أشتات

رضوا بأن يكونوا مع الخوالف

لا أظنُّ عاقلًا يَستطيعُ أنْ يَغُضَّ الطَّرْفَ عن وجوهِ التَّوافقِ بينَ عمليَّةِ (طوفان الأقصى) المباركةِ، وعددٍ من غزواتِ الرَّسولِ، صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ففيها شَبَهٌ من (يومِ بدرٍ)، الذي سمَّاهُ اللهُ يومَ الفُرقانِ؛ لأنَّهُ فرَّقَ بينَ أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ، وهذهِ العمليَّةُ مازتِ الخبيثَ من الطَّيِّبِ، وكشفتِ الأقنعةَ عن ألوفٍ ممَّنْ في قلوبهمْ مرضٌ فزادَهم الله مَرَضًا، وزادتْهم هذه العمليَّةُ عُرْيًا وقُبحًا وخِزيًا. وفيها شَبَهٌ من (يومِ أُحُدٍ)؛ لِمَا أصابَ المسلمينَ فيهِ من قُروحٍ مُوجِعَةٍ وآلامٍ مُبَرِّحةٍ، لكنَّ أهلَ الحقِّ مُستمْسِكونَ دائمًا بتلكَ المُعادَلةِ القرآنيَّةِ، التي تملأُ القلوبَ رضًا وسَكينةً: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ). وفيها شَبَهٌ من (يومِ الأحزابِ)، بعدما تواطأَ على النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، وصحابتِهِ الأبرارِ زَعانفُ من المشركينَ والمنافقينَ واليهودِ، وحُوصِرَ المُسلمونَ حِصارًا خانقًا، لنْ تجدَ أبدعَ في وَصْفِهِ من قولِ الحكيمِ العليمِ: (إِذْ جاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ ‌زاغَتِ ‌الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا)، واليومَ تواطأَ الغربُ المنافقُ والشَّرقُ الخانعُ على تلكَ العِصابةِ المُؤمنةِ، تَواطُؤًا لم تعرفِ البشريَّةُ له نظيرًا في الخِسَّةِ والنَّذالَةِ والوَضاعَة، وإنَّا لَنرجو أنْ تكونَ عاقبةُ أمرهمْ كَعاقِبَةِ يومِ الأحزابِ، وأنْ تكتَحِلَ أعيُنُنَا بِتَكرارِ تلكَ البِشارةِ الإلهيَّةِ: (‌وَرَدَّ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُوهَا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا). وفيها شَبَهٌ من (غزوةِ تَبوكَ)، التي أتوخَّى التَّركيزَ عليها، واقتبسْتُ جُزءًا من إحدى الآياتِ القرآنيَّةِ التي نزلَتْ فيها؛ لتكونَ عنوانًا لهذهِ الخاطرةِ، حيثُ إنَّ ثمَّةَ وجوهًا عديدةً للشَّبهِ بينهُما:

أوَّلًا: من حيثُ المَوقِعُ؛ فغزوةُ تَبوكَ كانتْ خارجَ الحُدودِ التقليديَّةِ للجزيرةِ العربيَّةِ، أو قُلْ خارجَ المَناطقِ التي يَنتشرُ فيها العربُ آنذاك، فَمَسْرحُها كانَ تحتَ سَيطرةِ الغُزاةِ من الرُّومِ، لأوَّلِ مَرَّةٍ في تاريخِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ، وعمليةُ (طوفان الأقصى) هي أوَّلُ عمليَّةٍ تُشَنُّ في الأراضي الفلسطينيَّةِ التي اغتُصِبتْ عام 1948م، وكأنَّ اللهَ -جلَّتْ قُدرَتُهُ- يُحقِّقُ على أيدي المُجاهدينَ تلكَ النُّبوءةَ النبويَّةَ يومَ الأحزابِ: «الآنَ ‌نَغْزُوهُمْ، ‌وَلا يَغْزُونَا». 

ثانيًا: من حيثُ التَّوقُّعُ؛ فلمْ يكنْ يَجْرِي في خَيالِ الرُّومِ يَومًا أنْ يُهاجِمَهم أولئكَ الذينَ يروْنَهم أعرابًا حُفاةً عُراةً في عُقْرِ دارِهم، كما لم يَجْرِ في وَهْمِ الصَّهاينةِ أنْ تقومَ تلك المُقاومةُ المُحاصَرَةُ منذُ بضعةَ عشرَ عامًا بهذه العمليَّةِ العبقريَّةِ، ضدَّ واحدٍ من أقوى جيوشِ العالمِ، والذي ترهَبُهُ دُولُ المنطقةِ مُجتمِعَةً، فكيفَ تَجَرَّأَتْ عليهِ تلك الفِئةُ القليلةُ العَدَدِ والعُدَّةِ؟! ولذا يُجمِعُ المُحلِّلونَ قاطبةً على أنَّ أكبرَ لَطْمةٍ لِلكيانِ الصُّهيونيِّ المُحتلِّ هي لَطْمةُ الفشلِ الاستخباراتيِّ الذَّريعِ، على طولِ فَخْرِهم بامتلاكِ أحدِ أعتَى أجهزةِ الاستخباراتِ في العالمِ. 

ثالِثًا: من حيثُ النَّتائجُ؛ حيثُ كانتْ غزوةُ تَبوكَ مُقدِّمةً لفتحِ بلادِ الشَّامِ بأَسْرها، وتحريرِ بيتِ المقدسِ من دَنَسِ الرومانِ، وكَسْرِ شَوكةِ الدَّولةِ الرُّومانيَّةِ، ولَسْتُ أتردَّدُ في أنَّ عمليَّةَ طوفان الأقصى قد مرَّغَتْ أنوفَ الصَّهاينةِ في التُّرابِ، وأَسَفَّتْهُم المَلَّ، وأَسْقَطتْ أُسطورَتَهُمْ من حَالقٍ، وأنَّها بإذنِ اللهِ مُقدِّمةٌ لِفتحِ بيتِ المقدسِ، وما أراها إلَّا المَعركةَ قبلَ الأخيرةِ، واللهَ نسألُ أنْ يُحْيِيَنا لِتَقَرَّ أعيُنُنَا بدخولِ المُوحِّدينَ المسجدَ الأقصى، كما دخلَوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ. 

رابِعًا: من حيثُ تبايُنُ القُوى؛ فقد كانتِ الدَّولةُ الرُّومانيَّةُ أعتى القُوى على وجهِ الأرضِ آنذاكَ، وكانتْ تُشبِهُ إلى حَدٍّ كبيرٍ أمريكا في زمانِنا هذا، بينما كانتِ الدَّولةُ الفارسيَّةُ تشبهُ رُوسيا الآن، وكانَ العربُ خارجَ مُعادلَةِ القُوَى تمامًا، واليومَ لا مُقارنةَ بينَ الجيشِ الصُّهيونيِّ والمُقاومةِ من حيثُ المعاييرُ الماديَّةُ للقوَّةِ، فجاءتِ العمليَّةُ المُباركةُ مُعاكِسَةً لِنوامِيسِ القُوى العسكريَّةِ، وكاسرةً لهيبةِ ذلك الجيشِ الذي تَفرَقُ منه الأنظمةُ العربيَّةُ، ومُقدِّمةً لاستئصالِ هذا الوَرَمِ السَّرطانيِّ بالكُليَّةِ، وسبيلًا لِتطهُّرِ البشريَّةِ منْ نَجاسَتِهم الأزليَّةِ. 

خامِسًا: من حيثُ السَّبَبُ؛ فقدْ تواترتِ الأنباءُ إلى النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ الرُّومَ يُعِدُّونَ العُدَّةَ لهجومٍ كاسحٍ على الدَّولةِ الإسلاميَّةِ الفتيَّةِ، فرأى النَّبِيُّ المَعصومُ أنَّ الهُجومَ خيرُ وَسيلةٍ لِلدِّفاعِ، وأنَّ الحكمةَ تقتضِي مُهاجمةَ الرُّومِ في عُقرِ دارِهم، وإسقاطَ هَيْبَتِهم من قلوبِ المُسلمينَ؛ ممَّا كانَ مُقدِّمَةً للفتحِ الشَّاملِ زمنَ الخلفاءِ الرَّاشدينَ، وهو ما تكرَّرَ حَرفيًّا، حيثُ توالتِ المؤشِّراتُ والإرهاصاتُ بعمليَّةٍ كُبرى يُخطِّطُ لها الصَّهاينةُ، تحتَ قيادةِ سَفَّاحٍ مَسْعورٍ، مُتعطِّشٍ للدِّماءِ، فكانتِ المبادرةُ إليهِ أفضلَ سبيلٍ لإرباكِهِ، وإفسادِ خُطَطِهِ الشَّيطانيَّةِ. علمًا بأنَّ رجالَ المُقاومةِ ليسوا في حاجةٍ إلى تعليلٍ لِهجومِهم؛ لأنَّ وجودَ الاحتلالِ أَصْلًا، يفرضُ عليهم شرعًا جِهادَ الدَّفعِ، ويُبيحُ لهم قانونًا المقاومةَ بكلِّ الوَسائلِ المُتاحةِ لتحريرِ بِلادِهم. 

سادِسًا: من حيثُ الصُّعوباتُ، فقد لقي المُسلمونَ في غزوةِ تَبوكَ صُعوباتٍ مُضنيةً، بسبب بُعْدِ المَسافةِ، وشدَّةِ الحرارةِ، وقلَّةِ المُؤنَةِ بجميعِ عناصرِها من مالٍ ودَوابَّ وطَعامٍ وسلاحٍ، وانتظارِ مَوسمِ جَنْي النَّخيلِ، ولذا سُمِّيتْ بِغزوةِ العُسْرَةِ، ولكنَّ الصحابةَ الأوائلَ تَجاوزُوها بما ألقى الله في قلوبهم من حُبِّ التَّضحيةِ والفِداء، وبما قدَّمَهُ الأجوادُ الأبرارُ، وعلى رأسِهم عُثمانُ بنُ عفَّانَ، رضي الله عنه، من عطاءٍ، والآنَ معظمُ دولِ العالمِ تُعانِي من أزماتٍ اقتصاديَّةٍ طاحنةٍ، قد تحملُ كثيرًا من الدَّاعِمينَ على قَبْضِ أيديهم، ناهيكَ عن اختلالِ مَوازينِ القُوى، والضَّعفِ والهوانِ المُسيطرينِ على العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ، ولكنَّ المقاومَةَ تعالتْ على تلك العقباتِ الجسامِ بِهِمَمِ الأبطالِ، وما منح الله رجالاتِها من صبرٍ وثباتٍ وعزيمةٍ تنهدُّ منها الجبالُ. 

سابعًا: من حيثُ التَّعْرِيَةُ؛ فقد كشفتْ غَزوةُ تَبوكَ عن معادنِ الرِّجالِ، فظهر المؤمنونَ الصُّرَحاءُ، وافتُضِحَ المُنافقونَ الأدعياءُ، ولذا سُمِّيَتْ سورةُ (التَّوبةِ) التي نَزلَ مُعظمُها في شأنِ غزوةِ تبوكَ بالفاضحةِ والبُحوثِ والمُبعثرةِ؛ لأنَّها فضحتْ أولئكَ المُنافقينَ المُخلَّفِينَ، وبحثتْ عن أحوالِهم، وبَعْثَرَتِ الرَّمادَ الذي يسترونَ به دَخائِلَهم الخبيثةَ، ولا أظنُّ عمليَّةً عرَّتْ كلَّ شيءٍ كما عرَّتْهُ عمليَّةُ طوفان الأقصى، ابتداءً من النِّظامِ العالميِّ المُنافقِ، الذي يَكيلُ بألفِ مِكيالٍ، ومُرورًا بالأنظمةِ العربيَّةِ الخانعةِ المُتخاذِلَةِ أو العَميلةِ المُتَواطِئَةِ، وانتهاءً بإعلامِ الدَّعارَةِ، وبعضِ شيوخِ الثَّريدِ، ممَّا يَجعَلُنا نُردِّدُ قولَ عَمْرو بن حَرْثانَ العَدْوانِيُّ (ت80هـ) في هجاءِ أحدِ وُلاةِ بني أُميَّةَ:

أَضَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ ثُغُورَنَا

وَأَطْمَعَ فِينَا المُشْرِكِينَ ابْنُ خَالِدِ

 إِذَا هَتَفَ العُصْفُورُ طَارَ فُؤَادُهُ

وَلَيْثٌ حَدِيدُ النَّابِ ‌عِنْدَ ‌الثَّرَائِدِ

بأن يكونوا مع الخوالف1 رضوا بأن يكونوا مع الخوالف

وتتميمًا لمشهدِ الفَضحِ والتَّعريةِ صَنَّفتِ آياتُ سورةِ التَّوبةِ أولئكِ المُخلَّفينَ أصنافًا شتَّى؛ فمنهم المَعْذورونَ من الضُّعفاءِ والمَرضَى، ومنهم الفقراءُ المتطوِّعونَ بأنفسِهم، ولكنَّ النبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، لم يجِدْ ما يَحْمِلُهم عليه، فتولَّوْا ‌وَأَعْيُنُهُمْ ‌تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، ومنهم المُتخلِّفونَ دُونَ عُذرٍ، والذينَ نزلتْ في شأنِهم آياتٌ عديدةٌ، يُطيبُ لي أنْ أتوقَّفَ مع جزءٍ من آيةٍ واحدةٍ منها، اتخذتُهُ عنوانًا للخاطرة، والذي تكرَّرَ في الآيتين (87)، (93) من سورة التوبة، ونَصُّهُما: (رَضُوا بِأَنْ ‌يَكُونُوا ‌مَعَ ‌الخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ ‌يَكُونُوا ‌مَعَ ‌الخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، والذَّمُّ في هذا السِّياقِ القرآنيِّ الفريدِ لهذه الزُّمْرَةِ من القَعَدَةِ الخَوالفِ جاءَ من جهاتٍ عديدةٍ:

أوَّلُها: التَّعبيرُ بِفعلِ الرِّضا؛ مِمَّا يدلُّ على انعدامِ العُذرِ، ومَحبَّةِ القَلبِ، وفي بلاغَتِهِ يقولُ العلَّامةُ محمَّدُ الطَّاهرُ بنُ عاشورٍ (ت1393هـ): «وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ (رَضُوا) إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الحَالِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ العَاقِلُ فِي قَبُولِهِ». 

ثانيها: التَّعبيرُ بالكَيْنُونَةِ مَعَ الخَوالِفِ مُشعرٌ بأنَّهمْ توابعُ وأذنابٌ، وأنَّهمْ مُجرَّدُ كَمٍّ مُهْمَلٍ، لا وزنَ لهم ولا قيمةَ، فهم مُلْقَوْنَ مع الخوالفِ، كما تُلْقَى المُهملاتُ في صناديقِ القِمامةِ. 

ثالِثُها: التَّعبيرُ بالوَصْفِ (الخَوالفِ) دونَ الفِعلِ: أنْ يَتخلَّفوا، وفي بلاغَتِهِ يقول ابنُ المُنيَّرِ السَّكَنْدَريُّ (ت683هـ) في حاشيته على تفسيرِ الكشَّاف: « وكثيرًا ما وردَ في القرآنِ العُدولُ عن التَّعبيرِ بالفعلِ إلى التَّعبيرِ بالصِّفَةِ المُشتقَّةِ، ثُمَّ جَعْلُ المَوصوفِ بِها واحدًا من جَمْعٍ، والسِّرُّ في ذلكَ أنَّ التَّعبيرَ بالفعلِ إنمَّا يُفْهِمُ وُقوعَهُ خاصَّةً، وأمَّا التَّعبيرُ بالصِّفَةِ، ثمَّ جعلُ الموصوفِ بها واحدًا من جمعٍ، فإنَّه يُفْهِمُ أمرًا زائدًا على وقوعِهِ، وهو أنَّ الصِّفَةَ المَذكورةَ كَالسِّمَةِ لِموصوفٍ ثابتةِ العُلُوقِ بِه، كأنَّها لَقَبٌ، وكأنَّهُ من طائفةٍ صارتْ كالنَّوعِ المَخصوصِ المَشهورِ ببعضِ السِّماتِ الرَّديئَةِ، واعتبرْ ذلكَ لو قُلْتَ: ‌رَضُوا ‌بأنْ ‌يَتَخَلَّفوا، لَمَا كانَ في ذلكِ مَزيدٌ على الإخبارِ بِوقوعِ التخلُّفِ منهمَ لا غَيْرَ، وانظرْ إلى المَساقِ، وهو قولُهُ: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوالِفِ) كَيْفَ أَلْحَقَهُمْ لَقبًا رديئًا، وصَيَّرهُمْ من نَوْعٍ رَذْلٍ مَشْهورٍ بِسِمَةِ التخلُّفِ، حتَّى صارتْ له لَقبًا لاصِقًا به».

رابعُها: التَّعبيرُ بصيغةِ جمعِ التَّكسيرِ (الخَوالفِ) دونَ الخَالفينَ أو المُخلَّفينَ اللَّتَيْنَ تكرَّرتَا في السُّورةِ ذاتِها، وصِيغةُ (فَواعِل) في جمعِ التَّكسيرِ إنَّما تُكونُ في جمعِ ما لا يَعقلُ، مثلَ: خواتم وصَوامع وجَواهر وشَواهق وصَواهل، أو جمعِ المُؤنَّثِ، مثلَ: فواطم وصواحب وحوائض وطوالق وطوامث، فهمْ كالجماداتِ التي لا تعقلُ، أو كالنساءِ القاعداتِ في البُيوتِ، يقولُ ابنُ عاشور: «والخَوَالِفُ: جَمْعُ خَالِفَةٍ، وَهِيَ المَرْأَةُ الَّتِي تَتَخَلَّفُ فِي البَيْتِ بَعْدَ سَفَرِ زَوْجِهَا، فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ فَهِيَ الظَّعِينَةُ، أَيْ رَضُوا بِالبَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ»، وفي هذا من الذمِّ ما فِيه، فَهُمْ كالنِّساءِ القاعداتِ في البيوتِ، وليس في هذا احتقارٌ للمرأةِ مُطلقًا، وإنَّما هو بيانٌ لأنَّ دَوْرَها الأكبرَ قد يكونُ في البيتِ، بينما مَشاقُّ القِتالِ إنَّما يَضْطَلِعُ بها الرِّجالُ، كما قال عُمَرُ بنُ أبي ربيعةَ (ت93هـ):

كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى ‌الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ

خامسُها: إتباعُ هذا الوَصْفِ الجارحِ بالطَّبْعِ على القُلُوبِ، كأنَّ أفئِدتَهم أوعِيَةٌ غُلْفٌ خُتِمَ عَلَيْها، فلا تَعرفُ مَعْروفًا، ولا تُنْكِرُ مُنْكرًا، ثمَّ نَفْيُ الفقهِ عنهم في الآيةِ الأولى، ونفيُ العلمِ في الآيةِ الثانيةِ، فَهُمْ بإيثارِهِمْ هذا السُّلوكَ الشَّائنَ لَيْسُوا أهلًا لِأَنَّ تتحلَّى قلوبُهم بنورِ الفقهِ والبصيرةِ، ولا أنْ تتجلَّى في نفوسِهم المُظلِمَةِ مَصابيحُ المعرفةِ المُنيرة، وتلكَ سِمَةٌ ملازمَةٌ لَهم، بما يدلُّ عليهِ الفِعلُ المُضارعُ منَ التَّجدُّدِ والاستمرارِ، ولو فَقُهُوا أو عَلِمُوا لَأدركوا ما في الجِهادِ منْ عزٍّ وفخارٍ، وما في القعودِ من عارٍ وشَنارٍ!

ولا أجدُ أمثلَ في التَّعليقِ على هذا المَشهدِ الكُلِّيِّ، المُعجِزِ دِقَّةَ تعبيرٍ وبراعةَ تَصويرٍ، من قولِ سيِّد قُطب (ت1966م) رحمه الله: «إنَّ للذُّلِّ ضريبةً كما أنَّ للكرامةِ ضريبةً، وإنَّ ضريبةَ الذُّلِّ لَأَفْدحُ في كثيرٍ من الأحايينِ، وإنَّ بعضَ النُّفوسِ الضَّعيفةِ لَيُخَيَّلُ إليها أنَّ للكرامةِ ضريبةً باهظةً لا تُطاقُ، فَتختارُ الذُّلَّ والمَهانةَ؛ هَربًا من هذه التكاليفِ الثِّقالِ، فتعيشُ عيشةً تافهةً رخيصةً، مُفزَّعَةً قَلِقَةً، تَخافُ مِنْ ظِلِّها، وتَفْرَقُ من صَدَاها، يَحْسَبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عليهم، وَلَتَجِدَنَّهم أحرصَ النَّاسِ على حياةٍ. هؤلاءِ الأذلَّاءُ يُؤدُّونَ ضَريبةً أفدَحَ مِنْ تكاليفِ الكَرامَةِ، إنَّهمْ يُؤدُّونَ ضَريبةَ الذُّلِّ كاملةً، يُؤدُّونَها من نُفوسِهم، ويُؤدُّونَها من أقدارِهم، ويُؤدُّونَها من سُمْعَتِهم، ويُؤدُّونَها من اطمئنانِهم، وكثيرًا ما يُؤدُّونَها من دمائِهم وأموالِهم وهم لا يَشعرونَ».

وختامًا: 

فَمَهْمَا كانتْ رائحةُ الخِذلانِ تزكُمُ الأنوفَ بِعَفَنِها وفظاعَتِها، ومَهْمَا كانتْ هيئةُ الخَوالفِ مُقزِّزَةً بِحقارَتِها وشناعَتِها، ومَهْمَا تكأكأتْ جَحافِلُ المُرجفينَ على المُقاومةِ لِشَيْطَنَتِها وتَشويهِ صُورتِها، ومَهْمَا أمعنَ المُنظِّرونَ من خَوابيرِ الفكرِ الاستراتيجيِّ في التَّضخيمِ من قوَّةِ العدوِّ والتَّرهيبِ مِنْ سَطْوَتِها، ومَهْمَا هَرْطَقَ فَلاسِفَةُ بيزنطةَ بشأنِ إلقاءِ المُقاومَةِ بنفسِها إلى التَّهلُكَةِ بِفَعْلَتِها، ومَهْمَا رَفَعَ كُلُّ سَمِجٍ لَمِجٍ عَقِيرَتَه بالدَّعوةِ إلى الجِهادِ بالسُّنَنِ بدلًا من الأسلِحةِ ورَهْبَتِها، فليسَ فيهمْ مُسْكَةٌ من عَقْلٍ أو مُروءةٍ أو إنسانيَّةٍ تُؤهِّلُهمْ للرَّدِّ عليهِمْ، ولَكِنَّنَا نَكْسَعُهُمْ بقولِ الشَّاعرِ:

خَلَقَ اللهُ لِلْحُرُوبِ رِجَالًا

وَرِجَالًا ‌لِقَصْعَةٍ ‌وَثَرِيدِ

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى