أشتات

الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

تمهيد:

عرض القرآن الكريم لقضايا جوهرية وكبرى في الحياة الإنسانية، وهي قضايا لا تحضر بعيدًا عن المجتمع الإنساني المدني في صورته العمرانية والسُّلطانية، حيث الدُّول والحضارات. ذلك أنَّ حياة البداوة حياة بسيطة وهامشية وغير ثرية بمناشطها وهمومها وقضاياها، إذ تدور حياة الإنسان البدوي حول أمور رتيبة وعادية قاصرة على المأكل والمشرب والاحتياجات الأولية. وقد بعث الأنبياء والرُّسل في عواصم دولهم وحضاراتهم، يقول تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ))، القصص: 59. وإذا كان الإنسان مدنيٌّ بالطَّبع فإنَّ تشكُّل شخصية الإنسان الآدمي في صورة مكتملة لا تكون إلَّا في المدن، حيث يترقَّى في معارج المعرفة والأخلاق والنِّظام والإدارة، ويحقِّق الاستعمار الأمثل للأرض ومواردها وثرواتها.

ولا غرابة أن يتحدَّث القرآن الكريم إذن عن الممالك والملوك، وأن يقدِّم لنا صورة واضحة لعالم المدينة والسِّياسة والحكم، في أعظم خطاب معرفي علمي يرسم لأتباع النُّبوَّة المحمدية ما سيواجهونه في حياتهم، وهم مكلَّفون بحمل أعظم رسالة، في طريقهم للتَّمكين في الأرض. وهنا يمكن رصد عدَّة نماذج تجلِّي هذه الصُّورة لطبائع الملوك وعوائد الممالك، مِن ذلك: النَّمرود ملك العراق، وفرعون ملك مصر، والملك الظَّالم الذي يغتصب السُّفن، وجالوت الملك المحتل، إضافة إلى مملكة بني إسرائيل، ومملكة ذو القرنين، ومملكة سبأ، ومملكة مصر زمن يوسف. فهذه نماذج يعرضها القرآن في القصص القرآني، بين إشارات عجلى وعرض تفصيلي، بما يناسب كلَّ مقام وهدف.

الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

الملك السَّفَّاك للدِّماء (النُّمرود):

ترد قصَّة النُّمرود في آية واحدة، وفي معرض الحديث عن إبراهيم عليه السَّلام، وتشير إلى نفسية الملوك ونظرتهم لأنفسهم وقدرتهم في العبث بحياة النَّاس وموتهم. وهو أخطر ما يواجهه المصلحون في شخصيَّة الملوك الجبابرة. فيقول تعالى: ((أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَن آتَاهُ اللَّهُ الملكَ إِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبرَاهِيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِن المشرِقِ فَأتِ بِهَا مِن المغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ))، البقرة: 258.

والقرآن في هذه الآية لا يذكر لنا اسم النَّمرود، ولا حجم مملكته، ولا موطن ملكه أو حجم إنجازاته، لأنَّه هنا في معرض نفسيَّة الملوك وقد منحتهم السُّلطة انتفاخة زائدة وشعورًا بالغرور. فأوضح القرآن ذلك في حوار مختصر سريع، وعلى قضيَّة خطيرة جدًّا، ألا وهي أرواح البشر، حيث يرى النُّمرود ذاته ربًّا يتحكَّم بمصير النَّاس مِن حوله، ومِن ثمَّ فلا ينبغي على أحد أن يعترض سبيله أو أن يطالبه بكرامة النَّاس وحرِّيَّاتهم، والعدل والإنصاف معهم، ومنحهم حقوقهم ورعاية مصالحهم. وهذه مشكلة الملوك عبر التَّاريخ، إذا فتنتهم السُّلطة والقوَّة، وغرَّهم كثرة المال والجنود، حيث تنمسخ أرواحهم إلى شبح متوحِّش يتجرَّد مِن كلِّ قيم الرَّحمة والخير والعدل.

e1675617831752 الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

الملك السَّالب للحرِّيَّات (فرعون):

وردت قصَّة فرعون في القرآن الكريم تكرارًا ومرارًا، وفي سياقات متعدِّدة، ومِن خلال أحداث متعدِّدة، تجلِّي حقيقة الطُّغيان كاملة وهي تنتهك حرِّية البشر، وتسخِّر النَّاس في عبودية مذلَّة بشعة، وتصنع مجتمعًا مِن القطيع الأعمى المجرَّد مِن الوعي والشُّعور، وتعمل في مواجهة الإصلاح والتَّغيير، كمنظومة سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وإعلامية وقانونية. يقول تعالى: ((إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِّنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم ويَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسِدِينَ))، القصص: 4. ويقول سبحانه: ((وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرعَونَ وهَامَانَ وقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ))، غافر: ٢٣- ٢٤.

ومهما وقفنا عند آيات القرآن الكريم وهي تعرض قصَّة فرعون سنحفر في جبل عظيم يكتنز الكثير مِن المعاني والمفاهيم والصُّور. حتَّى كاد أن يكون القرآن بأكمله حول هذه المنظومة الطُّغيانية العاتية علوًّا وفسادًا. وهذا بهدف أن تمتلك الخبرة الإنسانية قدرًا مِن الوعي بحركة هذه المنظومة الطَّاغوتية، وهي توجَّه وعي المجتمع وتشكِّل علاقاته وتصنع مواقفه ضدَّ رسالة الإصلاح وحملتها.

وعلى خلاف النَّمرود، فإنَّ القرآن الكريم اعتنى لنا بتجلية اسم الملك (فرعون) ووزيره (هامان)، واسم الطَّائفة المستعبدة (بنو إسرائيل)، والشَّخصية الاقتصادية الموالية للطُّغيان (قارون)، لأنَّه في هذا الشَّأن لا يجلِّي الجانب النَّفسي الخفي وإنَّما حركة المجتمع برموزه وشرائحه، فكان لا بُدَّ مِن رصد جانب مِن المشهد بما يلامس واقعية القصَّة، كي لا تستنكر وتهمل.

في البحر الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

الملك الغاصب للأموال:

ذكرنا أنَّ النُّمرود يمثِّل صورة الملك وهو يعبث بحياة النَّاس وأرواحهم، وجاءت سورة الكهف لتعرض نموذجًا آخر مِن الملوك الذين يرون حقَّهم المطلق في أموال النَّاس، وإن لم يعتدوا على أرواحهم، حيث يصبح المال النَّفيس ومقدَّرات النَّاس كلًّا مباحًا لنزواتهم ورغباتهم وأطماعهم. وكما هو الحال في تجاهل اسم النَّمرود وبلده تجاهلت سورة الكهف اسم الملك وبلده لتظلَّ الصُّورة قابلة للتَّعميم على كلِّ الملوك الذين يرون في السُّلطة والقوَّة سببًا في الاعتداء على حقوق النَّاس ومصالحهم.

يقول تعالى: ((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ يَعمَلُونَ فِي البَحرِ فَأَرَدتُّ أَن أَعِيبَهَا وكَانَ ورَاءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصبًا))، الكهف: 79. والعجيب في الآية أنَّها أشارت أنَّ طبع أمثال هؤلاء الملوك هو التَّسلُّط على أموال المساكين، والضُّعفاء، الذين انصرفوا لأعمالهم بحثًا عن العيش الكريم، فأخذت تلك الأعمال فائض أوقاتهم وألجأتهم إلى الغياب عن أهليهم وبلدهم، فيأتي ذلك الملك ليأخذ ثمرة جهودهم بالغصب. وصور الغصب اليوم متعدِّدة وكثيرة، وربَّما في عصرنا الحالي مقنَّنة لا يستطيع المواطن الاعتراض عليها!

وداود الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

الملك المحتلِّ للبلدان (جالوت):

ورد ذكر اسم جالوت وجنوده في القرآن الكريم في معرض الحديث عمَّا حلَّ على بني إسرائيل في مرحلة مِن مراحل تاريخهم، مِن تسلُّط لملك غاشم محتلٍّ (فيما يبدو)، أخرجهم مِن ديارهم وأموالهم، وحرمهم أبناءهم وأزواجهم، حتَّى باتوا مشَّردين في الأرض مع أنبيائهم. وصور الدُّول المحتلَّة تتكَّرر عبر التَّاريخ، حين تستحيل أطماع الملك مشروعًا يستهدف الشُّعوب الأخرى بالغزو والعدوان، حتَّى أنَّها لتغيُّر معادلة المجتمعات: ((إِنَّ الـمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَريَةً [أي احتلالًا وعدوانًا] أَفسَدُوهَا وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهلِهَا أَذِلَّةً))، النمل: 34.

وقد جاء هذا الاحتلال نتيجة طبيعية لتمزُّق صفِّ بني إسرائيل السِّياسي، فرغم اتِّباعهم تعاليم الإله التَّعبديَّة والتَّشريعية، إلَّا أنَّهم لم يتَّحدوا تحت قيادة واحدة، ما مكَّن أعداءهم مِن غزوهم واحتلالهم وإخراجهم جميعًا مِن أرضهم. وهذا ما دفعهم كي يطلبوا نبيَّهم -في حينه- ليبعث لهم ملكًا يتَّحدوا حوله، وينقادوا لخطَّته، في سبيل استعادة دولتهم المستلبة ووطنهم المحتل: ((إِذ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعَث لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَل عَسَيتُم إِن كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا ومَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقَد أُخرِجنَا مِن دِيَارِنَا وأَبنَائِنَا فلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوا إِلَّا قَلِيلًا مِّنهُم واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ))، البقرة: 246.

وعندما اتَّحد بنو إسرائيل، وانقادوا لمليكهم، وذهبوا للقتال، وواجهوا جيش المحتلِّ الغاشم، جالوت وجنوده: ((قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا اليَومَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقُو اللَّهِ كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * ولَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبرًا وثَبِّت أَقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللَّهِ وقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)).. الآيات، البقرة: 249- 251. وتشير الآيات إلى ضخامة جيش جالوت كثرة، وإلى أيِّ مدى كانت المعركة مختلة لصالح قوى الطُّغيان والعدوان.

غير أنَّ نهاية هذا الملك المعتدي المحتل جاءت على أحد جنود الحقِّ الذين قاسوا آلام العدوان والتَّهجير والتَّشريد، وصدقوا في مطلبهم للإذن بالجهاد، وقبلوا باختيار الله تعالى لشخصيَّة طالوت، وانخرطوا في التَّدريب والاختبار ونجحوا بتجاوزه، ثمَّ انطلقوا لميدان المعركة سعيًّا في تحرير وطنهم وأهليهم بصدق وعزيمة وكفاءة.

في مقابل هذه الصُّور الأربعة عرض القرآن الكريم صورة أربع ممالك هي:

مملكة التَّمكين الإلهي (مملكة آل داود):

هذه المملكة تأسَّست ابتداء على يد طالوت -رضي الله عنه، والذي قاد معارك التَّحرير واستعادة الوطن مِن أيدي الغاصبين. ثمَّ قام داود -عليه السَّلام- ببناء قواعدها وقيمها ونظمها في مجتمع نشط فاعل، فئة تزرع وترعى: ((ودَاوُودَ وَسُلَيمَانَ إِذ يَحكُمَانِ فِي الحَرثِ إِذ نَفَشَت فِيهِ غَنَمُ القَومِ وَكُنَّا لِحُكمِهِم شَاهِدِينَ))، الأنبياء: 78؛ وفئة تتجار وتتشارك: ((قَالُوا لَا تَخَف خَصمَانِ بَغَى بَعضُنَا عَلَى بَعضٍ فَاحكُم بَينَنَا بِالحَقِّ ولَا تُشطِط وَاهدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسعٌ وَتِسعُونَ نَعجَةً وَلِيَ نَعجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكفِلنِيهَا وعَزَّنِي فِي الخِطَابِ))، ص: 22- 23؛ وفئة تصنع الدُّروع التي علَّمها عبده داود -عليه السَّلام: ((وعَلَّمنَاهُ صَنعَةَ لَبُوسٍ لَكُم لِتُحصِنَكُم مِن بَأسِكُم فَهَل أَنتُم شَاكِرُونَ))، الأنبياء: 80، فأوَّل احتياجات الدُّول عسكريًّا هي احتياجات الدِّفاع حتَّى تستطيع حماية وجودها مِن أي عدوان خارجي، وهذا يتطلَّب قدرًا مِن الإمكانات المعجزة: ((وأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعمَل سَابِغَاتٍ وقَدِّر فِي السَّردِ واعمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ))، سبأ: 10- 11. كلُّ ذلك مع إجراء القانون على قدر مِن العدالة الصَّارمة، والإنصاف الدَّقيق، حتَّى يشعر الجميع بانتمائهم وولائهم لهذه الدَّولة المدافعة عن حقوقهم، والرَّاعية لمصالحهم.

ثمَّ جاء عهد الفتوحات والتَّوسع لصالح رسالة الدَّولة السَّامية، وهي نشر التَّوحيد ومحاربة الظُّلم والطُّغيان الذي يحجبه التَّوحيد عن النَّاس، ويسلبهم كرامتهم وحرِّيتهم وحقوقهم. فأخذ مِن أسباب القوَّة والإعداد ما يتناسب مع طموحاته والمدرك مِن الأهداف. وقد ورث سليمان مقام أبيه داود، لا عن استحقاق النَّسب والسُّلالة، ولكن بعهد الله تعالى له، أو باختيار بني إسرائيل إيَّاه وقد أبدى مع أبيه قدرًا مِن العلم والحكمة والعدالة كما أشارت آيات القرآن إليه. فالتَّوريث هنا توريث في سياق الزَّمان لا في سياق العرف الخاصِّ بميراث الآباء والأجداد. يقول تعالى: ((ولَقَد آَتَينَا دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ عِلمًا وقَالَا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِن عِبَادِهِ المؤمِنِينَ * ووَرِثَ سُلَيمَانُ دَاوُودَ وقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمنَا مَنطِقَ الطَّيرِ وأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضلُ المبِينُ * وحُشِرَ لِسُلَيمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإِنسِ والطَّيرِ فَهُم يُوزَعُونَ))، النَّمل: 15- 17.

وحريٌّ بمن أوتي العلم والإمكانات والقدرات، والأتباع الصَّادقين والمخلصين، أن ينشر العدل والخير والصَّلاح في العالم، وألَّا يغفل عن شعوب تعيش تحت نير الظُّلم والطُّغيان، وظلام الجهل والخرافة. لذلك قاد سليمان -عليه السَّلام- الجيوش لبسط نور الإسلام في الأرض، انطلاقًا مِن أرض فلسطين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا.

وإذا كان الله قد آلان لداود الحديد فقد أسال لسليمان النَّحاس، ومنحه مصدر طاقة وحركة متجدِّدة (الرِّياح)، وسخر له عالم الجنِّ: ((وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهرٌ وَرَوَاحُهَا شَهرٌ وَأَسَلنَا لَهُ عَينَ القِطرِ ومِنَ الجِنِّ مَن يَعمَلُ بَينَ يَدَيهِ بِإِذنِ رَبِّهِ ومَن يَزِغ مِنهُم عَن أَمرِنَا نُذِقهُ مِن عَذَابِ السَّعِيرِ))، سبأ: 12.

إنَّها أعظم صور التَّمكين التي يمنحها الله تعالى لعباده المؤمنين إذا ما أخذوا بهدايات الوحي وإرشادات العقل، وعملوا وأخذوا بالأسباب واستغلُّوا السُّنن وسخَّروا الكون المسخَّر لهم أساسًا.

القرنين e1675621397722 الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

مملكة التَّسخير الكوني (مملكة ذو القرنين):

في مقام آخر في القرآن الكريم تتجلَّى مملكة أخرى مِن الممالك العادلة الرَّاشدة، إنَّها مملكة ذو القرنين، الشَّخصية مجهولة الهُويَّة إذ اختلف فيها على أقوال عدَّة. غير أنَّ القرآن لم يلتفت كعادته للأسماء والأماكن والأزمنة، بقدر ما جلَّى المعاني العاملة والعابرة للأشخاص والأمكنة والأزمنة والمجتمعات. فذو القرنين أوتي مِن العلم والحكمة ورشاد العقل ما جعله يقيم مملكة عظيمة البنيان، واسعة الأركان، يجد فيها النَّاس الأمان والعدل، وتأمن فيها مِن عدوان الغاشمين وتوحُّش المجرمين. فتأتي الفتوحات ارتدادًا لأصداء هذه الدَّولة الرَّاشدة الحكيمة، فتتهاوى دول الطُّغيان سريعًا إزاء تمكُّنها المادي وعلوُّها القيمي والأخلاقي، فيمتلك هذا الملك في زمن بسيط مساحة شاسعة مِن الأرض تبدأ مِن مطلع الشَّمس على البرِّ إلى مغربها آخر البرِّ المقابل. ويمكن الرُّجوع لهذه القصَّة الخلَّابة في سورة الكهف: ((وَيَسأَلُونَكَ عَن ذِي القَرنَينِ قُل سَأَتلُو عَلَيكُم مِنهُ ذِكرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرضِ وَآَتَينَاهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا * فَأَتبَعَ سَبَبًا))، آية: 83- 85؛ فما ورد مِن قصته ذكر بسيط لا يشمل كلَّ جوانب النَّجاح والإنجاز الكبير.

الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

مملكة العدل والتَّعايش (مملكة مصر زمن يوسف):

في قصَّة يوسف -عليه السَّلام- يعرض لنا القرآن الكريم كيف أنَّ مصر سادها منطق العدل والعقل فترة، فوجد فيها يوسف فيها محلَّ إقامته وحياته. إذ وجد فيها التَّعامل الحسن، والأعراف الجميلة، والقانون العادل، والاحترام والتَّقدير للمخالف، ومبدأ الثَّواب والعقاب، ومبدأ التَّحقيق والشُّورى، ومبدأ العمل الدُّؤوب والتَّكافل الاجتماعي. وهو ما جعله يسعى للبقاء وخدمة هذا المجتمع، وبيان رسالته التَّوحيدية بكلِّ تروٍّ وسكينة، مِن خلال الأخلاق الحسنة والعمل الصَّالح والنُّصح. إنَّها مملكة لا يظهر فيها الملك إلَّا مشاورًا في رؤيا أهمَّته وكانت مرتبطة بمصير وطنه وشعبه، وفي مقام آخر وهو يلتقي بيوسف ويحقِّق في شأن اتِّهامه ليظهر براءته، ثمَّ ليتيح له العمل في أعلى مستوى مِن الدَّولة مكافأة لنُّصحه.

وهذا ما جنَّب مصر كارثة أوشك أن تحلَّ بهم وتهلك الحرث والنَّسل، حيث أدار يوسف، وهو الغريب الذي لا يسنده نسب ولا جاه ولا مال ولا قوَّة، سوى العلم والخبرة وثقة الملك به، وقبول شعب مصر للعمل تحت إدارته، مرحلة العبور مِن الخطر إلى تحقيق الاكتفاء الذَّاتي والحفاظ على ثروة مصر البشرية والزِّراعية.

إنَّها المملكة التي رأى يوسف فيها ضرورة أن يستوطنها أهله، ويغادروا البداوة إلى حضارتها ومدنيَّتها، آمنين على عقائدهم وأخلاقهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم: ((وَقَالَ ادخُلُوا مِصرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ))، يوسف: 99.

1 الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

مملكة العقل والشُّورى (مملكة سبأ):

مملكة أخرى كانت على الجاهلية، في الضِّفة المقابلة للبحر الأحمر، وعلى اتِّجاه غير بعيد مِن مصر، يحكي القرآن الكريم قصَّة مملكة يمنية قديمة، عُرف بمملكة سبأ. كانت سبأ تقوم على الزِّراعة والتَّجارة، وتوحَّدت في كيان سياسي واحد، وبلغت أوج قوَّتها زمن امرأة مِنهم كانت غاية في الحكمة والرُّشد. وهي الملكة التي أشار لها الهدهد وهو ينقل إلى سليمان -عليه السَّلام- نبأ حضارة سبأ: ((فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُ امرَأَةً تَملِكُهُم وَأُوتِيَت مِن كُلِّ شَيءٍ ولَهَا عَرشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُهَا وَقَومَهَا يَسجُدُونَ لِلشَّمسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعمَالَهُم فَصَدَّهُم عَنِ السَّبِيلِ فَهُم لَا يَهتَدُونَ))، النمل: 22- 24.

وبرغم وقوع قوم سبأ في الشِّرك، إلَّا أنَّهم أداروا مملكتهم بأحسن ما يمكن، وظهر ذلك جليًّا في موقف ملكة سبأ مِن رسالة سليمان -عليه السَّلام، وميلها للحلِّ الدُّبلوماسي والسِّياسي على منطق الحرب، ثمَّ سعيها لحلِّ الأمر مِن خلال التَّفاوض المنصف مع هذا الحاكم الذي يتهدَّدهم باحتلال أرضهم، وإخراجهم مِنَّها أذلَّة، متوجِّهًا بوفد مِن كبار قومها إليه. وهناك، وفيما هي ترغب مِن استنقاذ مملكتها، رأت حقيقة مملكة سليمان ورسالته تتجسَّد واقعًا عمرانيًّا لا يمكن أن يتحقَّق دون توفيق ربَّاني وعدل قانوني يتوجَّه الجميع في ظلَّه للعمل بحبٍّ وتفان وإخلاص. ما دفعها وقد رأت ما تعجز قدرات البشر عنه إلى تسليم أمرها وقومها بالمطلق لله ربِّ العالمين، والدُّخول في سلطان الله الذي يمثِّله سليمان في الأرض.

منير الملوك والممالك في القرآن الكريم (1)

الإعجاز السياسي للقرآن:

بهذا العرض المتعدِّد، والقصص المتغايرة، لنماذج الملوك والممالك، يعطي القرآن الكريم للمؤمنين لوحة كاملة وشاملة، ودقيقة وعميقة، ونفيسة وفريدة، ليوغلوا في عالم السِّياسة وعلم الاجتماع والعمران، بمعرفة وخبرة متراكمة، ومناهج للنَّظر والبحث، وأسس وقواعد لتقييم الحكم، ومعايير للقياس والتَّجربة.

إنَّ نفاسة هذا الكتاب المعجز تتجلَّى في مفرداته وألفاظه، وفي آياته وسوره، ثمَّ تتجلَّى في مواضيعه التي يتطرَّق لها عبر هذه الآيات والسُّور مجموعة أو متفرقة لينحتها في وعي المتلقِّي ضمن سياقات التَّذكير تارة، والتَّنبيه تارة، والتَّوجيه تارة، والاعتبار تارة أخرى. ولو أردنا أن نلتمس فرائد هذه الآيات التي تتعلَّق بقضايا الملك والحكم وقصص الممالك التي أشرنا إليها لعجزنا عن الإحاطة، وهي التي تمنحنا فضاء في التَّأمُّل وثراء في الخيال، حتَّى أنَّ أفضل كاتب لا يمكن أن يصوغ هذه المعاني والإشارات المتداخلة والمتكاملة والمنسجمة، في أبلغ عبرة وأجمل صورة وأعذب ترنيم، فضلًا أن يحاكيها.

لهذا يبقى القرآن معجزًا متَّى ما توجَّهت له العقول ناظرة إليه بعين التَّصديق والإيمان.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى