كثر لدى اليمنيين الحديث عن الهوية وسبل المحافظة عليها بعد الانقلاب الحوثي، وهو أمر طبيعي؛ جاء ردة فعل واعية لمواجهة الانقلاب القائم على عنصرية سلالية ينبذها كل إنسان سوي -فضلا عن اليمني المسلم الموحد-، ولكن، ما هي هويتنا اليمنية؟ وهل السلالية التحدي الوحيد لها؟ أم هناك تحديات ومهددات أخرى؟ وما سبل حمايتها والمحافظة عليها؟
ولكي يكون الحديث واضحا وذا معنى وجدوى، يجدر التعريج ابتداء على مفهوم الهوية وعناصرها وأهميتها.
فالهوية اصطلاحا: مجموعة العقائد والمبادئ والخصائص التي تجعل أمة من الأمم أو شعبا من الشعوب مميزا بها عن غيره.
وتقوم على عناصر رئيسية، أهمها: (الأرض، والدين، واللغة، والتاريخ، والتراث والعادات والتقاليد)، وبموجب هذه العناصر تتشكل ملامح هُوية المجتمعات في أي زمان ومكان.
وتكمن أهمية الهوية بأنها تحافظ على الفرد من الانجراف أو الذوبان في تيارات الفكر الوافدة والغازية، إذ يحرص المعتز بهويته على الثبات على أصالتها وعدم الانسلاخ من قيمها ومبادئها مهما طرأت عليه الظروف أو راودته مغريات التيارات الغازية، كما أنها تثمر في البعد الوطني: محبة الأفراد لوطنهم والاعتزاز به، والحرص على أمنه واستقراره ونسيجه الاجتماعي، والولاء له، والذود عنه من هيمنة المستعمر الخارجي، وفساد المستبد الداخلي.
ومن ذا الذي لا يعتز بهوية وطنه؛ والوطن يمثّل النشأة والسكن والذكريات، هو سماءٌ تُظل وأرض تُقل، كهف حريز ودرع حصين لكل إنسان، وحب الأوطان غريزة إنسانية لدى الأسوياء، فقد قال سيد الأتقياء محمد عليه الصلاة والسلام وهو يغادر مكة: ” وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ ” [مسند أبي يعلى، رقم: 2662]
وإذا أتينا إلى الحديث عن الهوية اليمنية؛ أتينا إلى معاقد العز ومراتب السؤدد، أتينا إلى مهد العرب ومنبعهم الأول، أول من خط بالمسند، ولبس التيجان، وقام بالمصافحة، قال عبدالله بن العباس لبعض اليمنيين: “لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها، ومن السيوف صمصامها”.
واستنادا إلى مفهوم الهُوية وعناصرها، فإن الهوية اليمنية تتشكل من العناصر الآتية:
وجغرافيا اليمن هي تلك البقعة الكريمة من الأرض التي حبا الله بها أهل اليمن منذ القدم، وتقع جنوب الجزيرة العربية، تتمدد أحيانا وتنكمش أحيانا أخرى، لكنها الدولة التي لم تختفِ عبر التاريخ الإنساني كله، وتتمثل اليوم في الجمهورية اليمنية بحدودها الجغرافية المعروفة، وأما اليمن التاريخية، فقد ذكر الهمداني: أن حدود اليمن من وادي تثليث ووادي الدواسر في الشمال إلى الليث على ساحل البحر الأحمر، وشرقاً إلى عُمان وجنوباً إلى عدن.
وقد وصف الله اليمن بأنها (جنة، وبلدة طيبة)، ولم يطلق هذا الوصف في القرآن على أي أرض غير اليمن.
كما وصفت في كتب التاريخ: بأنها بلاد السعيدة؛ لما حباها الله من نعم وخيرات، ففي الوقت الذي كانت كثير من بلدان العالم يعمها القحط والشدة، كانت اليمن تنعم بوفرة الماء والخضرة والخير العميم، تعود المرأة وقد ملأ المتساقط من الأشجار ما على رأسها من آنية الطعام فواكهَ وثمارا يانعة.
اليمنيون شعب عُرف بتدينه حتى في جاهليتهم اتخذوا آلهة في السماء (الشمس)، وكانوا سبّاقين في اعتناق الديانات السماوية واتباع رسلها وأنبيائها، فاعتنقوا اليهودية ثم المسيحية، وضحوا في سبيل عقيدتهم تضحية عظيمة، وما أصحاب الأخدود إلا نموذجا.
وبعد مجيء خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، كان اليمنيون أول شعوب الأرض إيمانا بدعوة الإسلام واستجابة لها، انضوت ممالكها وملوكها، وقادتها وأمراؤها تحت راية التوحيد بقيادة سيد الخلق عليه السلام، ثم حملوا الراية إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولن يأتي شعب يزاحم شعب اليمن على هذه المنقبة والفضل إلى قيام الساعة.
وظل اليمن هو البلد الإسلامي متمسكا بدينه على مر التاريخ وحتى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فالأحاديث النبوية تشير إلى بقاء شعب اليمن شعبا مسلما مناصرا لله ورسوله إلى آخر الزمن.
وأما اللغة فاليمن أصل العرب، وأول من تكلم بها، وما من عربي إلا ويعود بنسبه إليها، ومن اليمن انتشرت قبائل العرب القديمة في الجزيرة العربية، والعراق، والشام، ومصر، وشمال إفريقيا، والقرن الإفريقي…وغيرها. وإلى اليمن تعود عاد، وثمود، وطسم، وجديس، والعمالقة، وغيرها.
ولهم يعود الفضل في الكتابة سواء بالخط المسند الذي استقت منه بقية الحضارات طريقة الكتابة والتدوين، أو الكتابة بالحرف العربي.
اليمن ضارب جذوره في أعماق التاريخ؛ وقد شاعت عبارة: “كان اليمن ثم جاء التاريخ” فعمق حضاراته يبدأ من بعد نوح عليه السلام؛ فصنعاء مدينة سام بن نوح، ودولة معين، وقتبان، وحمير، وسبأ، وحضرموت، دول وحضارات تعرفها الدنيا، ويمتد عمرها إلى أكثر من سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، وهي حضارات لها وعليها شأنها شأن كل البشر.
ويذهب البعض اليمن – بحسب الكتب التاريخية المختلفة، وما توصل له العلم مؤخراً – إلى أن اليمن هي الموطن الأول للجنس البشري على الأرض، ونقطة الانطلاق الأولى للهجرات البشرية.
تحدث القرآن عن عاد وإرم وسبأ وقصة أصحاب الجنة وغيرهم من الأقوام والأحداث اليمنية، وسميت سورتان في القرآن الكريم باسم بعض مناطقه (سبأ، والأحقاف).
وعن حضاراته تحدثت كتب الإغريق والرومان واليونان، وما دون كتاب في التاريخ العربي والإسلامي إلا كان تاريخ اليمن مفتتحه ومبتداه.
ملوك اليمن أول من لبس التيجان، وحكموا العالم حينا من الدهر، منهم الملك تبع اليماني، وذو القرنين الصعب بن ذي مرائد بن حمير بن سبأ، ومن ملوكهم: الملكة بلقيس التي دون القرآن قصتها، والملك أسعد الكامل، أول من كسا الكعبة، ولا أدل على هذا التاريخ وعظمته إلا تلك الآثار اليمنية المنهوبة، التي تتسابق حكومات العالم اليوم بتزيين قصورها ومتاحفها بما نهبوه أو اشتروه من تلك الآثار اليمنية.
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
اليمانيون صنّاع التاريخ الإسلامي ورواده وشامته، فهم أنصار الرسول عليه السلام، وحملة راية دعوة الإسلام، حين أشرقت شمس الإسلام، كان اليمانيون على موعد مع فجر خالدٍ ومجدٍ تليد من النصرة والجهاد، فلست أعني الأوس والخزرج -وإن كانوا في ذراه-، بل أعني ممالك وقبائل اليمن ومخاليفه التي انضوت تحت راية الإسلام، كالأزد، وهمدان، وخولان، والأشعريين، والجند، والحميريين، وكندة، ومراد، وغافق، وغيرها ممن حملوا راية التوحيد شرقا وغربا، وكانوا بحق أهل الإيمان والحكمة والفقه.
رجال اليمن قادة الفتح وفرسانه: منهم السمح بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعبد الرحمن الغافقي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، والمثنى بن حارثة الشيباني، وغيرهم كثير جدا.
نحـن الـيـمانين يــا “طــه” تـطـير بـنا
إلـــى روابـــي الــعـلا أرواح أنـصـار
إذا تــذكــرتَ عــمــارا وســيـرتـه
فـافـخـر بــنـا إنـنـا أحـفـاد عـمـار
وكان تأثير اليمنيين عالميا في الثلاثة القرون الأولى من تاريخ الإسلام؛ فهم أبرز صانعي أحداثه، وقوى الترجيح والغلبة في تحولاته وصراعاته السياسية.
والتراث اليمني من العراقة والتنوع والجمال بمكان، وأول التراث تراث العلم والفكر والأدب، ولأهل اليمن رصيدهم المشهود الذي لا يحويه مقال كهذا.
وأما تراث العادات والتقاليد:
فهناك الأعراف القبلية اليمنية الأصيلة، وعاء النخوة والشهامة والكرم والنجدة وإكرام الضيف والحشمة والتكافل الاجتماعي.
وفي باب الأزياء، يتنوع التراث بتنوع السهل والجبل والصحراء والوادي، وتتعدد مظاهرها بتعدد روعة اللمسات الإبداعية ودقة الصنعة والتصميم.
وفي باب الأصوات والألحان، فبحر زاخر؛ فمن الغناء والموشح الصنعاني، إلى الدان الحضرمي، إلى الزامل المأربي، والحادي التهامي، ورقة الصوت الصعدي، والنغم المهري، وغيره كثير.
وأما تراث مناسبات الأعياد والأفراح وغيرها من المناسبات، فهي لا تختلف في الثراء عن نظيراتها.
وليس بعيد عن ذلك التنوع التراثي في الأكلات والأطعمة اليمنية؛ حتى غدا المطبخ اليمني اليوم من أشهر المطابخ عالميا.
هذا التنوع والثراء جعل من التراث اليمني حديقة غناء، تنوعت أزهارها وتعددت ثمارها بتنوع تضاريس اليمن وأهله.
هذه بعض ملامح هويتنا اليمنية التي يمكن تلخيصها، بأنها: هوية يمنية عربية إسلامية، لها تاريخ عريق وإرث حضاري وتراثي متميز.
هذه الهوية العظيمة لا تدعونا إلى التعالي على الغير، أو الاتكاء عليها وترك السعي للنهوض، لكنها وسيلة للاعتزاز بما قامت عليه من قيم ومقومات، وحافزا للنهوض والتقدم، والدفاع عن تاريخنا وحضارتنا من كل متطاول وجاحد.
تواجه هويتنا جملة من التحديات، تتمثل في الآتي:
1. غياب الدولة ومشروعها الحضاري، فلقد صرنا اليوم وطنا بلا دولة، وغدونا إقطاعيات تتناوشها الخصومات التي تدار من وراء ستار، ومع غياب الدولة؛ غاب المشروع اليمني الحضاري، وغابت معه عوامل الحفاظ على الهوية اليمنية بالمفهوم العميق.
2. المشروع السلالي العنصري، وهو من أبرز مهددات الهوية اليمنية، ففكر يقوم على الاستعلاء الجاهلي الذي ينتقص اليمنيين وتاريخهم وحضارتهم، وحقوقهم في الكرامة والمساواة والحرية؛ هو فيروس ينخر الهوية الوطنية ويهدم بنيانها في نفوس الأجيال، وهو جدير بالمواجهة بهويتنا الراقية بسمو قيمها وإرثها الحضاري، ويلحق بالخطر السلالي في الضرر والتأثير كل عصبية مناطقية أو عرقية أو مذهبية، فكلها أدوات تمزيق للنسيج الاجتماعي، وعوامل للتنازل عن أسس وأساسيات الهوية والوطنية.
3. الانخداع بدعاوى المدينة الزائفة، التي تتجاوز قيمنا الدينية وعاداتنا الأصيلة، التي تعمل ليلا ونهارا على ازدراء وتشويه ثوابتنا الوطنية وتراثنا وتاريخنا العريق، خدمة للجهات الممولة لهذه الحملات المسعورة.
4. قصور الرؤية في ماهية المشروع الوطني الجامع، والتيه في صحاري دعوات مشبوهة محدودة الأفق في شأن الهوية الوطنية وكيفية بنائها والمحافظة عليها.
5. الاختراق الأجنبي بتجنيد قيادات وأفراد وجهات للقيام بمشاريع تدميرية فكريا وسياسيا واقتصاديا، واستغلال ذوي النفوس الضعيفة اللاهثة وراء المال في تنفيذ هذه المشاريع.
6. لصوص التراث وسرّاق الآثار المحليين والدوليين الذين استغلوا غياب الدولة وسوء أوضاعنا وظروفنا المتردية منذ عقود فتطاولوا على تراثنا وحضارتنا ونهب آثارنا الفكرية والمادية.
1- وجود الدولة الوطنية الضامنة لهوية الوطن والجيل، فهي معقد الأمل بعد الله في النهوض بالوطن فكرا وعمرانا.
2- وضع استراتيجية وطنية شاملة تبدأ بتوصيف الهوية اليمنية وصفا قانونيا، ثم نشر الوعي المعرفي بها من خلال برامج التعريف بها وبمعالمها ومقوماتها في المقررات التعليمية والمناشط الشبابية وعبر البرامج الإعلامية الهادفة.
3- سن التشريعات والقوانين التي تحافظ على هويتنا وتراثنا من العبث الفكري والتجريف المادي.
4- توقيع ميثاق شرف في المرحلة الراهنة بين مختلف النخب الفكرية الوطنية حول محددات أساسية لمفهوم الهوية باحترام مقومات ومرجعيات هويتنا، والتعاون على نشرها وتربية الجيل عليها.
فلا يعني الحديث عن الهوية اليمنية الانسلاخ من جسد أمتنا أو التمايز عن قيم ديننا وشريعتنا، وكيف ينسلخ عن جسد الأمة من هو أصلها ومنبعها وربان فتوحاتها وانتصاراتها، بل المفهوم الصحيح للهوية ينطلق بالفرد إلى فضاء أرحب؛ فتمايز الهويات الوطنية بين الشعوب أداة للتعارف والتعاون لا للتعالي والتعصب.