أشتات

ضرس لومومبا: القصة الكاملة

لمْ تَعرفِ البشريَّةُ مَنطقةً نُهِبتْ كما نُهِبتِ القارَّةُ الأفريقيَّةُ، ولا شُعوبًا اسْتُعْبِدتْ كما استُعْبِدَ الأفارقةُ المُرَحَّلُونَ إلى الولاياتِ الأمريكيَّةِ، ولا حُكَّامًا من الدُّمَى التي صَنَعها الغربُ على عينِه ليكونوا عُملاءَ له كما صنعَ في القارَّةِ السَّمراءِ، ولا مُؤامراتٍ قَذِرةً على كلِّ حاكمٍ وطنيٍّ شريفٍ كما تمَّ التآمُرُ على الحُكَّامِ الأفارقةِ الشُّرَفاءِ!

فمنذُ نزولِ الأوربييِّنَ بأمريكا في أواخرِ القرنِ الخامسَ عشرَ، ووقوفِهم على الحاجَةِ الماسَّةِ إلى رجالٍ أشدَّاءَ يُعمِّرونَ تلك الأرضَ البِكْرَ، طَفِقَ قَراصِنَتُهم السَّفَّاحونَ يَختطفونَ الأفارقَةَ البرآءَ من دِيارهم، أو يشترونَهم في مقابلِ السِّلاحِ والذَّخيرةِ عن طريقِ العُمَلاءِ المَبثوثينَ في المَمالكِ الإفريقيَّةِ المُتناحرةِ، ثُمَّ يُشْحَنُونَ كالبضائعِ في سفنٍ تعبرُ المحيطَ الأطلنطيَّ في رحلاتٍ مُرعبةٍ، ويُقَدَّرُ عددُ مَنِ اختُطِفوا وحُمِلوا إلى أمريكا بنحو 12 مليونًا منَ الأفارقةِ المُسْتَرَقِّينَ، وقدْ ماتَ رُبعُ هذا العددِ تقريبًا على متنِ تلك السُّفنِ من الجوعِ والمَرضِ وسُوءِ المُعاملةِ، فَكانوا يُلْقَوْنَ طعامًا لأسماكِ المحيطِ، وكانتِ القلَّةُ النَّاجِيةُ تُسْتَعْبَدُ للعملِ في مَزارعِ التَّبغِ والقُطْنِ الَّتِي كانَ الإنجليزُ يُديرُونَها. وأُولَى الرِّحلاتِ المُسجَّلةِ رسميًّا في هذا الملفِّ الأسودِ كانتْ عام 1619م، عندما وصلتْ سفينةٌ لقراصنةٍ إنجليز تحملُ عددًا من الأفارقةِ، والمفارقةُ أنَّهم اختطفوهُم مِنْ على متنِ سفينةٍ لِقراصِنَةٍ بُرتغاليِّينَ كانوا قد اخْتَطفوهم من دِيارهِم!

وفي القرنِ التَّاسعَ عشرَ اجتمعَ أكابرُ المُجرمينَ من الأوروبيِّينَ؛ ليتقاسموا دُوَلَ القارَّةِ فيما بينهمِ، كأنَّها ميراثُ آبائِهم الأخسرينَ، وكانَتْ نارُ النِّزاعِ مُسْتَعِرةً بينَ قُطْبَيِ الإجرامِ: بريطانيا وفرنسا، للاستحواذِ على المَناطقِ السَّاحليَّةِ ذاتِ الأهميَّةِ الاستراتيجيَّةِ، ثمَّ ألْقَوا الفَرْثَ والأكارعَ تفضُّلًا إلى مَنْ حَضَرَ من الدُّولِ الأخرى مثلَ: إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال، من باب: وإذا حضرَ القِسْمَةَ أولو القُرْبى واليَتامَى والمَساكينُ فارزُقُوهم مِنْه!

