرفون مواقفه، وفي المواقف آيات الحياة كلها. إنَّ أثر هذيْن العلمين على الدُّنيا، يقابلهما أثر قيادات أخرى في إطارات أكثر حصرية، غير أنَّ الرمزية في اتساعها لا تختلف عن حصريتها لدى الاتباع. لا تقتصر دينامية القيادة وتدبير الصِّراعات داخل الجماعة عند كل من ليفين k.(1) Lewin  وليبيتس (2) Lippit  ، وكذلك وايت (3) white، حيال التدبير المؤسساتي للصِّراعات داخل الجماعة، ولكنها تشمل ما دقَّ عن ذلك، كصراع المراكز والأدوار: تحديد أهداف الجماعة/ الارتكاز على مرجعية القواعد والمعايير، والمراهنة على الضبط الانفعالي للأنويَّات الفردية، والوعي بالمواقف الخفية، فضلًا عن القيادة وتدبير صراع اللوبيات.

التأصيل المفاهيمي للتغيير والتغير.

•التغير في تعريفه هو: “حالة انتقال الفرد/ الجماعة/ الظاهرة من حالة (أ) إلى حالة (ب) بحسب منطق الوجود الموضوعي والتمظهرات والسياقات”. في حين يتناسل عن التغيير في أبعاده الثلاثية؛ تعريفات تعضد بعضها بعضًا.

التغيير في بعده الأول هو: “الفعل الممارس من خارج الفرد/ الجماعة/ الظَّاهر لنقلها وتحويلها من الحالة (م) إلى الحالة (ب)لكسب غائية محددة بمقاربة معينة، وبهندسة منهجية مضبوطة” 

•التغيير في بعده الثاني هو: “بُعد من أبعاد سيرورات الظواهر والأفراد والجماعات والمجتمعات، تحكمه محددات داخلية، ومحددات خارجية متفاوتة القوة والتأثير”. •التغيير في بعده الثالث هو: “إرادة خارجية فردية/ جماعية/ مؤسساتية مقصودة، تجاه أفراد آخرين/ أو جماعات بخلفيات وتوجهات، وصيغ تطبيق محسوبة بدقة”. 

شواهد التغير مظاهر داخلية محضة، تحتكم إلى المنطق الداخلي، وتتساوق في اتساق مع الجماعة، لغايات تحسينية في سباق الأولى، دون الإخلال بمدماكها الذي أرست عليه قواعدها. بينما يتطامن التغيير إلى الخارج، في بعده الثاني والثالث، وانكفاء بُعدُه الأول على ظواهر داخلية مبهمة، يختلقها القائد كما سنبيّن.

شواهد التغير مظاهر داخلية محضة، تحتكم إلى المنطق الداخلي، وتتساوق في اتساق مع الجماعة، لغايات تحسينية في سباق الأولى، دون الإخلال بمدماكها الذي أرست عليه قواعدها. بينما يتطامن التغيير إلى الخارج، في بعده الثاني والثالث، وانكفاء بُعدُه الأول على ظواهر داخلية مبهمة، يختلقها القائد كما سنبيّن.

في البُعد الأول للتغيير نرى النقلة من (م) إلى (ب) أشبه بقفزة من علو، ولكنها قفزة عكسية، غايتها استحقاق من نوعٍ ما، بواسطة طرق مدروسة، وأُطُر محدودة. 

في البعد الثاني تستحيل السيرورة إلى صيرورة: التغيير، هذا التحول يستمد من الظواهر المتعلقة بفرد الجماعة، أو بالجماعة ذاتها، وأحيانًا ظواهر المجتمع التي تخلّقت فيه الجماعة وأفرادها. لا يقتصر التغيير في أعماقها عن أعماقها، ولكنه يُستمد من الخارج ما يعمل على إحياء بذوره في الداخل، حتى إذا ما تضافرت القوتان، انبثق تأثيرهما وسطا على الجماعة سطوّ المبرد على الحديد.

في البعد الثالث ولعله أخطرها وأكثرها وضوحها، إذ إرادات الأفراد المنطوية في رحاب الجماعة، تكابد الاستلاب لإرادات أفراد أو جماعات، أو مؤسسات أخرى خارجة عنها، هذا الاستلاب للجماعة عن طريق استلاب إرادة أفرادها، له شواهد في الواقع، وله نبضٌ كنبض الوقائع الشاخصة في بعض أقطارنا العربية. لقد أصبحت الجماعة في مدلولها الواسع مصدر قلق وتربص في آن، فلم تكن مدعاة للصناعة من طرف دول لتحقيق غايات سياسية فحسب، بل ليحسن استهدافها بسبب تحقيق تلك الغايات!

*دينامية القيادة وتدبير الصراع في اتجاه التغيير عند كل من ليفين k. Lewin وكوخ (4) Coch  وفرنسي (5) et French .

•الحالة الأولى: القائد قد يعتمد الصراع في اتجاه تغيير القواعد والمعايير والقيم داخل الجماعة، وبالتالي تغيير اختيارات الجماعة وغاياتها وأهدافها، ومن ثم تغيير هويتها. 

•الحالة الثانية: القائد قد يوظف الصراع في اتجاه تغيير المعارف والتمثلات، والوعي المتعلق بالقضايا/ الوقائع والأحداث، وبالتالي تعديل الأحكام أو تغييرها جذريًا داخل الجماعة. 

•الحالة الثالثة: القائد قد يوظف الصراع في اتجاه تغيير القرار أو تغيير أبعاده السياسية/أو الإيديولوجية أو العقائدية. القائد قد يوظف الصراع في اتجاه تغيير الرأي والموقف والسلوك.

إن تدبير القائد للصراع قد يعني خلق صراع آخر، هذا الصراع لون تدبير من قِبل القائد أكثر منه صراع، وهو التغيير المراد به في بعده الأول، بينما الصراعان الأخروين اللذان يرتديان قناع التغيير، نجد القائد يسعى ما وسعه الجهد في توظيفهما بما يتواءم والمعارف داخل الجماعة، وما ينتج عن ذلك من تغيير أو تعديل بعض القواعد، بل قد يضطر إلى تغيير القرار، وتبديل أبعاد المسار، سواء كان سياسيًا أو دينيًا.

*منطق التغيير والتغير داخل الجماعات.

•المنطق المتعلق بالقواعد والمعايير والأهداف، وهو يتميز بالمسارات البطيئة واعتماد أساليب الخلخلة والتعديل والتطوير والتغيير المتدرج، من داخل ديناميات الجماعة.

المنطق المتعلق بالتمثّلات والآراء والأفكار والإيديولوجيات، وهو يخضع لآليات التعلم واكتساب المنهجية كما يعتمد إعادة الهيكلة والبناء، عبر سيرورات الاستدلالات والتبادل بين-الفردي، ويعتبر الصراع السوسيومعرفي من أهم أدوات التغيير في هذا المجال. 

•المنطق المتعلق بالوجدانات القيمية والأخلاقية، أي اختيار وتفضيل القيم المؤطّرة للسلوك، وهو يبنى على أساس تغيير الاستقطابات.

*منطق التغيير والتغير  (6) وتدبير أشكال المقاومة داخل الجماعة عند ليفين k. Lewin ويستلي Westley.

•الفرضية الأولى. تفكيك قوة المقاومة عبر تأطير التغير التدريجي، من خلال التفاعل التوجيهي/التأطيري المتوازي. 

•الفرضية الثانية. تقليص نسب المقاومة عبر استقطاب القيادات بين الأفراد واللوبيات، والتبني المعرفي والوجداني لمعايير وقيم النموذج الجديد. 

•الفرضية الثالثة. يمكن للجماعة تجاوز المنطق الميكانيكي للمقاومة(آليه التعبئة النقابية/السياسية) إلى المنطق الدينامي الذي سوف يتعامل مع هذا ببرغماتية حسب السياقات ووضعيات العمل.

من الواضح إن منطق التغيير والتغير داخل الجماعة منوطٌ والأسس التي قامت عليها، من قواعد ومعايير مؤطِّرة، أو تمثّلات ورؤى وأفكار، أو قيم خلاقة تداعت لأجلها، وسعت في سبيل تحقيقها، ولكنها تصدعت أو تكاد مع مرور الزمن، وترقّي الأفراد في سلم الفهم والفكر، أو سلم المصالح الخاصة، أو الاستلاب ألا إرادي، غاية الإحسان، ولكن من زاوية الإبطال. ثم ماهية تفكيك هذا المُشكِل وتفكيك ظفائره الطويلة، حيث إن كل بعدٍ من أبعاد التغيير بحاجة إلى ما يتواءم معه من معالجة، وذلك من خلال توجيه الصراع من قِبل القائد، أو بعث نموذج جديد يتناسب مع الوجدانيات المتحصلة والمعارف المترقية، أو تجاوز المنطق التقليدي الميكانيكي إلى المنطق الدينامي الفعال، قاصدًا المصالح العامة، ومسترسلًا في تفعيلها بمرونةٍ ينتقل معها الفرد من حالة التعبئة إلى حالة التربية.

نتحدث في المقالة القادمة عن ظواهر الهوية في الجماعة-جماعة اللعب نموذجًا- مع مقاربات تدبير النزاعات والصراعات، في بسطٍ نوضح من خلاله الأسباب، والمعالجات.(7)

الهوامش:

  1. كورت ليفين((1947-1890 هو عالم نفس أمريكي ألماني المولد، يُعرف باعتباره أحد روّاد علم النفس الاجتماعي والتنظيمي والتطبيقي الحديث في الولايات المتحدة. بعد نفيه من مسقط رأسه، بدأ ليفين حياة جديدة، عرّف فيها نفسه ومساهماته ضمن ثلاث عدسات من التحليل: البحث التطبيقي، والبحث الإجرائي، والتواصل الجماعي. 
  2. عالم الاجتماع الألماني كورت ليبيتس (1901-1966) هو أحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي الحديث. اشتهر بنظريته في الصراع، والتي ترى أن الصراع أمر طبيعي وملازم للوجود البشري، ويمكن أن يكون مفيدًا أو ضارًا، اعتمادًا على كيفية إدارته. 
  3. هربرت جورج وايت (1926-2019) هو عالم اجتماع أمريكي، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الصراعي. اشتهر بنظريته في الصراع، والتي ترى أن الصراع أمر أساسي للوجود البشري، وأنه يلعب دورًا مهمًا في تشكيل المجتمع. 
  4. لستر كوخ (1913-1991) كان عالمًا نفسيًا أمريكيًا اشتهر ببحثه في مقاومة التغيير. ولد كوخ في نيويورك وحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة ييل في عام 1945. 
  5. جون آر بي فرنسي الابن (1906-1988) كان عالمًا نفسيًا أمريكيًا اشتهر ببحثه في مجموعات العمل والقيادة والتغيير الاجتماعي. ولد فرنسي في أوهايو وحصل على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة ستانفورد في عام 1930. عمل فرنسي في جامعة ييل بعد تخرجه، حيث أنشأ مختبرًا لدراسة مجموعات العمل. 
  6. في عام 1948، نشر كوخ وجون آر بي فرنسي جونيور ورقة بحثية بعنوان “التغلب على مقاومة التغيير”. في هذه الورقة، قدم كوخ وفرنسي إطارًا لفهم وإدارة مقاومة التغيير في المنظمات. جادل كوخ وفرنسي بأن مقاومة التغيير لا تنشأ من الأفراد، ولكن من السياق الذي يحدث فيه التغيير. 
  7. لاستزادة الرجوع إلى محاضرات أ.د حميد بودار (قضايا سيكولوجية) أكاديمية نماء للعلوم الإسلامية والإنسانية https://www.namaeacademy.com/.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى