أشتات

ثورة 26 سبتمبر: الثورة التي أيقظت اليمنيين مرتين

ما أن يحل شهر سبتمبر من كل عام إلا وتشتعل مِنصَّات الإعلام الاجتماعي والتقليدي بذكرى ثورة 26 سبتمبر، خصوصًا في الآونة الأخيرة، أي: بعد سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء في 21 سبتمبر عام 2014م، ولعل من سخرية القدر أو قد يكون من لطفه أن جعل الحدثين في ذات الشهر، بل لا تفصل بينهم سوى بضعة أيام. وهناك رواية لأحدهم بأن دخول جماعة الحوثي لصنعاء كان مخططًا له بعناية أن يكون في شهر سبتمبر وذلك بغرض محو ذكرى ثورة بثورة أخرى أو كما يقول آخر: ليكرر التاريخ نفسه بطريقة عكسية.

ومهما كانت التدابير، فإن أحداث 21 من سبتمبر وما تلاها أوقد شعلة 26 سبتمبر من جديد، بل وقد أجزم بأنها صنعت ثورة أخرى لا تلامس الأرض، لكنها لامست الوجدان والذاكرة والفكر، وخلقت جدلًا حول الثورة والثوار وصيرورة الثورات في تاريخ اليمن الحديث، وأيقظت اليمنيين مرة أخرى من سُبات دام نحو 60 سنة منذ حدوثها في عام 1962م، والتي اقتصرت ذكراها على الإجازة الأسبوعية والخطابات الكرنفالية، والأغاني الوطنية على الفضائية الرسمية والجدل البيزنطي في الدوائر الإسلامية حول مسمى العيد الوطني، لكنها اليوم أضحت حدثًا تفاعليًّا يبادر الجميع في تذكره وترسيخ ذاكرته ومدارسة فوائده ومناقشة سلبياته والعبرة من سرديته.

ولعل هذه هي اليقظة الثانية، فما هي اليقظة الأولى لثورة الـ 26 من سبتمبر؟

اليقظة الأولى: هي اليقظة المركبة التي توّجت بحدث السادس والعشرين من سبتمبر، فكما يذهب البردوني في كتابه الشهير “اليمن الجمهوري” بأن ثورة سبتمبر بدأت إرهاصاتها منذ مطلع القرن العشرين، ولأن ولادة اليمن الجمهوري كانت حتمية – وحتمية التاريخ تعني بأن التاريخ يسير حسب قوانين معينة تحدد حتمية مساره وبالتالي يمكننا التنبؤ به وينتقد هذه النظرية الفيلسوف كارل بوبر في كتابه بؤس التاريخيانية وهذا جدل دائر لدى فلاسفة التاريخ – نعود إلى البردوني الذي رأى بأن استيقاظ اليمنيين بدأ تدريجيًّا واستجابة لوضعهم وما حولهم بداية من نضالهم ضد الأتراك (الدولة العثمانية) ومن ثم استمرار هذا النضال ضد الحكم المتوكلي الذي نتج عنه حركات تمردية وأخرى فكرية؛ وأبرز هذه الحركات: حركة المقاطرة وحاشد وذمار وثورة 48 الدستورية وانقلاب الثلايا عام 1955 وحركة الزرانيق وغيرها. والمتطلع لهذه اليقظة التي استشرت كحركات أو تمردات سيجد بأنها تنوعت مناطقيًّا ومذهبيًّا وطبقيًّا وهو ما يدل على التطور التدريجي للحراك الثوري وتبلور أفكاره نحو الهدف المشترك وهو الثورة على الإمامة، الأمر الذي تنبه له الإمام أحمد حميد الدين (ت1962) وابنه البدر (ت1996) فحاولوا أن يوقفوها أو يؤخروا قدومها بوسائل ترهيبية وأخرى ترغيبية؛ تمثلت الوسائل الترهيبية بإعدامات جماهيرية للثوار أو السجن والتنكيل بهم وبقبائلهم، في حين كانت الوسائل الترغيبيية بتعيينات لرموز قبلية في مناصب عليا وافتتاح مشاريع خدمية والسماح بطباعة الكتب التي كانت ممنوعة سابقاً والانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي والذي عُرف باسم الجمهورية العربية المتحدة الذي جمع سوريا ومصر عام 1958م. لكن هذه الوسائل لم تمنع من ولادة اليمن الجمهوري الذي كان حتميًا بطبيعة الحال أو كما يقول: الشاعر السوداني محمد عبدالباري من “يقنع الطوفان ألا يعبرا.”

ثمة أمران لازم يقظة اليمنيين الأولى ويحتم علينا إدراكه مثلما كانت ولادة اليمن الجمهوري حتمية؛ الأمر الأول بأن النضال اليمني طوال تاريخه ارتبط بالسيف والدم فلم يكن هناك انقلابًا أبيض أو تغييرًا سلميًا دون ضريبة مضرجة بالدماء فحتى الاستعمار البريطاني الذي خرج من جل الأقطار العربية دون قتال إلا في اليمن طرد بعد كفاح مسلح دام لسنوات، وكذلك حركة 48 الدستورية كانت أول ثورة مسلحة في العالم العربي ضد ملك (الإمام) أو دولة ملكية ولعلها كانت الباكورة التي قصت شريط الحركات والانقلابات التي شهدها العالم العربي بعد ذلك.

ما يقتضي ملاحظته بأن تاريخ اليمنيين في التغيير لا يأتي إلا من بوابة الكفاح المسلح، فما من سبيل لفك طبائع الاستملاك والاستبداد إلا بالحراك المسلح وهو ما جعل تاريخ اليمن طويلًا بالأرض قصيرًا للدولة كما قال المؤرخ الأمريكي (1) .

أما الأمر الآخر الذي لازم سيرورة التداول والتغيير في تاريخ اليمن وقد تجلى بعد ثورة 26 سبتمبر بنخبة تملكت السلطة وفضاء الدولة العام وحرمت الآخرين منها، وقد أشار ميكافيلي في كتابه الشهير “الأمير” عن ذلك وهو ينصح حاكم فلورنسا عن طبيعة الثورات وما تخلفها حيث يقول: “يمكن الدخول إليها باستمالة بعض بارونات المملكة. فلا بد من أن يكونوا من الساخطين ومحبي التغيير. وهؤلاء، وللأسباب السابق الحديث عنها، يمكنهم أن يفسحوا الطريق لك، ويجعلون لك النصر سهلا ميسرا. لكن إذا أردت الاحتفاظ بهذا الملك فيما بعد، فإن المشكلات التي ليس لها نهاية تبدأ بالظهور. وسيكون سبب المشكلات تلك هم هؤلاء الذين مدوا لك يد العون، والذين تعسفت معهم على حد سواء. ويصبح التخلص نهائيا منهم غير كاف، لأن النبلاء سيبقون ويتزعمون الثورات الجديدة؛ ولأنك لن تستطيع إرضاءهم أو القضاء عليهم، فستفقد الدولة عندما تحين أول فرصة”(2) . ولعل تشخيص ميكافيلي أصاب به جمهورية سبتمبر الوليدة فبدلًا من النبلاء كان هناك مشايخ القبائل الذين استطاعوا تكوين – مع النخبة الحاكمة – نظام زبائني حاولت ثورة فبراير الخلاص منه فوقعت في مستنقع المخاض التي خلفته تلك المواجهة وظهر على السطح مجددا ما حاولت ثورة سبتمبر الخلاص منه وكأن التاريخ يعيد دورته مجددًا ليحمل هذا الجيل والجيل الذي يليه ذاكرة يقظة وواعية تحرس الجمهورية ومكتسباتها وتحذر من النِّسيان وآفاته.

وفي الأخير تكمن أهمية ذكرى الثورة في سبتمبر في أوجها: حيث لم يظهر تهديد الحوثي بعد، وبالتالي لم تكن ذكرى الثورة في سبتمبر تتعامل مع أشباح الماضي التي تطاردها، ولكنها كانت بدلاً من ذلك في صراع ومحاسبة لأحد المنتجات المنحرفة لجمهورية سبتمبر “نظام صالح”.  وبعبارة أخرى، جسد سبتمبر رؤية للمستقبل دون أن يستهلك نفسه تمامًا في الصراع مع نظام صالح. وما جعل هذا ممكنًا هو أن ثورة فبراير ذاتها قدمت أفقًا خاصًا بها: الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وبناء هوية وطنية تهدف إلى تلافي الانقسامات التي شقت المجتمع خلال العقد الأخير من حكم صالح. ورغم كل التباينات والانشقاقات إلا أن ثورة سبتمبر سيجتمع حولها كل الفرقاء وتستعيد الجهود لبناء جمهورية ثانية تحمل آمال فبراير ومكتسبات سبتمبر ويقظة مستمرة.

الهوامش:

  1. Brian Whitaker,  The Birth of Modern Yemen,2009 ebook, accessed on 26/03/2023, at: https://al-bab.com/birth-modern-yemen-chapter-1

  2. نيكولا ميكافيلي، الأمير، ترجمة: أكرم مؤمن (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 2004) ص117.

فوزي الغويدي

باحث ماجستير تاريخ مهتم بتاريخ اليمن الحديث والخليج والعلاقة بينهما.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى