أشتات

المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج8)

إنَّ التعريفات النفسية/ الاجتماعية للهوية متقاربة في إطارها العام، متباينة في خصائصها، لذلك سنكتفي بتعريفين للهوية الجماعاتية من المنظور النفسي والاجتماعي، لنتبين ذلك الإطار وتلك الخصائص. التعريف الأول لتاجفيل(1)  Tajfell () وموسكوفيتشي(2)  Moscovici اللذان نصَّا على أنَّ الهوية هي :” المحددات والخصائص والسمات التي تميز جماعة عن غيرها، من حيث البنية والقواعد والمعايير والأهداف”.

التعريف الثاني لموغني (3) Mugny  ودويس(4)  Doise إذ أرتأيا بأن الهوية هي :” الخصائص المؤسساتية أو غير المؤسساتية السياقية أو غير السياقية التي تنتجها الجماعة عبر ديناميات تشكُّلِها وتطوّرِها ونموّها وسيرورات نشاطها”

الملحظ الذي يلوح لنا وهذان التعريفان الهامان، ليس في التوافق العام الذي يفضي وقد لا يفضي إلى مدلولاتهما، بل فيما ذهب إليه التعريف الثاني من بنيوية داخلية تتشكل باستمرار، أو يُفترض بها أن تصير إلى تشكّلات دائمية، عبر سيرورات لا تفضي إلى صيرورة حتمية، إلا فيما يتوافق والواجب المناط بها في زمانها الآني واشتراط وما آل إليه تشكلها الناجز.

يمكن استلال تعريفٍ ثالثٍ من التعريفين، يعمل على ضفرهما معًا ويكثف مراميهما، وذلك بالقول إن الهوية الجماعاتية: ” مجموعة السمات العامة/ المؤسساتية أو السياقية التي تحدد نوع وطبيعة الجماعة من التراكيب والتشكل والأهداف”.

منطق التشكّل الهوياتي للجماعة.

أولًا: المنطق التلقائي/ الاعتباطي. يندرج تحت هذا التشكّل جماعة اللعب عند الأطفال، وجماعة الأزمة الطارئة، وعصابات الأطفال الجانحين. المراد بهذا التشكل بداهة التشكل ذاته، غير المأطر بقواعد أو قوانين أو مؤسسات.

ثانيًا: المنطق المؤسساتي القانوني المنظم. على سبيل المثال جماعة الأسرة، وجماعة الفصل الدراسي، وجماعة العمل في شركة/ مقاولة أو مرفق عمومي. يتمثل في صلب هذا التشكل المؤسسات ذات الأطر والقوانين، المتواءمة وماهية كل مؤسسة. حين نقول جماعة الفصل الدراسي فنحن لا نتحدث عن فصلٍ دراسي منفصلٍ عن المؤسسة المدرسية، ولكننا نذكر الفرع المعبر عن الجماعة لنذكر الأصل الجامع لها ضمنيًا.

ثالثًا: المنطق السياقي الخاص بالجماعات الأولية، من ذلك جماعة فريق رياضي منظم، أو جماعة سياسية/حزب/ نقابة/ جمعية، أو جماعة فريق عسكري. تحدثنا في المقالات السابقة عن الجماعات الأولية وبيّنا منطق تشكلها وماهيتها، وما يهمنا في المنطق السياقي هو الإشارة إلى جماعة الفريق العسكري، ما يتوجب التطرق وما تمر به أمتنا ودولنا القُطرية. إن هذه الدول في مجموعها وإفرادها لا تمثل صفة الدولة، بل تمثل صفة الجماعة، سواء جماعة عسكرية كما هو السياق المنطقي الخاص بالجماعات الأولية، وذلك من خلال الانقلابات العسكرية، أو جماعات التوريث الأميرية-جماعات دويلاتية- بقطع النظر عن عدد أفراد هذه الجماعات،  سواء أكانت جماعات كبرى أو جماعات صغرى، وهذا مؤشر من ظمن مؤشرات عدة وجنوح هذه الجماعات الدويلاتية الحاكمة إلى معاداة ومصادمة الجماعات الإيدلوجية الأخرى، ولكن في شكل دولة؛ أو بإسم الدولة، ولعل سجن العلماء والصالحون، لا يحدث إلا إذا ألحقوهم بادئ الأمر بجماعة إيدلوجية معادية لجماعتهم الدويلاتية، ومن المفارقة أن لو كان هؤلاء العلماء في دولة أوروبية أو في أميركا لما سجنوا ولما عذبوا، ليس لأن أوروبا هي أوروبا، ولا لأن أميركا هي أميركا كما هما في الذهنية المستضعفة، ولكن لأن صورة أوروبا وصورة أميركا يجب أن تبقيا كما لو كانا في أوج كمالهما، ولأنهما مجرد صور فاخرة، يوعزان للدول القطرية: الجماعات الدويلاتية، بسجن هؤلاء العلماء، ومصادمة وتشويه الجماعات الإيدلوجية، فتحافظان- أميركا وأروبا- على صورتهما من زاوية، وتحققان مبتغاهما على أيدي الجماعات الدويلاتية- الدول القطرية- من زاوية أخرى.

يتناسل عن الهوية الاعتباطية أو غير المحددة، محدودية الزمان والمكان وعدد الأفراد، كما يتحدد سياقها وأهدافها وطبيعة تكونها وتشكلها، بالإضافة إلى محدودية القواعد والمعايير والقيم، وضوابط الصيانة والاستمرارية، بينما تتشكل الهوية المؤسساتية من إطارات مرجعية تنظيمية لنوع وعدد الأفراد، وخصائصهم ومراكزهم وأدوارهم في الزمان والمكان، مع التحديد بوضوح للسياق المؤسساتي، والأهداف والغايات وطبيعة سيرورات التكون والتشكل، وجميعها تخضع للقوانين المؤسساتية المنظمة. تحضر بقوة كل من القواعد والمعايير والقيم وضوابط الصيانة والاستمرارية، كما تتحدد الهوية انطلاقًا من طبيعة الانتماء للمؤسسة/ بحسب المهام المؤسساتية. ومن ثم فإن الهوية السياقية للجماعة الأولية تتشكل محدداتها التنظيمية بحسب السياق والمهمة الموكلة لها-كما بيّنا والجماعات الدويلاتية- كذلك عدد الأفراد/ المراكز والأدوار والأهداف، مع تغير الزمان والمكان. يخضع منطق التشكل السياقي للجماعات الأولية: لقوانين التشكل، ومحددات المراكز والأدوار، وتتبلور وتتطور بحسب المهام والسياق، كذلك الأهداف تتحدد بمنطق التشكل وسيرورات النمو والتطور، كما تخضع القواعد والمعايير والقيم وضوابط الصيانة والاستمرار لمنطق السياقات وزمن المهام والأهداف، بل إن الهوية تتحدد بالمهمة أو بالأدولار، وقد تتغير بحسبها.

DALL·E 2024 03 17 19.12.20 Create an image that represents Psychological Approaches to the Group using a similar style to the attached picture. The image should feature a coll 1 المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج8)

نموذج الهوية عند الجماعات المهنية المؤسساتية.

  • تتحدد الهوية بالإطار المرجعي القانوني التنظيمي المؤسساتي.
  • ترتبط هوية الجماعة بمجموع الأهداف والمهام والقواعد والمعايير التي تعتبر إطارًا مرجعًيا للمهنة والتي ترتسم في إطارها مراكز الأفراد وأدوارهم وديناميات علاقاتهم.
  •  تتأسس هوية الجماعة كتمثلات وكوعي جماعي لدى أفراد الجماعة، وبحسب طبيعة تكون وانبناء وتطور هذه المعرفة، بما يضمن تشكل وجدانات الانتماء والاستثمار السيكووجدانية لهوية الجماعة.

نموذج الهوية عند جماعات اللعب التلقائي.

  • جماعة اللعب هي جماعة تلقائية/ أو مؤسساتية بحسب طبيعة السياق الزماني/المكاني/ التنظيمي الذي تم فيه تشكل جماعة اللعب.
  • جماعة اللعب جماعة تلقائية يحددها نوع اللعب/ أو نمط اللعبة التي تختارها، وهي اختيارات طارئة/ رغبوية/ اعتباطية/ تلقائية/ متغيرة/ غير ثابتة.
  • القواعد والمعايير والقيم تتحدد بمنطق خصائص اللعبة، أو تتبنى تلقائيا، وهي مفتوحة على التغيير أو التطور بحسب زمن اللعبة أو زمن استمرار أفراد الجماعة.

نموذج الهوية عند جماعات اللعب المنظم/ الممأسس.

  • هي فريق أو ناد، يمارس نشاطًا رياضيًا أو لعبة رياضية بشكل احترافي، يخضع لقوانين وتنظيم محدد.
  • تخضع لمنطق القوانين والمعايير والقيم والمبادئ التي تحدد طبيعة اللعبة، والتنظيم المؤسساتي الذي يؤطرها، سواء لتحديد الهوية/ أو اختيار الأفراد/ أو تحديد مراكز وأدوار أعضاء الفريق ومهامهم وأهدافهم.
  • لها منطق مركب في التنظيم والتدبير الداخلي للعلاقات، كما أنها تخضع لدينامية داخلية مركبة بحكم القواعد/ وأشكال التمويل/ وطبيعة التفاعل الداخلية والقوى الدينامية المحركة.
  •  أسباب مرتبطة بمنطق الأهداف والقواعد والمعايير والقيم المؤسسة للجماعة.
  1. عدم الوضوح.
  2. عدم التوافق.
  3. عدم التكيف والمرونة.
  4. عدم احترام الاستثمارات الفردية.
  •  أسباب مرتبطة بمنطق دينامية العلاقات البين-فردية.
  1. العلاقة بين القيادة وأفراد الجماعة. 
  2.  العلاقة بين أفراد الجماعة وبعضهم مع بعض.
  3. الصراع بين لوبيات محددة داخل الجماعة.

إضافة لما سبق، فثمة أسباب مرتبطة بمشاكل تحقق الأهداف/ عراقيل تنفيذ المهام، وأسباب مرتبطة بعوائق تحقيق الاستثمارات الفردية/المعرفية/ الوجدانية/المادية، وأسباب مرتبطة بتحديات وطرق إنجاز المهام وتحقيق الأهداف.

DALL·E 2024 03 17 19.36.06 Create an image that represents The Conflict within the University blending light and dark colors to create a balanced medium color palette that co 1 المقاربات السيكولوجية للجماعة (ج8)

مفاتيح تدبير النزاع أو الصراع داخل الجماعة.

  •  بالرجوع إلى الإطار المرجعي للقوانين والقواعد التنظيمية أو المرتبطة بالمهام والأدوار والأهداف، أو المرتبطة بالقيم العلائقية.
  •  بالاحتكام إلى القيادة، وذلك عبر تحديد المواقع والمراكز والأدوار والمسؤوليات، وضبط منطق الأهداف، وإعلاء قيم التماسك الداخلي، وتطبيق قواعد الصيانة.
  •  بالتحليل التشاركي لطبيعة المشاكل أو العوائق، أو مؤشرات التوتر، وتقديم فرضيات حلول بالرجوع إلى الأهداف، والقواعد وقبول الحلول المتوافق عليها جماعيًا. (5)

ختامًا واستخلاصًا؛ واسقاطًا وواقعنا المتهافت الدامي، فإن هذه الأمة المحمدية قد هُيّء لها من خلال عوامل عدة ما يفتتها مزيد تفتيت ويقسمها مزيد تقسيم، وأن جميع هذه العوامل إيجابية كانت أو سلبية تؤدي إلى الغاية الإمبريالية ذاتها،  فثَلّ عروش الجماعات الدويلاتية خطوة إيجابية، ولكنها ستؤدي إلى التقسيم، وقيام جماعات أخرى أيدولوجية تبعث على الأمل، ولكنها لا تحقق المأمول، كما تؤدي إلى التقسيم أيضًا. إن المستعمر لم يترك هذه الأوطان، إلا ليخلق الجماعاتية فيها، كما خلق الطائفية ليحلها محل الطوائف، فكانت الجماعاتية بشقيها الدويلاتية والإيدولوجية بحر صراعٍ واستنزاف، وكانت الطائفية محيط التفتيت المطلق، يتقمم هذا المحيط الطائفي؛ ولطالما تقمم على فتات الجماعتين المتصارعتين، ليوسع الشرخ في الجغرافيا، ويهلك حرث هذه الأمة ونسلها. إن التقسيم الجغرافي فرعٌ أخيرٌ، وثمرةٌ نضيجة من ثمار وفروع التقسيم الثقافي الداخلي، وذلك لتشظية المكوّن الواحد، ليتشعع إلى أكوانٍ عدة، تاركًا دماء الأمة ودموعها معلقة في شظايا النيات الحسنة، وفي الاعتقاد المطلق في الوراثة المالكة؛ المملوكة أبدا.

الهوامش:

  1. (هنري تاجفيل) بالإنجليزية: (Henri Tajfel) عالم نفس اجتماعي بولندي، ولد عام 1919 في مدينة ووكلاويك ببولندا وتوفي عام 1982 في مدينة أكسفورد بالمملكة المتحدة. اشتهر بعمله الرائد على الجوانب المعرفية للتحامل ونظرية الهوية الاجتماعية.
  2. (سيرج موسكوفيتشي ( بالفرنسية: Serge) (Moscovici عالم نفس اجتماعي رومانيفرنسي، ولد عام 1925 في مدينة براييلا برومانيا وتوفي عام 2014 في مدينة باريس بفرنسا. اشتهر بعمله الرائد على علم النفس الاجتماعي، خاصةً في مجال التأثير الاجتماعي وعلم النفس السياسي.
  3. غابرييل موغني: عالم نفس اجتماعي سويسري، ولد عام 1938 في مدينة جنيف بسويسرا.
  4. ويليام دويس (1928-2016) عالم نفس اجتماعي فرنسي اشتهر بعمله في نظرية الهوية الاجتماعية. ولد دويس في جنيف بسويسرا، ودرس علم النفس في جامعة جنيف. حصل على الدكتوراه عام 1954 وعمل أستاذًا لعلم النفس الاجتماعي في جامعة جنيف من عام 1967 إلى عام 1993.
  5. لاستزادة الرجوع إلى محاضرات أ.د حميد بودار (قضايا سيكولوجية (أكاديمية نماء للعلوم الإسلامية والإنسانية (www.namaeacademy.com)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى