أشتات

سؤال الفوبيا: الأسباب والعلاج

يجن على أحدهم الليل فيجفل خائفًا. ثمَّة خشية مرهقة من الثَّعابين، من الأصوات، كأصوات الطائرات، أو ركوبها، الخوف من الجمهور، المرتفعات، الغرباء، الجنس، المرح، إلى غير هذه التَّخوفات القائمة في وجدان الكثير من البشر، خاصة فيما يخص الآثار النَّفسية العميقة التخوفية التي تتركها الحرب. بناءً على دراسة أمريكية فإنَّ ضحايا الحروب النَّفسية ضعف ضحايا الإصابات الجسدية. النَّصائح الغاضبة من الصَّحيح إلى المريض، لا تجدي نفعًا، مهما كانت منطقية، وصحيحة، فليس في مقدور ذلك المقرور في أصفاده، أن يقبلها على مستوى الشعور، فضلًا عن أن يطبقها على مستوى الواقع.

لماذا نخاف إذن، في الوقت الذي ندرك تمام الإدراك عدم منطقية هذا الخوف، ولكننا لا نستطيع أن نتجاوز هذا المُشكِل، ونبق نراوح مكاننا، بطريقةٍ مؤذية جدًا، ومرد الأذى إلى وعينا المدرك باللا منطقية وهذا المُشكِل الذي ينتابنا؟

الأسباب:

ثمَّة حالة مرضية نادرة جدًا، حدثت لعالم نفسٍ فرنسيٍّ، في أوائل القرن العشرين. مريضة أُصيبت بفقدان نادر من نوعه في الذَّاكرة، مدَّة تذكرها للأحداث ربع ساعة فقط، ثمَّ يتلاشى كل شيء، وتبدأ بذاكرة جديدة لمدة ربع ساعة أخرى، رغم توفرها على السَّمع والبصر واللياقات الأخرى. تحدثها فتحدثك، تحييها فتحييك. بعد سبعة أشهر من لقائها بعالم النفس، عادت إليه، فحياها، وردت عليه التَّحية، ولكنها في ذاكرتها أمام دكتور جديد، هذا الدكتور يتجدد كلُّ ربع ساعة، بينما هو ذات الدكتور النَّفسي. مد يده مصافحًا إياها، مدت يدها هي الأخرى، شك دبوسًا صغيرًا بيدها، ففزعت، وانزعجت، وبمرور ربع ساعة ستنسى تمامًا انزعاجها وشكة الدبوس تلك. ذهبت إليه في اليوم الثاني، حياها، فردت عليه التَّحية، بيد أنه حين مدَّ إليها يده مصافحًا، رفضت أن تمد إليه يدها. هنا تبلور التَّحدي الأكبر لعلم الأعصاب. صعق العلماء، ولم يحيروا جوابًا. حيرتهم وانصعاقهم يكمنان في السؤال الآتي: هناك نموذج معين، يفهم به الدماغ، هذه الحالة المرضية تصادمت وهذا النموذج، النموذج يقول: كيف للمرء أن يبرر مخاوفه بطريقة مفهومة ومنطقية، إذا لم يزوده مخزن الذاكرة والذكريات بمعلومة مفهومة ومنطقية؟

المرأة كما علمنا لا تمتلك ذاكرة حتى ترفض المصافحة، فلماذا رفضت، وكيف حدث ذلك؟

بعد قرابة ٣٥ عامًا، فهم العلماء ردة فعل المرأة المريضة، وذلك حين فهموا عمل اللوزة الدماغية “الأميجدالا”، مميزات هذه اللوزة أنَّ لديها ذاكرة مستقلة بها، تختلفُ عن الذَّاكرة الطَّويلة والقصيرة للإنسان، ولكنها ذاكرة تبعث على المأساة، بقدر ما تحافظ على الإنسان وتحرسه من الأخطار، فهي ذاكرة لا قدرة لها على التَّجريد، وإنما تكمن قدرتها على التَّداخل والاشتباك، فخشخشة الثعبان التي سمعتها يومًا ما وفزعت منها، ستسمعها مرة أخرى، وسينتابك الخوف ذاته، حين تسمع خرير الماء، أو صوتًا مشابهة لما أفزعكَ أول مرة. بالإمكان أن نسمي هذه الذَّاكرة، بذاكرةِ الخوف، سر حماية الإنسان ومأساته في آن. أجرى العلماء تجربة على مجموعة من قرود البراري -قرود البراري مقارنة إلى قرود الحدائق والأقفاص أكثر خبرة ودراية بالثعابين، وأكثر تعرضا للدغ- وُضعوا في قفص، وقدموا لها طعامًا شهيًّا، مثل الموز، أو اللوز، وبجوار هذا الطعام وضعوا ثعبانًا بلاستيكيًا. جميع القرود كانت تنظر إلى الطعام وتشتهيه، ولكنها لم تجرؤ على أخذه. أخرجوا قردًا واحدًا من القفص، واستأصلوا لوزته الدماغية، وأعادوه إلى القفصِ رفقة القرود السَّابقة، مباشرة اقترب نحو الطعام وأكل، ولم يعبأ بشأن الثعبان!

يتَّضح أنَّ الفوبيا بعمومها خوف غير منطقي، كما يتضح أنَّ اللوزة الدماغية وراء هذا المُشكِل الذي يحمينا ويأسينا، ولكنها تأسينا دون شكٍ في خلق الفوبيات إن جازت العبارة، حيث تداخل الصحيح بالغلط، والمخيف بغير المُخيف.

الفوبيا الأسباب والعلاج1 2 سؤال الفوبيا: الأسباب والعلاج

العلاج:

نوعان من العلاج، كيميائي، وتقليدي، وقبل أن نتحدث عنهما، أود التنويه إلى العلاج الأساسي، وهو العلاج المعرفي. أن تقرأ هذه المقالة، أو غيرها في هذا الشأن، وتعرف السبب أو الأسباب التي أوقعتك فيما أنت فيه من خوف، فهذا في حد ذاته علاج، يخفف عنك أعباء كثيرة، أقلها رفض التُّهمة من قبل الآخر، أو نظرتك إلى ذاتك شزرًا، نظرة انتقاص وألم، وبالتالي تجاوز مخاوفك، بل تجاوز خوفك من خوفك، فأنت حين تخاف الجمهور مثلًا، تضيف إلى ذلك خوفًا آخر، وهو خوفك من خوفك أن تخطئ، أو ألا تظهر على النَّحو الذي ترجو.

للعلاج الكيمائي آثار جانبية، والأولى عدم الالتجاء إليها، إن أمكن. من ذلك علاج”Cycloserine” “سيكلوسيرين” يعمل هذا الدواء على كبح الرهاب، ولكنه لا يعمل على كبح الذكريات، كما يعمل على كبح الشحنة العاطفية المتصلة بالمأساة، ويؤثر على اللوزة الدماغية، وله آثاره الجانبية كما ألمعنا، ولا يتناول إلا عن طريق وصفة طبية من قِبل طبيبٍ مختص.

طريقة العلاج التقليدي، أو السلوكي، طريقة اسمها العلاج بالغمر، لها مركز مشهور في ألمانيا، لخص ماهيتها الإمام علي عليه السلام حين قال:  “إذا هبت أمرًا فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم مما تخاف منه”. إذا أردت أن تتعلم السباحة، بأقصر طريقة، فألقِ نفسك في الماء. تكمن عبقرية هذه الطريقة، في توتر المصاب بالفوبيا كلما أقدم على ما يخاف منه، بحيث يرتفع ذلك التوتر مرحلة تلو أخرى، إلى درجة أشبه بغليان الماء، حيث يصِل إلى 100 درجة مئوية، بعدها يبدأ ذلك التوتر بالانخفاض. لنأخذ مثالًا، وليكن هناك شخصًا خائفًا من المرتفعات، لنأخذه معنا في برج زجاجي من خلال سلالم البرج الداخلية، بمجرد أن تحدثه بالفكرة ستثور لديه حالة التوتر، حتى إذا ما خطونا خطواتنا الأولى وإياه في سلم البرج ارتفع توتره، وكلما تجاوزنا طابقًا أو طابقين، توتره في ارتفاع، ولكنه في النهاية سيخفت ويتلاشى عند نقطة معينة، ولن يحدث له شيء مما يخاف منه مطلقًا.

ثمَّة طريقة أخرى للعلاج، مشهورة إلى حدٍ ما، اسمها: ” أي أم دي أر”. أي إعادة معالجة ونزع حركة حساسية العين. يمارسها قرابة 25 ألف معالج حول العالم. تقوم هذه الطريقة العلاجية بأن يحرك المعالج يده أمام المريض وهو يحرك عينيه تبعًا لحركة اليد، أين ما تحركت اليد تتحرك العينين. تستند هذه الطريقة إلى المنطق العلمي، أو النموذج العلمي، القائل بأن الدماغ دماغان، دماغا منطقيًا، ودماغًا عاطفيًا، ولكنهما متناغمان في عملهما، ولأن المخاوف غير منطقية، يحاولون أن يعيدوا التناغم والانسجام إلى طبيعته بين ما هو عاطفي وبين ما هو منطقي. مثال ذلك، شخص يخاف من قيادة الدراجات النارية، وهناك مثير شَرطي، وهو صوت معين، سنفتح هذا الصوت المثير لكي نُسمِعه إياه، حينها هذا الشخص سيشعر كما لو أنه يقود دراجة نارية، ذلك أن المُثير الشَرطي يفعل ذات فعل المثير الأصلي، وفي نفس الوقت يتم تحريك يدي المعالج، أو جهاز آخر تم صنعه لهذا الغرض، يصدر أضواء بالتناوب وعلى المريض ملاحقتها بكلتا عينيه. ما يحدث أنه يتخفف من الشحنة النفسية قليلًا قليلًا، حتى يتعافى من رهاب قيادة الدراجة. هذه التجربة العلاجية ناجعة ما نسبته 80%.

إنَّ الفوبيا مبالغة تتخلق إثر شروطها، وغاية المُصاب يجب ألا تُحصَر في تجاوزها فحسب، وإنما إنجازها كفهم، ومعالجتها دون حراجة، ورفض الإزراء الذي يتعقبه من نفسه، ومن المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى