مِنَ العلماءِ مَنْ تَتَّجِهُ هِـمَّتُه إلى التأليفِ والتَّصنيفِ، فَيُثْري المكتبةَ بمئاتِ الأسفارِ، وإنِ اعتزلَ النَّاسَ، أو توارَى خلفَ الأسوارِ، وخيرُ مثالٍ على ذلك أبو العلاءِ المعرِّيُّ (ت449هـ)، وجلالُ الدَّينِ السُّيوطيُّ (ت911هـ)، ومنهم مَنْ يستفرغُ طاقَتَه في الدَّعوةِ والخطابةِ، مُغَلِّبًا الأداءَ الشَّفويَّ الجماهيريَّ على التأليفِ العلميِّ المنهجيّ من أمثالِ الشيخِ عبد الحميد كشك (ت1996م)، والشيخِ محمد متولى الشَّعراويّ (ت1998م)، وإن كان بعضُ التلاميذِ وأصحابِ دورِ النَّشرِ قد جمعوا تلك الأحاديثَ في كتبٍ مطبوعةٍ لمآربَ شتَّى. ومنهم مَنْ يجعلُ العبادةَ والتربيةَ بالقدوةِ غايَتَه، مُؤمنًا أنَّ حالَ رجلٍ في ألفِ رجلٍ خيرٌ من قَوْلِ ألفِ رجلٍ في رجلٍ، ومُعتقدًا أنَّ الناسَ إلى إمامٍ فَعَّالٍ أحوجُ منهم إلى إمامٍ قوَّالٍ، وهذا المسلكُ أعزَّها وأعسرُها مَطلبًا، فما أعظمَ الـمُتَكَسِّبينَ سَلَفًا من أرباحِ المؤلَّفاتِ، وما أكثرَ المرتزِقَةَ بالأحاديثِ الـمُتَلْفَزِةِ في زمنِ الفَضَائِحِيَّاتِ، ولعلَّ خيرَ مثالٍ لهذا النَّمطِ العزيزِ هو رهينُ المحرابِ، القانتُ الأوَّابُ الدكتورُ أسامة عبد العظيم، طيَّبَ الله ثراه، وأحسنَ في الجنَّةِ مَثْواه.
فقد ضربَ الرَّجُلُ أروعَ الأمثلةِ في العقودِ الأخيرةِ في التربيةِ بالقدوةِ؛ إذِ انصرفَ عنْ مُعْتركاتِ السياسَةِ بعد أنْ كانَ مُتَوَرِّطًا في أوحالِها صدرَ شَبابِه، ونأى عن بريقِ الظُّهورِ الإعلاميِّ الذي يستهوي الأغمارَ، ويخطَفُ الأبصارَ، وزَهِدَ في متاعِ الدُّنيا الفانيةِ، واستفرغَ طَاقَتَهُ في التزوُّدِ للآخرةِ الباقيةِ، واجتهدَ كلَّ الاجتهادَ في العبادةِ والتبتُّلِ في المحرابِ، آخذًا نفسَهِ بعزيمةٍ دونها الجبالُ الرَّاسياتُ، ومُعِيدًا في الواقعِ المعاصرِ ما كنَّا نقرأهُ في سيرِ الصَّحابةِ والتابعين، والزُّهَّادِ المتبتِّلِين، وكان منَّا مَنْ تسوِّلُ إليه نفسُهُ أنْ يرمِيَ رواةَ تلكَ الأخبارِ بالتزيُّدِ والمبالَغَةِ، فجاءَ الرجلُ بنمطٍ سبقَ بهِ غيرَهُ سَبْقًا مُبينًا، فلا نعرفُ أحدًا يُباريهِ في أبوابِ العِبادةِ، أو يقاربُهُ في طولِ القيامِ، وأحاديثُهُ في هذا البابِ مستفيضةٌ، حتَّى باتت علمًا عليه، وسمةً للمسجدِ الذي كان يختمُ فيه القرآنَ كل ثلاثة أيامٍ تقريبًا في رمضانَ وغيره، فربما قرأ البقرةَ في الركعةِ الأولى، وقرأ آلَ عمرانَ والنساءَ في الركعةِ الثانيةِ، وكثيرًا ما كانتْ تستمرُّ صلاةُ المغربِ في مسجدِهِ حتَّى يدخُلَ وقتُ العِشاءِ، ولا تنقضِي صلاةُ العشاءِ إلَّا في منتصف الليلِ، حيثُ كان يقرأ فيها خمسةَ أجزاءٍ عادةً، وفي رمضانَ كانتْ صلاةُ القيامِ تستمرُّ حتى قُبيلَ الفَجر، فَيَسْتعيدُ المصلُّون هناكَ ما أُثِرَ عنْ بعضِ السَّلفِ أنَّهم كانوا يقومونَ حتَّى يوشكَ الفجرُ، فيستعجلونَ خُدَّامَهُمْ بالسَّحورِ، وكأنَّما كانَ حالُ الرَّجُلِ مع ربِّه يُنسيهِ الدُّنيا كُليًّا، فينبذُ صَوارفَها وَراءَهُ ظِهْريًّا، وقد سمعْتُ أنَّ أحدَ الشَّبابَ صلَّى وراءَهُ يومًا، فقرأ بخمسةِ أجزاءٍ، فأرسل إليه رسالةً قال فيها: إنَّ الذي يُصلِّي خلفَكَ يحتاجُ إلى عمودٍ فقريٍّ من الحديدِ الصُّلْبِ، وإلى رأسٍ من البلاستيكِ الـمَرِنِ، وإلى ركبتينِ من الإسمنتِ… وكذا وكذا، فقرأ الشيخُ رسالتَهُ علانيةً، ثم قال له: «إنْ كنتُ تَصَلِّي بحولِكَ وقوَّتِكَ، فأنتَ تحتاجُ إلى ما ذَكَرْتَ، أمَّا إنْ كنتَ تَستعينُ بحولِ الله وقوَّتِهِ، فلا تحتاجُ إلى شيءٍ منْ هذا»، وهو ما يجعلُنا لا نَستَكثِرُ أو نَستنكِرُ ما رُوِيَ أنَّ عُروةَ بنَ الزُّبيرِ (ت93هـ)، رضي الله عنه، سَرَتِ الآكِلَةُ في رِجْلِهِ، فقرَّرَ الأطِبَّاءُ بَتْرَها، وطَلبوا منه أنْ يَشْرَبَ (الـمُرْقِد)، وهو شرابٌ مُنوِّمٌ مثلُ الـمُخَدِّرِ الآنَ، فأبى، فطلبُوا منه أن يشربَ خمرًا؛ ليغيبَ عن الوَعْي، فأبَى، فقال لهم: دَعُوني أُصلِّي، فإذا أنا قُمْتُ للصَّلاةِ، فشأنَكم وما تريدون! فقطعوا رجلَه، دون أنْ يُحَرِّكَ سَاكنًا.
ولم يكنْ هذا من الرَّجلِ طفرةً عابرةً، كما يحدثُ وقتيًّا لبعضِ الناسِ لعواملَ مُعيَّنةٍ، ولكنَّهُ كان منهجَ حياةٍ؛ حافظَ عليه عُقودًا عديدةً، حتَّى إنَّه كانَ وقد جاوزَ السِّتينَ، وطعنَ في السَّبعينِ، واستبدَّ به المرضُ الـمُوهِنُ يُهَادَى بينَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ، فإذا قامَ في قِبْلَتِه التي هي رُوحُه، كأنَّما عادَ الشَّيْخُ إلى صِبَاه، لا في القُوَّةِ والباه، وإنما في طولِ القيامِ بالصَّلاة، وقد تواتَرَ أنَّه ختم القرآنَ الكريمَ في محرابِ مِسْجده أكثر من ألفَيْ مرةٍ، وليس ببعيدٍ؛ لأنَّه كان يختمَ القرآنَ مرتين كُلَّ أسبوعٍ في الصلواتِ الجهريَّةِ، وكأنَّما السَّنَةُ كلُّها عنده رمضانُ، وهو رقمٌ بزَّ به مَنْ سَبَقَه، وعزَّ على مَنْ يلحقُه، ولم يكنِ الـمُصلُّونِ في هذا المسجدِ يتأفَّفونَ أو يضجرونَ، فقد كانَ مَسْلَكُهُ عَلَمًا عليه، والرَّجلُ ما كان يُجبرُ أحدًا على أن يأتيَ إليه، والمساجدُ حولَه في منطقةِ البساتينِ بالسيدةِ عائشةِ كثيرةٌ، ولكلِّ مَنْ أراد التخفيفَ فيها مُتَّسَعٌ، وكأنَّما اختارَ الله له جمهورًا على شاكِلَته، واصطفى لذلكِ الجمهورِ مَنْ يؤُمُّهم بما يرغبونَ فيه، ويرغبونَ عمَّا سواه، وإنْ تعجبْ فعجبٌ ألَّا تَرَى موطِئَ قدمٍ في مسجِدِهِ ذِي الطَّوابِقِ السَّبْعةِ، وأن يضيقَ عن الـمُعْتكفين في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، وأنا أعرفُ منْ فضلاءِ الموظَّفين مَنْ كانَ يتقدَّمُ سنويًّا بطلبٍ للإجازةِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ؛ لِيعتكفَ معه، لا يَبْغِي بذلكَ بَدَلًا، ولا يجدُ عَنْهُ حِوَلًا! ولم يكنْ هذا حالَه في المسجدِ فحسبُ، بل كان كذلكَ في مقرِّ عَمَلِه بكليَّةِ الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ والعربيَّةِ للبنينَ بالقاهرةِ، فكان إذا سمعَ الأذانَ أثناءَ المحاضرةِ أو المناقشةِ قطعها على الفورِ، ونهضَ مسرعًا لأداءِ الصَّلاةِ دون إطالةٍ، ثمَّ عاد ليستأنفَ عَمَلَه، وكأنَّما فاء (فَاسْعَوا) بكلِّ ما تحمله من دلالاتِ الترتيبِ والتعقيبِ، وظلالِ السُّرعَةِ والفَزعةِ لا تقتصرُ على صلاةِ الجُمعةِ وحدَها، بل تطَّردُ في الصَّلَواتِ جميعًا!
وقد تركَ الرَّجُلُ مؤلفاتٍ عديدةً في مجالِ تخصُّصِه في أصولِ الفقهِ وغيرِه، وأخذَ عنه تلاميذُه هذا العلمَ العزيزَ، فسهَّل لهم وَعْرَ مختصَرِ ابنِ الحاجبِ، وطرائقَ الاستدلالِ والاستنباطِ والقياسِ وغيرها من الأبوابِ العسيرةِ المطلَبِ، وأثَّرَ في جُمهوِره الخاصِّ جدًّا بمواعِظِه الصَّادقةِ البريئةِ من التكلُّفِ، والتي تعيدُ إلى ذهنِكَ مواعظَ ابن الجوزيّ (ت597هـ) في أسمَى مَعانِيها، ولكنْ له في بابَي التأليفِ والوَعظِ أقرانٌ كثيرٌ، أمَّا المقام الذي انفردَ به عمَّنْ سِواهُ، وعزَّ أن تجدَ له فيهِ نظيرًا، والذَّي أسَّسَ فيه مدرسةً مستقلةً لا يُباريهِ فيها مُبَارٍ، ولا يُجَاريه مُجارٍ، هو مقامُ العبادةِ والسُّلوكِ، بكلِّ ما يحمِلُهُ المقام منْ معاني التَّواضعِ والإخباتِ، والاحتشامِ التامِّ، والعِفَّةِ الكاملةِ في اللِّسانِ، والزُّهدِ الصَّادقِ في الدُّنيا، والجدِّ الذي لا يُبَارى في العِبادةِ، وكأنَّما أراهُ ربُّه أنَّه الطَّريقُ الأقومُ، والسبيلُ الأعظمُ، وهو ما يذكِّرنا بما ورد أنَّ أحدَهم رأى الجُنَيْدَ البَغْداديَّ (ت297هـ) في المنامِ، فقالَ له: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فقال: «طَاحَتْ تلك الإِشَارَات، وَغَابَتْ تلك العِبَارَات، وَفَنِيَتْ تلك العُلوم، وَنَفِدَتْ تلك الرُّسُوم، وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رُكَيْعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الأَسْحَارِ».
ويقيني أنَّ الشيخَ وأمثالَهُ من الرُّكَّعِ السُّجُودِ همُ الأولياءُ الحقيقيُّون الذين بمثلهم تُحرَسُ البلادُ، وتُصانُ مصالحُ العِبادِ، فقد زَهِدوا في الدُّنيا ومتاعِها عن رضًا واقتناعٍ، واتخذوا من التقشُّفِ منهجًا في حياتهم، ولك أن تتَّفِقَ معهمْ إنْ كُنتَ ممَّنْ يُؤثِرُ العُزْلَةَ والسَّلامةَ، أو أن تختلفَ معهم إن كنت ممن يَنْزِعُ إلى المنافسةِ والمزاحمةِ، فَلِكُلٍّ وجهةٌ هو مُولِّيها، ولكنَّكَ في الحالينِ لا تملكُ إلَّا أنْ تُقدِّرَ هذه الهِمَمَ العَاليةَ، والنفوسَ السَّامِيةَ، التي تورَّعَتْ عن الملذَّاتِ الدُّنيويَّةِ، وانقطعتْ إلى الله بِالكُلِّيَّةِ، فيا بُعْدَ ما بينهم وبين أدعياءِ التصوُّفِ الذين شَرَعُوا يُقيمونَ لأنفسهم موالدَ، لا تخلو من إنشادٍ وطبلٍ ورقصٍ ومُجونٍ، ومجالسَ تخمَصُ فيها القُلُوبُ وتمتلئُ البُطون. وإنْ شئتَ دليلًا على ترسُّخِ الزُّهدِ في نفسِهِ ونفوسِ مُريدِيه، فانظرْ إلى الـمَسْجدِ الذي كانَ يُصلِّي فيه، والذي كانتْ طوابِقُهُ السَّبْعَةُ تضيقُ عن الـمُصلِّين، لتراه مبنيًّا بالحجارةِ المجرَّدةِ الخاليةِ حتَّى من المحارةِ الخارجيَّةِ، وكأنَّما حالُهُ يقولُ: أنا بيت الزُّهَّاد، ومثابة العُبَّاد، وكأنَّما يُنادِي مَنْ يدخُلُه: لا تطأْ أرضِي إلَّا وقدْ خلعتَ الدُّنيا كما تخلعُ نَعْلَيْكَ.
فليتَ شِعْري، كيفَ سيكونُ الحالُ بعد عُقودٍ، ونحن نرى المنيَّةَ تتخطَّفُ أرواحَ العلماءِ الربَّانيِّين، كأنَّها النُّجوم تنكدرُ قُبَيْلَ السَّاعَةِ، أو الأشجارُ تصوِّحُ إبَّانَ الخريفِ، دون أن نرى في الأفقِ مَنْ يقومُ مقامَهُم، أو يسدُّ مَسَدَّهم، بل نرى زَعانِفَ منَ الخُوَاةِ المتصدِّرينَ، والحُواةِ الـمُتعالِمينَ، من ذوي الظواهرِ الفارهةِ، والبواطنِ التافهةِ، وَهُو ما أخبرَ عنه الصَّادقُ المصدوقُ بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا»، ولكنَّنا على ثقةٍ بأنَّ الزَّبَدَ يذهبُ جُفاءً، وأنَّ ما ينفع الناسَ يمكثُ في الأرضِ، وأنَّ الوعيَ الجمعيَّ للأمَّةِ لا يمكنُ أنْ تنطليَ عليه تلك الزُّيوفُ، وإنْ رغمتْ أُنُوفٌ، ولعلَّ في الجنازةِ الحاشدةِ للشيخِ خيرَ برهانٍ على حياةِ ضميرِ الأمَّةِ، وأبلغَ ردِّ على مَنْ يُعادُونَ الدَّعوةَ، ويحاولونَ إطفاءَ شمسِها، تؤزُّهم الشَّياطينُ أزًّا، فَتُورِدُهمْ مصارِعَ سوءٍ حيثُ لا تحسُّ منهم مِنْ أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكْزًا.
وفي يومِ الاثنينِ السَّابعِ من ربيعٍ الأوَّلِ 1444هـ، الموافقِ الثالثَ من أكتوبر 2022م، صعدتْ روحُ الشيخِ إلى بارئها عن أربعةٍ وسبعين عامًا، قضاها عالِـمًا ومُعَلِّمًا ومُرَبِّيًا، فرحماتُ ربّي تَتْرَى على عابدِ الزَّمانِ، وزاهدِ الأوانِ، وتذكرةِ السَّلفِ، وحُجَّةِ الله على الخلفِ، ومنارةِ العابدينِ، ودليلِ القاصدينَ، ما لَهِجَتْ ألسنةُ الأوَّابينَ بالأذكارِ، وانتصَبَتْ أقدامُ العابدينَ في الأسحارِ.
في بندر سري بجاوان، بروناي دار السلام
الخميس، 10 من ربيع الأول 1444هـ/ 6 أكتوبر 2022م