أشتات

امتلاك الأرض كاملًا.. بين الحقيقة والمبالغة

يدَّعي البعض، سواء مِن أتباع الدِّيانات أو مِن الأمم الأخرى، أنَّ الأرض حكمت في فترة مِن الفترات بدولة واحدة، وحاكم واحد. وهذا القول ليس عليه دليل لا مِن شرع، ولا مِن عقل، ولا مِن حسٍّ، ولا مِن أدلة علمية أخرى عمومًا؛ بل هو ينافي حقائق السُّنن الاجتماعية، والوحي، والطَّبيعة البشرية. وحتَّى في أقوى حالات الدُّول اليوم لم تتمكَّن دولة عظمى رغم كلِّ ما تملك مِن حكم الأرض جميعًا، بل مِن حكم قارة كاملة عن بكرة أبيها!

وحقيقة أنَّ كلَّ ما يروى في كتب التَّاريخ حول هذه القضية هو مِن باب المبالغات، والأخبار التي لا يتوفَّر لها سند ولا يتحقَّق لها إجماع. وهي في أصلها مِن قبيل تفاخر كلِّ شعب بحضارته وعرقه وثقافته في الزَّمن الغابر بشيء مِن التَّهويل والتَّضخيم.

أمَّا بعض المنتسبين في الإسلام، فقد وقعوا في فخِّ هذا الادِّعاء في ظلِّ فهمهم الخاطئ لأخبار الوحي، وتأويلهم الفاسد لتعابيره الواردة في بعض القصص. ويتناسى هؤلاء أنَّ البشرية منذ اختلفت زمن نوح -عليه السَّلام، وما بعده، سارت على خطَّين متوازيين: خطُّ الدُّول الكافرة والفاجرة والظَّالمة، وهو الخطُّ الأكثر حضورًا وانتشارًا وظهورًا عبر التَّاريخ، كما أفادت نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ وخطُّ الإيمان والبرِّ والعدل، وهو الخطُّ الأقلُّ حضورًا وانتشارًا وظهورًا عبر التَّأريخ. وفي الحديث: (إنَّكم تُتِمُّونَ سبعينَ أمةً، أنتم خيرها وأكرمها على الله) ، ويقصد بها الأمم التي استجابت للرِّسالة وأقامت دولة، فإنَّها أمم محصورة، خلافًا للأمم الأرض فإنَّها تتجاوز هذا الرَّقم أضعافًا مضاعفة جدًّا. وفي الحديث: (إنَّ أُمَّتي في الأُمَمِ كالشَّعَرَةِ البَيضاءِ في الثَّورِ الأسوَدِ) ، كناية عن كثرة الأمم الأخرى مقارنة بأمَّة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلم.

ومعلوم أنَّ خير أمَّة، وأعظم أمَّة، هي أمَّة محمَّد -عليه الصَّلاة والسَّلام، وهي أطول الأمَّة بقاء وأوسعها انتشارًا، ورغم ذلك فإنَّ ملكها لم يبلغ، ولن يبلغ، الأرض كاملًا.

ومشكلة هذا الفريق الذي يخطئ التَّأويل هو فهمه لمصطلح “الأرض” الذي يأتي في بعض النُّصوص فيظنُّ أنَّ المراد به كلَّ الأرض؛ ولا يعي أنَّ الأرض حيثما أطلقت في القرآن الكريم أو السُّنَّة المطهرة أوِّلت بحسب سياقها. فقول قوم فرعون لفرعون: ((أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِي الأَرضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ))، الأعراف: 127، لا ينصرف للأرض التي قال الله عنها: ((وأَورَثنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرضِ ومَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا))، الأعراف: 137؛ فتلك تشير لأرض مصر وهذه تشير إلى أرض الشَّام.

وربَّما أطلقت الأرض في خطاب الشَّارع وأريد بها الأرض المعهودة في وعي المتلقِّي أو خبرته، فقوله تعالى: ((وَاذكُرُوا إِذ أَنتُم قَلِيلٌ مُّستَضعَفُونَ فِي الأَرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ))، الأنفال: 26، يشير في وعي الصَّحابة -رضي الله عنهم- إلى مكَّة، حين كانوا مستضعفين بها قبل الهجرة.

وعليه فإنَّ مصطلح “الأرض” الوارد في بعض الرِّوايات، فيما يخصُّ أنَّ هناك مَن (ملك الأرض)، هم: سليمان بن داود وذو القرنين، ونمرود وبخت نصَّر، وهي روايات مِن حيث السَّند موقوفة أو مرفوعة، وهي مِن حيث الحكم عليها إمَّا ضعيفة أو موضوعة. مِنها ما ورد في مستدرك الحاكم، ومصنَّف ابن أبي شيبة، برقم: (31916)، عن مجاهد، وأخرجه الثَّعلبي، في تفسيره (6/190)، والطَّبري، في تفسيره (1/120)، و(4/571)، وابن أبي حاتم الرَّازي، في تفسيره، برقم: (15689)، ابن الجوزي، في المنتظم (1/295)، وغيرهم، بألفاظ عدَّة.

والمشكل فيها النَّصُّ على أنَّه “لم يملك الأرض -كلَّها- إلَّا أربعة”، أو “الملوك الذين ملكوا الأرض أربعة”، أو “أوَّل ملك مَلَكَ في الأرض، شرقها وغربها”، ما فهم مِنه البعض بأنَّ المقصود بكلِّ الأرض، شرقها وغربها، الكرة الأرضية أجمع. وهذا يخالف التَّاريخ وما ورد في النَّصوص الشَّرعية مِن أخبار.

فإنَّ سليمان -عليه السَّلام- ورث مملكة داود، والتي هي مملكة بني إسرائيل، ومعلوم أنَّ ملك بني إسرائيل لم يبلغ كلَّ الأرض، بل كان في الشَّام وما حولها إلى حدود مملكة سبأ جنوبًا. ولا يدَّعي بنو إسرائيل أنَّهم حكموا كلَّ الأرض، ولا هو ثابت في كتب التَّاريخ عن غيرهم مِن الأمم، إذ لو وقع لتظافرت وتواترت عليه أخبار الأمم.

كما أنَّ ذو القرنين لم يحكم كلَّ الأرض، فقد بلغ ملكه ما حكى الله عنه، وفق ما مكَّنه فيه مِن أسباب أخذ بها. وجعل القرآن لحدود ملكه أمارات وعلامات ينتهي عندها. كما أنَّه لم يتغلَّب على أرض يأجوج ومأجوج، وهم مِن جملة أمم الأرض الظَّاهرة التي شكا مِنها قوم دخلوا في سلطانه.

وأمَّا نمرود فقد حكم أرض العراق وما جاورها، فلمَّا خرج مِنها إبراهيم -عليه السَّلام، وهاجر مِنها وقصد مصر، وجد بمصر دولة أخرى وملكًا آخر. وله قصَّة في مصر مأثورة في كتب الحديث مروية عن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، وكيف أنَّ ملك مصر وهبه هاجر (أمُّ إسماعيل). فعُلم أنَّ مصر لم تكن تحت ملك نمرود، ولو كانت جميع الأرض في سلطان نمرود لما كان لهجرة إبراهيم إلى مصر والشَّام معنى.

وأمَّا بُختَ نَصَّر فهو كنمرود حكم أرض الرَّافدين والشَّام، وما حولهما، ولم يعرف عنه تاريخيًّا أنَّه حكم الأرض جميعًا. فإنَّ الاستيلاء على معظم الأرض يتطلَّب قدرة فائقة وزمنًا طويلًا تنقطع دونه الآجل، في الزَّمن القديم.

ولو صحَّت تلك المرويات، فإنَّها تصدق على أرض الشَّام وما حولها، وهي الأرض التي تتحدَّث عنها الكتب السَّماوية باعتبارها موطن الصِّراع بين قوى الإيمان والكفر. فلا يبعد أن يكون الأربعة قد حكموها، ولكنَّ ذلك لا يمنع أن يكون قد حكمها غيرهم، سواء مِن المؤمنين أو مِن الكافرين؛ خاصَّة وأنَّها كانت تجمع بين: أهميَّة الموقع الجغرافي، ووفرة مياهه وخصوبته إذ هي مشبعة بالأنهار والبحيرات العذبة بين دجلة والفرات شرقا والنيل غربا، كما أنَّها تمثِّل أرضًا مقدَّسة تنبعث فيها النُّبوَّات المناهضة لدول الاستكبار والطُّغيان. لهذا، عندما تحوَّلت خلافة المسلمين إلى الملك تحوَّلت عاصمتها إلى دمشق ثمَّ بغداد، ثمَّ القاهرة.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تفهم من هذا النقال ان مفهوم الارض يفهم بحسب وروده في السياق، وان الغالب في اطلاقه الارض المخصوصة لا الارض عموما، فهو من قبيل العام الذي اريد به الخاص. والله اعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى