أشتات

النَّسمَةُ الطيبة: ميلاد وخلود.

ما كانت تدري ابنة وهب من تحمل بين أحشائها، وأي نور يستكن في رحمها، وأي نسمة طيبة توشك أن تهديها إلى الوجود الذي ينتظر شروق فجره، وانبثاق ضوئه؟

حملت به وهي لا تعرف أن ميلاد جنينها سيكون ميلاد أمة ستغدو مثالاً لرقي الإنسانية ونقائها من كدر الدنس الذي يطمس رواء البشرية، وستصبح أمة يضرب بها المثل في سلامة عقيدتها، وشمول شريعتها، وخلود دينها، ونقاء حضارتها، وبقاء آثارها في جبين الزمان، وصمود ملتها على أفق الحياة رغم شدة الأعاصير المتنوعة الني تُزجى نحوها.

لم تكن أن تعرف أن وليدها الذي استقبلته الدنيا بسرور-قبل أن تستقبله كفاها- سيكون محرر البشرية جمعاء من رق العبودية إلا لبارئها، وحامل لواء العزة لأمة كانت تعيش في ذيل الأمم لتصبح بعزها وسيادتها وسناها هي التاريخ الناصع للإنسانية كلها.

لم تكن تعرف أن هذا اليتيم الذي قضى أبوه قبل أن يراه سيقضي على يتم الحياة وعنائها وشقائها لتغدو بكفالة هداه لها سعيدة آمنة مطمئنة، وبدينه الذي سيبعث به ستبتسم شفاه اليتامى، وينعمون في كنف أبوّة لم تلدهم، ولا يجدون في حضنها الحاني إلا العطف والرعاية وحسن التربية.

لم تكن تدري الأم الخائفة على وحيدها يوم بعثته إلى بادية بني سعد  أنه من هناك سيبدأ اتصاله بالسماء، وتهيئة المكان في صدره ليستقبل نور الله ليبثه من ذلك المكان الطاهر المنقّى إلى أرجاء المعمورة، فلا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخل إليه من ذلك النور نور.

لم يبق إلا وقت يسير على حياة تلك الأم الرؤوم والحزن يطوقها من كل جانب وهي ترى بواتر الموت قد سُلت أمام عينيها منتظرة الإذن في الإجهاز على  روحها، لكنها كانت تخشى على وديعتها الكريمة بعدها، لم تكن تدري أن وليدها سيحفظه من بعدها ويرعاه من لا تضيع عنده الودائع، فكيف بوديعة هي محمد؟.

ذهبت الأم إلى ربها دافنة قلقها وخوفها على صغيرها معها.

غير أن جده العطوف عبد المطلب أسدل عليه رداء رعايته التامة التي تناسى في ظلها عظمة مصابه بفقد أبويه.

فراح عبد المطلب يُعنى به عناية خاصة حتى كان يقدمه على بنيه، وكان حين يتأمل في قسمات  وجه محمد وحركته وسكونه كأنه ينظر من ثقب صغير إلى المستقبل المشرق الذي ينتظره، فيرى حفيده اليتيم يتربع على عرش الشأن العظيم، فيغمر الجد سرور كبير.

غير أنه لم يكن يعرف أن هذا الشأن الكبير الذي استشرفه لحفيده ليس ككل الشؤون التي يرجوها الأصول للفروع.

إنه شأن سيغير مجرى التاريخ، ويقضي على الخرافة التي كانت تسرح وتمرح في العقول القرشية.

وحين قرب من عبد المطلب وداع الحياة والأحياء نقل الوديعة الكريمة إلى أحسن بنيه عطفًا على حفيده، وهو عمه أبو طالب الذي لم يكن كسابقيه الكافلين في معرفة مستقبل هذا الصغير الكبير؛ فقد رأى أبو طالب يد الزمان تطوي السنين بين يدي هذا الغلام الذي كان الكون في شوق كبير لاستقبال ما أُرسل به.

فأبو طالب رأى ابن أخيه شابًا وكهلاً لا أحد في قريش عاش شبابه وكهولته مثله: نقاء وطهارة وصدقًا وأمانة.

ورآه وقد نزل عليه رسول الحق برسالة السماء الخالدة التي عاداه لأجلها القريب والبعيد.

وهناك ربما عادت بأبي طالب الذكريات إلى السنين الخوالي ورأى أباه عبد المطلب يتحدث عن مستقبل محمد وشأنه الكبير فيه، فكأن أبا طالب يقول في تلك اللحظات: ليتك -أبي-أدركت ما وصل إليه حفيدك اليتيم.

عاش أبو طالب في ظل هذا الشأن العظيم- الذي لم يدر أنه سيكمل بعد ذلك كمالاً لا نظير له-في صراع نفسي مرير، ونزاع داخلي كبير؛ فهذا دين قريش الذي ورثه عن آبائه وأجداده وشب عليه وشاخ كيف سيدعه؟ وماذا سيقول عنه الناس؟ وهذا محمد وحُبه وصدقه الذي تبوأ سويداء فؤاده كيف لا يتبعه وهو يعلم أن ابن أخيه غير كاذب!، فظل يتردد بين ما يحب وما يخشى حتى ودع الدنيا وهو على دين آبائه، لكن حب محمد واليقين بصحة ما جاء به لم تفارق قلبه حتى فارق الحياة.

مات أبو طالب ولم يكن يدري بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ستشق دعوته آفاق الحياة، وسيعود إلى مكة ويفتحها بعشرة آلاف رجل كلهم يود أن لو فدى محمداً بنفسه وأهله وماله، وأن أعداءه الألداء سيذهبون فرسى للموت المخزي، أو يميلون لاتباع ما جاء به الصادق الأمين.

ولو علم أبو طالب ذلك لقرت عينه، ولن يجد غضاضة في ترك دينه واتباع دين ابن أخيه الحبيب.

ومات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن دينه مازال يشب يومًا بعد يوم، وتزداد القلوب المعتنقة له، وتتسع الأرض التي تضم شعائر دينه.

ولا تزال الأيام تزيح حجابات الظلام أمام نوره المتوثب الذي يتسلل من خلالها بتؤدة وثبات حتى تتحقق وعود “المستقبل للإسلام” فيعم أرجاء البسيطة، وإن غداً لناظره قريب.

1/ربيع/1444هـ، 27/9/2022م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى