أهَكَذا يَنْقَضُّ فَاجِعُ الحِمامِ على مَنْ كانَ يَنقَضُّ على مُناظِريه انقضاضَ الصَّقْرِ الجارحِ على فَريسَتِهِ، فَيَفْرِي أوْداجَها، ويَنْثُرُ أشْلَاءَها؟! أفي يومِ الفُرقانِ، يوم الْتَقَى الجَمْعَانِ، تُفارِقُ تلك الرُّوحُ الوثَّابةُ مَنْ كانَ فُرقانًا بين الحقِّ والبُهْتانِ، ومَنْ عاشَ سيفًا مَسْلولًا على أهلِ الـمَيْنِ والبُطْلانِ؟! أفي شهرِ الصِّيامِ الَّذِي تَصومُ فيه الألسنَةُ عن اللَّغْوِ والعُقوقِ، يتوقَّفُ ذلك اللِّسانُ الإصْلِيتُ عن جلدِ أهلِ اللَّغوِ والفسوقِ، وعنْ إسكاتِ العُواةِ الغُواةِ؟! أفي زمانٍ تُورِقُ فيه شَجرةُ الأيَّامِ نورًا وبرًّا وإحسانًا، تمتدُّ يَدُ الـمَنُونِ؛ لِتهصِرَ غُصْنًا طَالما أورقَ دعوةً وبلاغةً وبيانًا؟!
ولكنَّهُ الأجلُ المعلومُ، والمصيرُ المحتومُ، وحسبُهُ أنَّه عاشَ حياةً ممتدَّةً تَسرُّ الصَّديقَ، وماتَ ميتةً شريفةً تَغيظُ العِدَا، فما كان أشقَى زعانفَ العِلمانيِّينِ بحياتِه، وهو الجَلَّادُ الَّذِي طالما أثخنَ ظُهورَهم بِسِياطِه اللَّاهبةِ، تاركًا فيها نُدُوبًا لا تندملُ ما بَقِيَ فيهم عِرْقٌ يَنْبِضُ، وماتَ صائمًا في شهرٍ مُباركٍ، فَضَجَّتْ أُذُنُ الزَّمانِ من أزيزِ الدُّعاءِ له بالرَّحمةِ والغُفرانِ، ومن وفيرِ الثَّناءِ عليه بالفَضلِ والعرفانِ، كما تجاوبتْ جَنَباتُ المكانِ أصداءَ غاراتِهِ على حُصونِ الفَاسدينَ، وصَولاتِهِ على جَحافلِ الـمَارِقِينَ، وما أرَاهمْ بتكرارِ هذه المقاطعِ المصوَّرةِ إلَّا يزدادونَ كآبةً وكَمَدًا، بعدما كانوا قدْ تَنادَوْا جَذَالَى ساعةَ سماعِ نَعيِّهِ:
خَلَا لَكِ الجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّري ما شِئْتِ أَنْ تُنَقَّري
قَدْ رُفِعَ الفَخُّ فَمَاذَا تَحذَري؟!
وليسَ مِنْ هَمِّي أنْ أُعرِّفَ به، فهو أشْهَرُ مِنْ أنْ يُعرَّفَ، وهل تحتاجُ الشَّمسُ السَّاطِعةُ في يومٍ صافٍ مَنْ يَدُلُّ النَّاسَ عليها؟ أو يفتقِرُ البدرُ في ليلةٍ قمراءَ إضْحِيانَ إلى الإشارةِ إليه بأناملِ نُجُومِ الشِّتاءِ العَاتماتِ الغَوامِضِ؟! ولكنِّي أشيرُ إلى جملةٍ من المواقفِ بيننا؛ فلهُ عليّ حقُّ الجوارِ وحقُّ الأستاذيَّةِ، أمَّا حقُّ الجوارِ، فقدْ وُلِدَ عام 1929م في قرية “القُرَشِيَّة”، مركز السَّنْطةِ، بمحافظةِ الغربيَّةِ، وهي تبعُدُ عن قريتي “حصة شبشير” نحوَ أربعةِ كيلومتراتٍ، وما أكثرَ ما كانَ الآباءُ يذهبُونَ إليها مُشَاةً، ويبدو أنَّه انتقلَ مع أبويْهِ إلى كفرِ الشَّيخِ مُبكِّرًا، حيثُ التحقَ بمعهد دسوق، ليحصلَ منه على الشَّهادةِ الابتدائيَّةِ (الإعداديَّة الآن) عام 1947م، ثمَّ عادَ إلى طنطا؛ ليدرسَ في المعهدِ الأحمديِّ العتيقِ، ويحصلَ منه على الشَّهادةِ الثَّانويَّةِ عام 1952م، وقد كانَ دائمَ الاعتزازِ بطنطا، وشديدَ الحفاوَةِ بي لمكانِ الجِيرةِ؛ إذْ كانَ يمرُّ على قَرْيَتِنا في غُدُوِّه ورَواحِهِ، والمرابعُ التي عقَّ فيها الزَّمانُ تمائمَ الصِّبيانِ لا تُفارقُ الذَّاكرةَ وإنْ تطاولَ الزَّمانُ.
وأمَّا حقُّ الأستاذيَّةِ فللأسفِ لم أتشرَّفْ بالتَّلْمَذَةِ لَه في مَرحلةِ الإجازةِ العاليةِ (الليسانس)؛ لأنَّني تخرَّجْتُ في المنصورةِ، ولكنِّي سمعْتُ اسمَه من عمِّي، رحمه الله، وأقرانِهِ مِرارًا، الذين منهم مَنْ آثرَ الالتحاقَ في مرحلةِ الدِّراساتِ العليا بقسمِ البلاغةِ والنَّقدِ بالقاهرةِ، قائلًا: لا أبْغِي بمجالسِ الشَّيْخَيْنِ: محمد أبو موسى، وإبراهيم الخولي بَدَلًا، ولا أجِدُ عَنْهَا حِوَلًا، مِـمَّا رسمَ في مخيَّلتي صورةً ذاتَ فُسَيْفِساءٍ عَبقريٍّ للشَّيْخَيْنِ الجليلَيْنِ.
وشاءَ الله أن ألتحقَ بالعملِ مُعيدًا في كليَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ بالقاهرةِ عام 1995م بعدَ العُدُولِ عن نِظامِ التَّكليفِ إلى الـمُسابقةِ، وَلَقيتُهُ كِفَاحًا لأوَّلِ مرَّةٍ بعدَ نحوِ شَهْرَيْنِ من التَّعْيينِ في موقفٍ طريفٍ، حيثُ كُنْتُ مُراقبًا في إحدى لجانِ امتحانِ موادِّ التخلُّفِ، بِرُفقةِ أحدِ الزُّملاءِ من المدرِّسينَ المساعِدِين، وبَعْدَما استنفدَ الطُّلابُ مَا لَدَيْهم من إجاباتٍ عن الأسئلةِ، شَرَعوا، وتلكَ شِنْشِنَةٌ نَعْرِفُها منْ أخزَمَ، يتكلَّمُونَ مع الزَّميلِ في سياقِ الشَّكْوى من الكليَّةِ خاصَّةً، والتبرُّمِ من الحياةِ عامَّةً، فَخاضَ مَعْهم في لَغْوِهم، وفجأةً دخلَ علينا عميدُ الكليَّةِ د. طه أبو كريشة، رحمه الله، وحَسْبُكَ بأيَّامهِ نموذجًا للحزمِ والانضباطِ، فسأله عمَّ يتكلَّم؟ فتلعثمَ الزَّميلُ، ولمْ يحرْ جَوابًا، ثمَّ خرجَ العميدُ، وطلبَ من د. إبراهيم الخولي، وكانَ يَوْمَها مُشْرِفًا على الدَّورِ، أنْ يرابطَ في لَجْنَتِنا، وبمجرَّدِ أنْ رآه الطُّلابُ سلَّمُ مُعْظَمُهم الأوراقَ، فقالَ بنبرَتِه الـمُمَيَّزة: “هَكَذا، إمَّا أنْ تقولَ نعمْ صَريحة، أوْ لَا مُرِيحة؛ فإنَّ اليأسَ أحدُ الرَّاحَتَيْنِ”، ثمَّ طلبَ أحدُ الباقينَ مِسْطرةً من زَميلِه، فقالَ لي: اذهبْ فَافحَصْها، فربَّما كَتبَ لهُ عليْها صَحيفةً كَصحيفةِ الـمُتَلَمِّسِ! ففعلْتُ، ثمَّ قُلْتُ له: صحيفةُ المتلمِّسِ كانتْ تتضمَّنُ قَتْلَه، وهذه، لو كانتْ، إنَّما يبغِي بها نَفْعَه، فقالَ لي: بل في ظاهرِها نَفْعُه، وفي باطِنِها حَتْفُه.
ثمَّ توثَّقَتْ صِلَتي به عن طريقِ أستاذِنا الجليلِ السعيدِ عبادة، مُشْرفي في الدُّكتوراه، وبينَهما ما بينَهما من وَكيدِ المودَّةِ ومُسْتَحْصِدِ الشُّبْكةِ، بتعبير ابنِ جِنِّي عنْ عَلاقَتِه بأبي الطَّيِّبِ، فَواهًا لمجالسَ جَمَعَتْني بهذيْنِ العِمْلاقَيْنِ، وامتدَّتْ من الظُّهرِ إلى نحوِ المغربِ، حيثُ أفضَيا فيها بكثيرٍ من المعارفِ والمواقفِ والأسرارِ، وقدْ أخبرْتُه في آخرِ لقاءٍ جمعَنا منذُ سنواتٍ قليلةٍ أنَّني أعتزمُ الكتابةَ عنه كما كتبتُ عن أستاذِي الجليلِ السعيد عبادة: (الحبيسُ الطَّليق)، وعن العلامةِ محمد أبو موسى: (النَّذيرُ العُريان)، وطلبتُ أنْ أجلسَ معه مُطوَّلًا للسُّؤالِ عن بعضِ المحطَّاتِ في سيرتِه، فشخصيَّتُهُ تختلفُ كثيرًا عن الشَّيْخَينِ الجليلَيْن، فقال: إنَّهُ عاكفٌ على كتابةِ سيرَتِه الذَّاتيَّةِ الآنَ، وإنها ستخرجُ في ثلاثةِ مجلداتٍ، فأرجو من تلاميذِه ومُحبِّيه مُتابعةَ الأمرِ جِدِّيًّا.
وإنَّ رجلًا عاشَ هذا العُمُرَ المديدَ، وقدَّمَ هذا النِّتاجَ الغَزيرَ، وزَاحَمَ بِـمَنْكِبَيْه في ميادينِ التَّعليمِ والدَّعوةِ والسِّياسةِ والإعلامِ لأكبرُ مِنْ أنْ تُحِيطَ بشخصيَّتِه صورةٌ قلميَّةٌ في صفحاتٍ محدودةٍ، فهل يُوضَعُ البَحرُ الخضمُّ في قارورةٍ، أو يُحملُ الجبلُ الأشمُّ في سَفَطٍ؟! وإنَّما حسبي أنْ أشيرَ إلى جُملةٍ من مآثِرِه الجِسامِ، ومَوَاقِفِه العِظَامِ:
أوَّلُها: الخبرةُ التَّراكُمِيَّةُ الهائلةُ في مجالاتٍ شتَّى، فقدْ جمعَ من النَّاحيةِ التعليميَّةِ بين الدِّراسةِ في كليَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ، والدِّراسةِ في جامعةِ عين شمس، حيثُ حصلَ منها على دبلومَيْنِ في التربيةِ العامَّةِ والخاصَّةِ.
ومن النَّاحيةِ العَمَلِيَّة عمل مُدرِّسًا بالمدارسِ الإعداديَّةِ، وبدار المعلِّمين، قبل التحاقِه بالتدريسِ في الجامعةِ، كما عَمِلَ مُديرًا للمكتبِ الفنيِّ لوزيرِ الأزهرِ: د. محمد حسين الذَّهبيّ، رحمه الله.
ومن الناحيةِ السِّياسيَّةِ، انغمسَ في العملِ السِّياسيِّ مُبَكِّرًا، حيث انْتُخِبَ عضوًا في اللَّجنةِ المركزيَّة للاتحادِ الاشتراكيّ، ومُقرِّرًا للَّجنةِ الدِّينيَّة بمنظمةِ الشَّبابِ الاشتراكيّ، ومَسْؤولًا عن التَّثقيفِ السِّياسيّ بمنظمةِ الشَّبابِ، حيثُ كانَ يُلْقِي محاضراتٍ منتظمةٍ عن منهجِ الإسلامِ في الإصلاحِ الاجتماعيّ وغيرها، وقد بَقِيَ رمزًا من رموزِ منظمةِ الشبابِ حتَّى استقالَتِه منها عام 1970م، ولا مناصَ من الإقرارِ -على الرَّغمِ من اختلافِنا الجِذريِّ مع الفكرِ الاشتراكيّ- أنَّهم كانوا يختارونَ شبابًا أذكياءَ، وكانوا يُعِدُّونهم ثقافيًّا وتنظيميًّا للعمل الحزبيِّ خيرَ إعدادٍ، وإنْ تَعجَبْ فعجبٌ منْ أمرِ انْغماسِهِ في لُجَجِ السِّياسةِ ما أخبرني به من أنَّه التقى في كُهُوفِ جبالِ أفغانستانَ بقادةِ الفصائلِ الأفغانيَّةِ، التي تناحرتْ عُقَيْبَ خُروجِ الاتحادِ السُّوفيتيِّ منها مَذؤومًا مَدْحورًا، فَهُرِعَ إليها من باكستانَ التي كانَ مُعَارًا إليها، وبذل ما في وُسْعِه لِرأبِ الصَّدْعِ بينها، وقدْ سألتُهُ عنْ رأيهِ في زُعماءِ تلكَ الفصائلِ، مثل: عبد ربِّ الرَّسول سيَّاف، وقلبِ الدِّينِ حِكْمَتْيار، وبُرهانِ الدين ربانيّ، وغيرهم، فجعلَ يقولُ: هذا أُلْعبان، وذاكَ أُفْعَوان، والوحيدُ الذي أثنى عليه -فيما أذكرُ- هو يونسُ خالص، ولعلَّ سِيرَتَهُ الذَّاتيَّةَ الموسَّعةَ تُميطُ اللِّثامَ عن تلكَ الجُهودِ المكنونةِ.
ناهيكَ عنْ حضورِه الفاعلِ في مؤتمراتٍ كُبرى في شتَّى أصقاعِ المعمورةِ، وحسبُكَ أنَّهُ هو الذي صاغَ البيانَ العالميَّ لحقوقِ الإنسانِ في الإسلامِ، والذي عُرِضَ في مؤتمرِ باريسَ عام 1981م، برعايةِ منظَّمةِ اليونسكو، وقد تُرْجِمَ إلى العديدِ من اللُّغاتِ الحيَّةِ، وقد كان دائمَ الاعتزازِ بهذا العملِ المتفرِّد، وحدَّثني عنه كثيرًا. وتلك مجالاتٌ فِسَاحٌ قلَّ من يُجَلِّي في أحدِها، فما بالكَ بمنْ بَرَّزَ في جميعِها؟!
ثانيها: الجُرْأةُ في الحقِّ؛ فقد تربَّى في بيئةٍ حزبيَّةٍ، لا تتوقَّفُ فيها الـمُشاكَسَاتُ الفكريَّة، وقد أخبرني عن رُدُودِهِ الـمُـْفحِمَةِ على سيد مرعي، وحسن صبري الخولي، وغيرِهما من رُموزِ النِّظامِ النَّاصريِّ، ولاحقًا اصطدمَ بشيخِ الأزهرِ السَّابقِ د. محمد سيد طنطاويّ، بعدَ لقائِه حاخامًا يهوديًّا، ثم السَّفيرَ الصهيونيَّ في مقرِّ المشيخةِ، فانتفضَ الرَّجلُ بالنَّقدِ الصَّريحِ خطابةً وكتابةً، بل أسَّسَ مع آخرينَ جبهةَ عُلماءِ الأزهرِ، وقد ترتَّبَ على ذلكَ الصِّدامِ أنْ فُصِلَ من الجامعةِ، ثمَّ عادَ إليها بحكمٍ قَضائيٍّ، وقد كانَ يحضُرُ برفقةِ الـمُحامينَ جلساتِ التَّقاضِي، لكنَّه كانَ يترافَعُ بنفسِه، ولو أنَّه احتفظَ بمكتوبٍ أو تسجيلٍ صوتيٍّ لمرافعاتِهِ، لكانَتْ وثيقةً فريدةً في أدبِ القضاءِ وفنِّ المرافعةِ، وقد سألتُهُ: كيفَ خلصْتَ من اتهامِكَ للشَّيخِ بالغَفْلةِ عندما قابلَ الحاخامَ والسَّفيرَ خَلاصَ الخمرِ من نَسْجِ الفِدامِ؟ فقاَل: لَقدْ بيَّنْتُ للمحكمةِ أنَّ الوصفَ بالغَفْلةِ ليس تجريحًا، بل هُو من جُملةِ العوارضِ البشريَّةِ كالسَّهْوِ والنِّسيانِ، وحسبُكَ أنَّ الله وصفَ بها نبيَّهُ قبلَ البلاغِ، حيثُ قال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
ولـمَّا فتحتْ قناةُ “الجزيرة” أبوابَها عام 1996م، كان ضيفًا متكرِّرًا على شاشَتِها، وخاصَّةً في برنامجِ المناظَراتِ الشَّهيرِ: “الاتجاهُ المعاكِس” فبانتْ خبرتُهُ اللُّغويَّةُ، ومَعْرفتُهُ الشَّرعيَّةُ، وتمرُّسُهُ بفنونِ الجدلِ والمناظرةِ، فلا جرمَ أنْ يبدوَ في تلكِ المناظراتِ الحيَّةِ فارسًا مِقْدامًا لا يرضَى إلَّا بحزِّ الغَلاصِمِ وإفحامِ الـمُخاصِم، ولا يقنعُ إلّا بأنْ يمزِّقَ سَدَنَةَ أوثانِ الحَدَاثةِ كلَّ ممزَّقٍ، ولَعَمْري، إنَّ تلك المناظراتِ الرَّصِينةَ لَـمِرآةٌ صافيةٌ لنفسٍ صادقةٍ في الاعتزازِ بالإسلامِ دينًا، وترجمانٌ لقلبٍ أشربِ حُبَّ القرآنِ مِنْهاجًا وتشريعًا ونورًا مُبينًا.
ثالثُها: البراعةُ في الخطابةِ؛ كانَ، رحمه الله، خطيبًا لَسِنًا مِصْقَعًا، وكانَ الآلافُ يشدُّونَ الرِّحالَ إلى مسجدِهِ في “حُلْوان”، ويصبرونَ على وهجِ الشَّمسِ في الشَّارعِ للاستماعِ إلى خُطبَتِه التي قدْ تُجاوِزُ السَّاعةَ، والتي كانَ يضربُ فيها رؤوسَ الفَاسدينَ بمقامعَ من حديدٍ، ويجلدُ ظُهورَ الخُواةِ المتصدِّرينَ بسياطٍ من شُواظٍ، وطالما كانَ يُخاطِبُ رئيسَ الجُمهوريَّةِ باسمِه المجرَّدِ دونَ ألقابٍ، وكانَ أحيانًا يتركُ ذلكَ المسجدَ مرَّةً في الشَّهرِ لأداءِ الخُطبةِ في مسجدِ الشُّهداءِ بالسُّوَيْس، عندَ حِبِّهِ ورفيقِ دَرْبِهِ الشيخِ حافظ سلامة، وأذكرُ أنَّهُ كان مَشْغولًا في إحدى تلكَ الجُمُعاتِ، فطلبَ مِنِّي أنْ أذهبَ إلى السُّوَيْسِ لأخطُبَ مكانَه، فاعتذرْتُ إليه بأنَّني مرتبطٌ بمسجدٍ بصورةٍ دائمةٍ، وكانَ بمقدوري أنْ أستخلِفَ أحدًا مَكانِي، ولكنَّنِي تهيَّبْتُ الموقفَ حقيقةً، وخشيتُ، إنْ حَلَلْتُ محلَّهُ، أنْ يقعَ كلامِي من القومِ مَوْقِعَ الملحِ الأُجاجِ بعدَ العَذْبِ الفُراتِ، وخِفْتُ مواجهةَ ذلك الجُمهورِ السُّوَيْسيّ المتميِّزِ، الذي عرفتُهُ لاحقًا في غيرِ خُطبةٍ.
وشاءَ الله أنْ يدعُوَهُ أحدُ الأصدقاءِ لأداءِ خُطبةِ الجمعةِ في “دار الأرقم” بمدينةِ نَصْر، فَلَبَّى، وكانَ يومًا مشهودًا؛ إذْ خاضَ كَعادَتِه في لُجَجِ السِّياسةِ كلَّ مخاضٍ، وقال كلامًا غليظًا عن التَّوريثِ الذي حوَّلَ الجمهوريَّاتِ إلى مَلكيَّاتٍ، ووصفَ مُخطَّطَ التَّوريثِ في مصرِ بالجريمةِ الشَّنعاءِ، وفي اليومِ التَّالي استُدْعِي الزَّميلِ إلى مكتبِ وزيرِ الأوقافِ للتَّحقيقِ معه، فاعتذرَ بأنَّه أستاذٌ يدرِّسُ له في جامعةِ الأزهرِ، وما كانَ له لِيَعرفَ ما سيقولُ، فعاقبَتْهُ الوزارةُ بالنقلِ إلى مسجدٍ آخرَ، وقد ذهبْتُ للتَّسليمِ عليه بعد انتهاءِ خُطبَتِه وخُطبتي في المسجدِ المجاورِ، فطلبَ منه أحدُ رُوَّادِ مَسْجِدِنا أنْ يُتْحِفَنا بخطبةٍ، فقال: أنا أذهبُ إلى المكانِ مرَّةً واحدةً، يعني أنَّه لنْ يُسْمَحَ لِلقائمينَ على المسجدِ بتكرارِ الدَّعوةِ، وبالفعلِ كانتْ خُطْبَتُهُ في دارِ الأرقمِ كَبَيْضَةِ الدِّيكِ. ولا أنْسَى أنَّه قام بمداخلةٍ ناريَّةٍ في أحدِ المؤتمراتِ بكليَّتِنا العامرةِ، خاطبَ فيها رئيسَ الجمهوريَّةِ باسمه صراحةً، ووجَّه إليه نقدًا لاذعًا، مـمَّا أدَّى إلى توقُّفِ المؤتمراتِ في كُلِّيَّتِنا أعوامًا.
رابِعُها: الزُّهدُ الصَّادقُ؛ فقد عاشَ الرَّجلُ زاهدًا قَنوعًا، لم تُفْسِدْه الدُّنيا بمطامِعِها، ولم تستعْبِدْه بزخارِفها، فلم يكنْ يتقمَّمُ الموائدَ يَبْغِي لُعَاعةً من الدُّنيا، أو يَدورُ بينَ النَّدواتِ والـمُقابلاتِ الإعلاميَّةِ بأجرٍ كما يدورُ المرتَزِقَةُ المتكسِّبونَ، وإنَّما كانَ يقنعُ من حُطامِ الدُّنيا باليسيرِ، فكانَ يلبسُ ملابسَ مُتواضعةً، ولا أذكُرُ أنِّي رأيتُهُ يَسْتَقِلُّ سيَّارةً خاصَّةً به، بل كانَ يركبُ المواصلاتِ العامَّةِ، وقدْ أخبرني أنَّ خيرَ طَعامِه أنْ يذهبَ إلى مَزْرعَتِه في الطَّريقِ الصَّحراويِّ، وأنْ يعتكفَ في استراحَتِه هُناك، فيأكلَ الجرجيرَ الَّذي لم تلوِّثْهُ الكِيماويَّاتِ بالخبزِ اليابسِ، ثمَّ يشربُ الماءَ القُراحَ، ويقولُ: هذا هو النَّعيمُ المقيمُ.
ويبدو أنَّ هذهِ النَّزعةَ جاءتْهُ من تولِّهِهِ بأبي العلاءِ المعريِّ، فقدْ كانَ في أواخرِ أيَّامِهِ يؤثرُ العُزلةَ في المزرعةِ، ويلوذُ بخشنِ الثيابِ، ويقنعُ بزهيدِ المآكلِ كَشيخِ المعرَّةِ، ولعلَّ رضاه بهذا المسلكِ التقشُّفِيِّ في الحياةِ هو الذي حملَهُ على أنْ يَترضَّى عن أبي العلاءِ، ويعدَّهُ من الأولياءِ الصَّالحينَ، وله كتابٌ قيِّمٌ مطبوعٌ عن لُزوميَّاتِه، بينَما كانَ صديقُنا المرحومُ د. زكريا النُّوتيُّ يقبلُ ما تعجُّ به كتبُ التُّراثِ من اتِّهامِه في عَقيدتِه، أمَّا أنا فكنتُ وَسَطًا بينهما، على مذهبِ شَيْخي السعيد عبادة، نكفُّ عن الخوْضِ في أمرِ عَقيدَتِه، ونقدِّرُهُ حقَّ قَدْرِهِ أديبًا ولغويًّا وناقدًا وعالمـًا نادرَ المثالِ.
ويقينِي أنَّه بمؤلَّفاتِه النَّفيسةِ، ومُناظراتِه الحصيفةِ، وخُطَبِه البارعَةِ، ومَقالاتِه المحرَّرةِ، وحضورِه الفاعلِ في المؤتمراتِ العالميَّةِ يُعَدُّ صورةً مُشرِّفَةً للعالمِ الأزهريِّ، المتمكِّنِ عِلميًّا، الواعي سياسيًّا، المشارِكِ دَعويًّا، الحاضرِ إعلاميًّا، وكلُّها جوانبُ تستحقُّ أنْ يَدرُسَها الباحثونَ في رسائلَ علميَّةٍ، تُنصفُ الرَّجُلَ، وتحلُّه المحلَّ الأرفعَ اللائقَ به.
وفي يومِ الفُرقانِ، يومِ السبتِ الماضي، السَّابعَ عشرَ من شهر رمضان 1444هـ، الموافقِ الثامن من أبريل 2023م، صعدتْ روحُ الشيخِ الجليلِ إلى بارِئِها عن قُرابةِ أربعةٍ وتسعين عامًا، قَضاها عالِـمًا ومُعَلِّمًا وداعيةً في كلِّ ميدانٍ، ومُجاهدًا جَسُورًا بالحُجَّةِ والبُرهانِ، وحاملَ رايةٍ لكلِّ مَنْ يلتمسُ طريقَ الهُدى والعرفانِ، فلم يكنْ رحيله رحيلَ نفسٍ واحدةٍ، ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّمَ، وصَرْحُ معرفةٍ تقوَّضَ، واللهَ نسألُ أن تتنزَّلَ شآبيبُ الرَّحمةِ عليه، وأنْ يجعلَ القرآنَ والعلمَ نُورًا يَسْعَى ويتلألأُ بينَ يَدَيْهِ.