والقصَّةُ موضوعُ هذهِ الخَاطِرَةِ تَضُمُّ كلَّ عناصرِ الوحشيَّةِ والإجرامِ، وأماراتِ التآمُرِ على الوطنيِّينَ الشُّرَفاءِ ودَعْمِ اللُّصُوصِ العُمَلاءِ، وتُميطُ اللِّثامَ عن فصلٍ كئيبٍ من فصولِ ذلكَ التاريخِ الأسودِ لأولئكَ الأوغادِ، الذينَ يتشدَّقونَ اليومَ بالإنسانيَّةِ والتحضُّرِ، وحِمايةِ الحُرِّيَّاتِ، وحقوقِ الإنسانِ، وسيادةِ القانونِ، كما تَقطعُ بأنَّهُ لا تُوجَدُ جريمةٌ مُتكامِلَةُ الأركانِ، وأنَّه مَهْما اجتهدَ الجناةُ المُجرمونَ في التَّخطيطِ الشَّيطانيِّ لأوزارِهم، ومهما أمْعنوا في طَمْسِ معالمِ جرائِمِهم، فلا بُدَّ أن يتركوا أثرًا يَفْضَحُ فَعْلَتَهم، أو خَيْطًا دَقيقًا يُعرِّي سَوْأتَهم، وصدقَ زُهيرُ بنُ أبي سُلْمَى (ت13 ق. هـ) إذْ قالَ قديمًا:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ

وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ

ولأنَّ القصَّةَ طويلةٌ، والحديثَ ذُو شُجونٍ، فسأركِّزُ على أربعةِ عَناصِرَ؛ أوَّلُها يتعلَّقُ بمسرحِ الجريمةِ، والثاني عن البطلِ المَغْدُورِ، والثالثُ عنِ المُؤامرةِ النَّكراءِ، والرَّابِعُ عن الشَّاهدِ البَاقِي.

أمَّا عن مَسْرَحِ الجريمةِ، فهو أرضُ الكُونغو، تلك الأرضُ الشَّاسعةُ من الغاباتِ الاستوائيَّةِ الكثيفةِ، التي يشقُّها نهرُ الكونغو، أعمقُ أنهارِ العالمِ، وثاني أطولِ أنهارِ أفريقيا بعد نهرِ النِّيلِ. والمفارقةُ أنَّها تنقسمُ اليومُ إلى دولتَيْنِ؛ بسببِ اختلافِ المُحتلِّ الأجنبيِّ، الأولى: جمهوريَّةُ الكونغو الدِّيمقراطيَّة (DRC)، أو زائير في فترةِ حكمِ الجِنرالِ المُجرمِ (موبوتو سيسي سيكو)، وكانتْ تُعرفُ بالكونغو البلجيكيَّة، أو الكونغو كينشاسا نسبةً إلى عاصِمَتِها. والثانيةُ: جمهوريَّةُ الكونغو، أو الكونغو الفرنسيَّة، أو الكونغو برازفيل، نسبةً إلى عاصِمَتِها، علمًّا بأنَّ العاصمتَيْنِ مُتقابلانِ على ضفتَيْ نهرِ الكونغو!

لُومُومْبَا القصة الكاملة3 ضرس لومومبا: القصة الكاملة

والحديثُ هنا عن الكونغو الديمقراطيَّة، وهي ثاني أكبرِ بلدٍ في إفريقيا من حيثُ المساحةِ بعد الجزائرِ، وتزيدُ مرتيْنِ وثلث على مساحةِ مصر، ويتجاوزُ عددُ سُكَّانِها مئةَ مليون نسمةٍ، ومن العجيبِ أنْ يُقرِّرَ المُؤتمرونَ، بل المُتآمرونَ، في مؤتمر برلين عام 1885م إعطاءَ هذه الدَّولةِ العملاقةِ الغنيَّةِ جدًّا بالمواردِ الطَّبيعيَّةِ لبلجيكا، وهي تربو على ثمانينَ ضِعْفًا مِنْ مِساحَةِ بلجيكا! والأعجبُ أنَّها لم تكنْ تابعةً للدولةِ، بل كانتْ مِلكيَّةً خاصَّةً لِمَلِكِها العِلْجِ السفَّاحِ: ليوبولد الثاني (Léopold II)، فكانت تُجْبَى إليه ثمراتُ كُلِّ شيءٍ فيها تقريبًا؛ لِينفقَ منها على عشيقَتِه البَغِيِّ الفرنسيَّةِ: كارولين لاكروا، وفي عام 1908م صوَّتَ البرلمانُ البلجيكيُّ على أنْ تكونَ الكونغو تابعةً للدولةِ بدلًا من شخصِ المَلِك، الذي هَلَكَ بعدَ القرارِ بعامٍ واحدٍ.

وكانتْ صِناعةُ المَرْكَبَاتِ قد راجتْ في أوروبَّا آنذاك، وشاعَ استخدامُ المطَّاطِ في صناعةِ إطاراتِها، وبينَ عَشيَّةٍ وضُحاها وجدَ المُجرمُ السفَّاحُ نفسَهُ على نهرٍ جارٍ من الثروةِ، بإنتاجِ المطَّاطِ الطَّبيعيِ مِنْ أشجارِه التي تنتشرُ في غاباتِ الكونغو، فكانَ المُحتلُّونَ يُجبرونَ الكونغوليِّينَ على جمعِ حصَّةٍ مُعيَّنةٍ من المطَّاطِ من تلكَ الأشجارِ، وتسليمِها بالمجَّانِ، على صعوبةِ تلك العمليَّةِ، فإنْ لم يفعلْ أحدُهمْ عُوقِبَ بقطعِ يَدِهِ، حتَّى صارتِ الكونغو تُعرفُ بأرضِ الأيدي المَقطوعةِ، وإذا تمرَّدَتْ قريةٌ بكامِلِها على ذلك الأمرِ، فإنَّها تُبَادُ عن بَكْرَةِ أبيها، ويُقَدَّرُ عددُ مَنْ قتلهم المحتلُّونَ البلجيكُ من أهل الكونغو بما بين 10-15 مليونَ إنسانٍ، بما يُفوقُ عددَ ضحايا (الهولوكوست) عِدَّةَ مرَّاتٍ، ويُدرجُها ضمنَ أشنعِ المَجازرِ في تاريخِ الإنسانيَّةِ!

وأغربُ ما فَعَلَهُ المُجرمُ السفَّاحُ أنَّه في عام 1897م جَلَبَ نحوَ 260 من أبناءِ الكُونغو، وعرضَهم في أقفاصٍ حديديَّةٍ، في حديقةِ حيوانٍ بشريَّةٍ في قلبِ العاصِمَةِ بروكسل، وقد زارها قرابةُ مليونِ ونصفِ مليونِ زائرٍ، ولم تُغلقْ هذه الحديقةُ العارُ إلَّا في عام 1958م!

وأمَّا عن البطلِ المغدورِ، فهو الزَّعيمُ الكُونْغوليُّ الشَّابُّ: باتريس لومومبا (Patrice Lumumba) المُلقَّبُ بجيفارا أفريقيا، وأحدُ أهمِّ زُعماءِ التحرُّرِ الوطنيِّ في القرنِ العشرينَ. وُلِدَ عام 1925م، وتلقي تعليمَه الأوليَّ والثانويَّ في بلدِهِ، لكنَّه لم يُكملْ تعليمَه العاليَ الذي كان نادرًا جدًّا آنذاكَ، وإنَّما عَمِلَ موظَّفًا بالبريدِ، وفي الوقتِ نفسِهِ اشتغلَ بدراسةِ علومِ القانونِ والسِّياسةِ والاقتصادِ بالمراسلةِ، فاجتازَ عدَّةَ دوراتٍ بنجاحٍ، فتنبَّه المُحتلُّونَ إلى هذا النَّجمِ الصَّاعدِ، فَسُجِنُ وعُذِّبَ أقسى العذابِ، ثُمَّ أفرجَ عنه عام 1958م، فقرَّرَ التفرُّغَ للعملِ السِّياسيِّ، وظهرَ في مؤتمرِ (أَكْرا) المُمهِّدِ لإنشاءِ مُنظَّمةِ الوحدةِ الإفريقيَّةِ، وأنشأ الحركةَ الوطنيَّةَ الكونغوليَّةَ، وأصدرَ جريدةً سمَّاها (الاستقلال)، حتَّى أصبحَ مِنْ ألمعِ نُجومِ السِّياسةِ في البلادِ، فاعتُقِلَ مرَّةً ثانيةً، وأثناءَ اعتقالِهِ أُجريت انتخاباتٌ عامَّةٌ عام 1959م فاز فيها حِزْبُهُ بالأغلبيَّةِ، وفي 27 يناير عام 1960م وافقتْ بلجيكا على استقلالِ الكونغو، وحُدِّدَ يوم 30 يونيو 1960م عيدًا للاستقلال، وقبل إعلانِ الاستقلالِ أُجريتِ انتخاباتٌ نِيابيَّةٌ فازَ فيها حِزْبٌ لُومومبا أيضًا، فلم يكنْ أمامَ البلجيكِ إلَّا تكليفُهُ برئاسةِ الوزراءِ. ثمَّ عُقِدَ في بلجيكا احتفالٌ بتسليمِ السُّلطةِ قبل موعدِ الاستقلالِ بأسبوعٍ، فقامَ لومومبا بإلقاءِ كلمةٍ سمَّاها: خطابُ الدُّموعِ والدَّمِ والنَّارِ، تحدَّثَ فيها عن الظُّلمِ والاضطهادِ والمآسي التي تعرَّضَ لها شعبُهُ، فعدَّ ذلك البلجيكُ إهانةً لهم. وفي يوم 30 يونيو جاء ملكُ بلجيكا: بودوان الأوَّلُ (Baudouin) لإعلانِ الاستقلالِ في العاصمةِ كينشاسا، وقد ألقى كلمةً فاجرةً، الكَذِبُ لُحْمَتُها وسَدَاها، قال فيها: “إنَّ بلجيكا ضَحَّتْ بشبابِها وأموالِها الطَّائلةِ من أجلِ تعليمِ الشَّعبِ الكُونغوليِّ، ورَفْعِ مستوى اقتصادِه، وناشدَ الكُونغوليِّينَ ألَّا يُدمِّروا المَدَنِيَّةَ التي خلَّفوها لهم! فانتفضَ لومومبا مُفنِّدًا أكاذيبَهُ قائلًا: “أيُّها المُناضلونَ من أجلِ الاستقلالِ، وأنتم اليوم مُنتصرونَ، أتذكرونَ السُّخْرةَ والعُبوديَّةَ التي فَرضَها علينا المُستعمِرُ، أتذكرونَ إهانَتَنا، وصَفْعَنا طَويلًا؛ لمجردِ أنَّنا زنوجٌ في نظرِه، لقد استغلُّوا أرضَنا، ونهبوا ثرواتِنا، وكانَ ذلك بِحُججٍ قانونيَّةٍ؛ قانونٌ وَضَعَهُ الرَّجلُ الأبيضُ مُنحازًا انحيازًا كاملاً له، ضِدَّ الرَّجلِ الأسودِ، لقد تعرَّضْنا للرَّصاصِ والسُّجون، وذلك لمجرَّدِ أنَّنا نَسعى للحفاظِ على كرامَتِنا كَبَشَرٍ”. وقد أجمعَ المُحلِّلونَ على أنَّ لومومبا بهذا الخِطابِ قد وقَّعَ حُكْمَ إعدامِه، ثمَّ أصدرَ عِدَّةَ قراراتٍ حاسمةٍ من شأنها إبعاد البلجيك عن إدارة البلاد، فقرَّرَ المحتلُّ وأذنابُه القضاءَ عليه!

وأمَّا عن المؤامرةِ النَّكراءِ، فهي جَريمةُ القضاءِ على ذلك الزَّعيمِ الفتيِّ، حيثُ وَضَعَتْ بلجيكا خُطَّةً سمَّتْها: (باراكودا) بدعمٍ من المُخابراتِ المركزيَّةِ الأمريكيَّةِ (CIA) للتخلُّصِ منه، وقد انتَدَبوا لهذه المُهمَّةِ الحقيرةِ عددًا مِنْ عُملائِهمْ من أبناءِ الكونغو، ممَّنْ تربَّوْا في أحضانِ المحتلّينَ، وعاشُوا على فُتاتِ مَوائِدِهم، فبعدَ أُسبوعيْنِ فقطِ من إعلانِ استقلالِ الكونغو، أعلنَ (مويس تشومبى) استقلالَ إقليمِ (كاتانجا)، وهو أغنى أقاليمِ البِلادِ بالماسِ والنُّحاسِ، وانضمَّتْ له أقاليمُ أُخْرى، ثمَّ أعلنَ تشومبى الحربَ على لومومبا، فمدَّتْهُ بلجيكا بالسِّلاحِ وعِصاباتِ المُرتزقةِ، فطالبَ لومومبا الأُمَمَ المُتحدةَ بإرسالِ قُوَّاتٍ لحمايةِ بِلادِهِ، والحفاظِ على وَحدةِ أراضِيها، فأرسلتِ الأُممُ المُتحدةُ عددًا من الكتائبِ، منها سَرِيَّتانِ مِصريَّتانِ، لكنَّ تلكَ القُواتِ الأُمَمِيَّة لم تقدِّمْ شيئًا على أرضِ الواقعِ، فالبلادُ مُتراميةُ الأطرافِ، وحُروبُ العِصاباتِ لا تصلُحُ لها الجيوشُ النِّظاميَّةُ، فبدا له أن يستعينَ بالاتحادِ السًّوفيتيُّ، وهنا وقَّعَ الغربُ بأسْرِهِ على قرارِ التخلُّصِ منه نهائيًّا، وفي الشَّهرِ الثاني لتولِّيهِ مَقاليدَ الحُكمِ، أوعزوا إلى الرئيسِ الصُّوريِّ: (كازافوبو) أنْ يَعْزِلَه، وهو لا يَملكُ هذا رَسميًّا؛ لأنَّ نظامَ الحُكمِ برلمانيٌّ، وقد رفضَ البرلمانُ القرارَ بأغلبيَّةٍ ساحقةٍ، ثمَّ قامَ رئيسُ الأركانِ الخائنُ: (جوزيف موبوتو) باعتقالِهِ، على الرَّغمِ من أنَّهُ هو الذي عَيَّنَهُ في منصبِه، وقدْ أبقاه في بيتِهِ رَهْنَ الإقامةِ الجبريَّةِ.

وبعد أشهرٍ رأى لُومومبا أن يهربَ إلى مَناطقِ أنصارِه، فقامَتْ قوَّاتُ (تشومبى) باختطافِه يوم 16 يناير عام 1961م، مع اثنينِ مِنْ أخلَصِ رِفاقِه، هما: رئيسُ مجلسِ الشُّيوخِ، ووزيرُ الإعلامِ، ثُمَّ نُقِلوا بالطائرةِ إلى إقليمِ (كاتانجا) وسطَ تعذيبٍ شديدٍ أثناءَ الرحلةِ، ثُمَّ نُقِلوا بأربعِ سيَّاراتِ “جيب” أمريكيَّةٍ إلى الغابةِ؛ ليتمَّ تنفيذُ جريمةِ الإعدامِ بحضورِ مَنْدُوبينَ من بلجيكا وأمريكا والأممِ المُتَّحدةِ، لِيأفلَ ذلك النَّجمِ بعد سبعةِ أشهُرٍ فقطْ من تولِّيه مقاليدِ الحُكْمِ، وهو لم يُكملِ السَّادسةَ والثلاثينَ من عُمرِه. وقد قامَ العقيدُ (آنذاك) سعدُ الدِّين الشَّاذليّ، رحمه الله، قائدُ القوَّاتِ المِصريَّةِ بالكونغو، بتأمينِ إرسالِ أبنائِهِ وزوجَتِه إلى مصرَ، فعاشُوا فيها، وقد سَمِعْتُ في التِّلفازِ عَددًا منهم يتكلَّمونَ باللهجةِ المصريَّةِ الخالصةِ، كما أُطلقَ اسمُ لومومبا على شارعٍ مشهورٍ في الإسكندريَّةِ.

لُومُومْبَا القصة الكاملة1 ضرس لومومبا: القصة الكاملة

وأمَّا عن الشَّاهِدِ الباقِي، فهو الضِّرْسُ المُغَطَّى بتاجٍ من الذَّهبِ، حيثُ إنَّه بعد أربعةِ أيَّامٍ من عمليَّةِ الإعدامِ، قام البلجيكُ بتقطيعِ جُثثِ لومومبا ورفيقَيْه قِطعًا صغيرةً، ثمَّ أذابُوها في حامضِ الكبريتيك، وقد أشرفَ على هذه المهمَّةِ ضابطُ شُرطةٍ بلجيكيٌّ يُدْعَى: (جيرارد سويت)، وبعد نحوِ أربعينَ سنةً من تلكَ الجريمةِ اعترفَ ذلكَ الضَّابطُ بتفاصيلِ جريمَتِهِ في لقاءٍ تليفزيونيٍّ عام 1999م، وقد وصفَ عمليَّةَ الإذابةِ تلكَ بأنَّها كانتْ كالغَوْصِ في قاعِ الجَحيمِ، كما أعلنَ أنَّه كانَ يَحتفظُ باثنينِ من أسنانِ لومومبا، وإصبعَيْنِ من أصابعِ يده كَتَذْكارٍ! ثمَّ ألقاها بعد سنواتٍ في بحر الشَّمالِ عَدا الضِّرسَ المُتوَّجَ بالذَّهبِ، فأمرَ القضاءُ البلجيكيُّ بِمُصادرةِ ذلكَ الضِّرسِ عام 2016م. ومُؤخَّرًا، أعلنَ الملكُ ورئيسُ الوزراءِ اعتذارَهما للشَّعبِ الكُونغوليِّ عن جريمةِ قتلِ لومومبا، وعن الأسفِ العميقِ للجُروحِ التي خلَّفها الاحتلالُ، وعن تسليمِ بلجيكا ذلكَ الضِّرسَ الباقيَ في مراسمَ رسميَّةٍ.

وفي العامِ الماضي، بعدَ إحدى وستِّينَ سنةً من جريمةِ الاغتيالِ، وتحديدًا يومَ 20 يونيو 2022م، وصلتْ طائرةٌ بلجيكيَّةٌ تحملُ نَعْشًا رمزيًّا لِلمُناضِلِ باتريس لُومومبا، بداخلِهِ ذلكَ الضِّرسُ، وهو الأثرُ الوحيدُ الباقي منه، وقد طافوا بالنَّعشِ لمدَّةِ تسعةِ أيَّامٍ في أماكنَ متفرِّقةٍ، لها دلالةٌ رمزيَّةٌ في حياتِه، ثمَّ استقرَّ في ضريحٍ يحملُ اسمَه في العاصمةِ كينشاسا، وقد أُقيمَتْ له مَراسمُ جنائزيَّةٌ، وأُعلنَ الحِدادُ في البلادِ لمدَّةِ ثلاثةِ أيَّامٍ.

وختامًا، فقد ذهبَ (ليوبولدُ الثاني) إلى الجَحيمِ، مَوْصُومًا بالسَّطْوِ والهمجيَّةِ واستنزافِ أموالِ الشُّعوبِ المحتلَّةِ من أجلِ نَزواتِهِ البَهِيميَّةِ، وبقي (لومومبا) رمزًا للنِّضالِ من أجلِ الحريَّةِ، وثمَّةَ شوارعُ ومؤسَّساتٌ وجامعاتٌ تحملُ اسمَه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها. وقد حلَّتْ لَعنةُ دَمِ لُومومبا على الكُونغو، فابتُلِيَتْ بِحُكمِ الجِنرالِ الخائنِ: (مُوبوتو سيسي سيكو)، الذي حكمَ البلادَ بالحديدِ والنَّارِ أكثرَ من ثلاثينَ عامًا (1965-1997م)، شهدتِ البلادُ خلالَها مَجازِرَ وَحشيَّةً، وحروبًا أهليَّةً، وقضاءً على فكرةِ الديمقراطيَّةِ، وتراجُعًا في كافَّةِ المجالاتِ بلا مَثنويَّةٍ؛ لتبقى تلك القِصَّةُ عبرةً لِمَنْ يَعتبرُ، فكمْ في دُنيانا من وَطَنِيِّ مَغْدُور، ومُستبدٍّ مَسْعور، وشعبٍ مَقْهور! وإنَّ التاريخَ لَيُعيدُ نفسَه، وإنَّ اللَّبيبَ مَنْ وُعِظَ بغيرِه، ولله درُّ سابقٍ البَرْبريِّ (ت100هـ)، إذ يقولُ:

وَلَيْسَ يَزْجُرُكُمْ مَا تُوعَظُونَ بِهِ

وَالبَهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي، فَتَنْزَجِرُ

❃❃❃

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى