أشتات

انكشاف النخب بين بذل الوسع وذر الرماد

في كل مرة توجه السهام نحو جزء عزيز وضعيف من أجزاء الأمة تنتفض النفوس وتتداعي الاجساد شعورا بالمصير والهم والاستهداف المشترك الذي يتداعى له سائر الجسد بالشكوى والمناصرة بمختلف الوسائل .

ولعلَّ هذا الشعور وما يتفرع عنه من القول والفعل وسائر المبادرات المادية والمعنوية هو دليل _ بإذن الله _ على صدق الإيمان والمحبة والموالاة .

لكن مما يُسْتغرَب له عند متابعة وسائل التَّواصل الاجتماعي ومنتديات الفكر والحوار خاصة النُّخب السياسية والأكاديمية والعلمائية والثقافية _إلا ما رحم ربك_ أنها تقع في مأزق تكرار الجواب عند السؤال:

– ماذا فعلتم تجاه القضية المعينة وتجاه أهلكم وإخوانكم المضطهدين أو المستضعفين؟

وهنا يأتيك الجواب (المفْحم) ممن تنتظر منه الكثير والقدر النوعي المؤثر في سياق النقاش:

قد بذلنا وسعنا وجهدنا . 

وربما جعلك هذا الجواب مستفزًا مستنفرًا، فقلت: 

عجبًا ماذا بذلتم؟  ماذا قدمتم؟ 

أنتم تستطيعون المزيد؟ 

أنتم القادة أنتم الحكماء أنتم العقلاء. فيأتيك الجواب مرة أخرى: 

قد بذلنا الوسع وكل ما يمكننا.

وليس العجب من الجواب بحرفيته لكن العجب من مقارنة الجواب الصادر بالإمكانات المتوفرة لدى من يجيب ؟!! فضلا عن الواجب عليه تبعا لموقعه والسلطة الممنوحة له .

إن الحقيقة المرة التي أود التحذير منها وبشكل عاجل في ظل أحداث مجازر ومحارق غزة التي لم يسبق لها مثيل هي:

ضرورة ألا تكون هذه العبارة هي النَّص الجاهز و (المعلب) للجواب خاصة من النُّخب في عالمنا العربي الذي يتصل مع بعضه بأواصر الدين واللغة والتاريخ والأرض ويستطيع شبابه وشيوخه رجاله ونسائه أن يفعلوا الكثير والكثير ليلًا ونهارًا سرًّا وجهارًا إذا وجدت القيادة الحقيقية.

أتذكَّر أحد مشايخنا الأجلاء _ فرَّجَ الله كربه _ حدثنا ذات مرة عن الخلل في مفهوم بذل الوسع الذي دل عليه قول الله عز وتقدس:

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).

فقال ما معناه:

يعتذر كثير من القادرين من ذوي النفوذ والسلطة والغنى المادي والوجاهة المعنوية عن تأخرهم عن مناصرة الحق أو السَّعي للتغيير نحو الأفضل سواء في مصالح المسلمين الدنيوية أو مصالحهم الأخروية من إقامة الدين والشَّريعة والعدل بهذه الآية الكريمة.

وعند التَّحري والتحقيق والمناقشة المجردة والبسيطة:

ما هو المطلوب؟ 

ماذا فعلت؟ 

ماهي إمكاناتك؟ 

ماهي الخطوات والخيارات؟ 

من يتفق معك في هذا الأمر؟ 

ماهي قدرات الخصم أو الرافضين لهذا الأمر؟ 

هل اجتمعت مع أمثالك للنقاش جديًا حول الخطوات اللازمة؟ 

تكتشف أنَّ هذا الإنسان ليس لديه أجوبة كافية على هذه الأسئلة؟ ولم يسع لذلك. 

عجبًا والله!!!

يعني احتجاج بالآية وبذل الوسع وهو لم يفكر ابتداءً في التَّخطيط لفعل أو عمل شيء حقيقي يغير الواقع أو المنكر أو الفساد أو يعالج الخلل والنَّقص.

ولذلك فمثل هذا الاحتجاج مردود على صاحبه وهو ممن يصدق عليه قول الأول :

والدعاوى إن لم يقم عليها

بينات فأصحابها أدعياء

وعودًا لموضوع حديثنا:

السِّياسة في عالمنا العربي المسلم أصبحت فارغة من التغيير الأكمل والبحث عن الأكمل _ إلا ما ندر _ وهي أكثر ترديًا وانحطاطًا لدى النُّخب المعنية بالقيادة وتوجيه الطاقات.

ها هي تأخذ بالحد الأدنى من القول والفعل فقط إزاء أحداث جليلة وعظيمة مثل أحداث غزَّة بعد عملية طوفان الأقصى 7 / 10 / 2023 _ على سبيل المثال _  وكل ذلك من باب تبرئة النَّفس أمام الجمهور _  المنتفض غيرة لدينه ومقدساته وعرضه _  وحماية لها من الانتقاد وفي حالات كثيرة للأسف من باب التذاكي السياسي وذر الرماد في العيون والحفاظ على المصالح الذاتية والآنية لأصحابها _ إلا ما رحم ربك _ والمصيبة أنَّ مثل هذا المرض لم يعد قاصرًا على السياسيين الرسميين وإنما انتقل إلى الجماعات والأحزاب والروابط والهيئات الشعبية والمستقلة التي تعلن أنها داعية التغيير نحو الأفضل والمستقبل المشرق للبلدان .

وللمثال فمما يتداول في كواليس الحكومات في المنطقة بشأن القضية الفلسطينية اليوم.

قد بذلنا وسعنا وإمكاناتنا .

أصدرنا بيانات وأجرينا اتصالات وأرسلنا مساعدات .

لا نستطيع أن نفعل شيئًا أكثر من ذلك!!

لأن هذا سيؤثر على خططنا الاقتصادية، بل على اتفاقاتنا الاستراتيجية حتى مع شركاء العدو في عدوانه.

النخب بين بذل الوسع وذر الرماد2 انكشاف النخب بين بذل الوسع وذر الرماد

يا أخانا ويا أختنا الأعزاء:

إنَّ تعليق وتوقف أغلب قضايانا المصيرية وعدم وصولها إلى حلول هو بسبب: أنها لا تستكمل بذل الوسع والتخطيط والتفكير والإعداد والتأهيل والبناء والتدريب ومن ثمَّ العمل والتضحية من قبل المعنيين بها.

والمسألة التي تحتاج إلى وقفة مراجعة، بل وقفة محاسبة هي:

إنه إذا كان وسع النَّاس بشكل عام في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج المظاهرات ورفع الصوت بالشعارات والتنديد والعويل والشكوى وتقديم أغلى ما يملك الإنسان من المال والممتلكات،  فما بالك بمن هو أعلى منزلة ومقامًا وأكبر قدرة مادية ومعنوية ونفوذًا؟؟

ومن هو أكثر استيعابًا وفهمًا لمسارات الأمور لماذا لا تجد ردة فعله تليق بما يملكه وتقابل ما أنعم الله به عليه من تلك النِّعم؟

وهل يظن الواحد منهم أنه سينجو من الحساب الأخروي إذا استطاع الافلات من الحساب الدنيوي؟!

وفي هذا الاتجاه أقول نصيحة محب مشفق:

يجب على نخبنا بأنواعها وجوبًا شرعيًّا وعقليًّا وعرفيًّا أن تتنادى فيما بينها بشكل جاد ومطرد ومستمر للضغط على صناع القرار وتوجيه المشورة السياسية والاقتصادية والعسكرية لتقديم خطوات ملموسة في القضايا الحادثة واقتناص الفرص السَّانحة لتغيير موازين القوى على الأرض بموجب سلطتهم؛ لأنَّ هذا ما ينبغي للعقلاء تقديمه والإعلان عنه كممثلين للدول والحكومات وهذا المسار هو مقتضى النصح للمؤمنين.

لقد سئم الشعب العربي المسلم من المراوحة في ذات المربعات وبنفس اللهجة واللغة البائسة والباردة ولن تستطيع هذه اللغة الصمود لفترات جديدة في ظل التَّحولات الاقليمية والدولية في ظل انكشاف الانحياز السافر لمصالح العدو القريب والبعيد على حساب مصالح الشعوب العربية المسلمة في المنطقة.

ولابد للنخب الحاكمة ومن ورائها أخذ زمام المبادرة لقيادة الطاقة الكامنة للشعوب والتي ظهرت جلية بعد هذه الأحداث _ مع كل المعاناة والهموم الداخلية في كل بلد _ ومالم يتم ذلك فلن تلبث أن تأتي اللحظة التي تجعلها تخرج عن السيطرة باتجاهات الله أعلم بعواقبها في الحال والمآل.

وفي الختام:

إنَّ هذه العبارة وهذا الجواب : “قد بذلنا وسعنا”، إذا لم يكن مطابقًا للحقيقة فلن يكون جوابًا كافيًا نعده عند مقابلة ربنا _ جل وعلا _ ولذلك حري بنا أن نتنادى سريعًا في زمن الفرصة لبذل الوسع ونضع النقاط على الحروف ونعطي القوس باريها ثم ننتقل إلى الميدان للعمل فهو المحك الحقيقي والصادق لإثبات أننا بذلنا الوسع حقًّا وصدقًا وأننا تخلينا عن هواية الجلوس في خانة المتفرجين أو المنتظرين للحلول الجاهزة أو الانقاذ من المهدي المنتظر والمنقذ!!!

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى