أشتات

عن انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة

ارتدت رفيقتي قفطانًا مغربيًّا في احتفالنا بأعياد الميلاد الأخيرة هنا في برلين، أحمر داكن، يتخلله شريطان ذهبيان وبطانة بيضاء، ويكمّله حزام على الخصر، ملكيّ الطابع بطريقةٍ ما، ومبهر على بساطته. كنت بحثت لأسابيع سابقة عن شيء ما يشبهه، بوقع عربي يختصر التاريخ في الأناقة، ولم تسعفني أوروبا. اضطررت لاحقًا لطلبه من دبي، ووجدتني أحسب لكل شيء، ما إن كان سيكون جميلاً عليها. الحقيقة أنَّ تجربة رفيقتي، وربما ثلثيّ نساء العالم الحديث، هي أن هناك فرقًا ملحوظًا بين قطعة القماش على جسم عارضة في الإنستغرام وأجسامهنَّ هن، تنهمر النساء -خصوصًا مع توفر خدمات التسوق الإلكترونية- إلى شراء قطع يخلنها تناسبهن، وتنتهي جميع القصص بالخيبات ذاتها، ضيق قليلاً أو واسع للغاية، ألوانه تناقض صاحبته، ولا سحر فيه كما كان في الصور، ولابد -إذًا- من أن تكون المرأة هي العيب في معادلة الموضة هذه، فالعارضة ارتدته أمام أعينهن، لو كن -ربما- يملكن جسمها، ربما!

لا شيء من هذا يحيط بالرداء العربي، بل وبكل ما هو تقليدي حول العالم. كان القفطان أخّاذًا على رفيقتي، وأراهن أنه كان ليناسب أي امرأة أخرى ترتديه، ولا يهم هنا كم عمرها، طولها، وزنها، لون بشرتها، أو انحناءات جسمها. تكمن المشكلة الأساسية في فوضى الأخذ والرد السَّابقة في ثقافة الموضة الحديثة، غربية الطابع، ورأسمالية المذهب. إذ تعتمد الموضة النسائية الحديثة على التركيز على جسد المرأة من زاويتين:

– إظهار الانحناءات. 

– إبراز أجزاء معينة ومختلفة من الجسم.

وغالبية الصيحات الحديثة لا تعدو كونها تنويعات لهذيْنِ العاملين. ما يحدث حقيقة حين ترى امرأة إعلانًا ما، هو أنها ترى العارضة لا الفستان الذي ترتديه، تنبهر بانحناءاتها، وتظن أنَّ السِّر في الفستان، وربما إن ارتدته هي كذلك لبدت ساحرة مثلها. تصمم الملابس اليوم لتناسب نوعية أبدان معينة، هي غالبًا تلك التي تسيطر على السوق وعالم الموضة، وهو ما يعني الإقصاء لفئة كبيرة من النساء. التنورة القصيرة ومفتوحة الجانب ستبدي الترهلات والشَّعر، الصدر أخجل من أن يناسبَ فستانًا متدليًّا من الأمام، الظهر ليسَ مثاليًّا ليُكشف، الجينز الضيق سيظهر الوزن الزائد أو النَّاقص، لا بطن مشدودة لتظهر السُّرة، والفساتين -حتى تلك المخصصة للأفراح- لا تناسب سوى السَّاعات الرملية، هذا البنطال لا يناسب كبيرات السن، وذاك يبدو قبيحًا على المراهقات، الخطوط الطولية ستبديك أرشق وأطول، والعريضة ستزيد من حضور جسمك.

مجددًا، لا شيء من هذا في الرداء التَّقليدي حول العالم، الحقيقة هي أنَّ الثقافات بامتداد هذا الكوكب كانت تنتج قطعًا فنية عابرة لحدود الجسد ومعوقات الزَّمن، كل فستان جميل بذاته، بتفاصيله وألوانه ونقوشه وزخارفه، وسيليق بكلِّ من تجربه، والتركيز حول الجسد في كل هذا ثانوي (الاستثناءات موجودة بالطبع). فكروا هنا بكل ما هو عربي من اليمن إلى المغرب، بالكيمونو الياباني، والقميص الحبشي، والديراك الصومالي (يشبه الدرع العدني)، والسَّاري الهندي، وغيرهم الكثير من شرق العالم إلى غربه، وحتى في أوروبا الأمس.

يقودنا هذا -بطبيعة الحال- إلى التساؤل عمَّا حصل، لماذا فقد العالم كل هذا الجمال؟ ولا تجد النساء في عشرات القطع، ومئات الألوان، وآلاف التنويعات، ما يناسبهن! تكمنُ الإجابة -بكلِّ مفاجأة ربما- بالذات في هذا التَّنوع والكثرة، إذ أنه، وفي لحظة تاريخية ما، غالبًا رافقت الثورة الصِّناعية وتشكل الرأسمالية الحديثة، بدأ كل شيء ينتج بكميات غير مسبوقة، وبدأت المجتمعات الغربية تتشكل من جديد، وتكتسب أنماطًا اجتماعية ونفسية جديدة، وفي مرحلة ما بدأ الفرد يحتل مساحة أكبر في الصورة، وتطور لاحقًا ليصير الفرد هو المركز الذي منه ينطلق كل شيء، بما فيه تعريف الوجود ذاته. ما تعنيه الفردانية -كما نسميها اليوم- هو أنَّ الفرد في بحثٍ دائم عن التَّميز، فالفرد هو المركز، والمركز لا بد أن يبرز، أن يكون له ثقله وحضوره، ولا بد أن يعني شيئًا، وأن ينطلق منه -ومن رغباته وتقلباته- كل شيء، ولأنَّ الفردانية بهذا توجه ذو طابع ثقافي أيديولوجي، فإن قياسها لا يكون بشكل مباشر، بل بالظواهر التي تنتج عنها وبالإمكان التعامل معها وتحليلها، والثياب -ربما- هي أكثر هذه الظواهر وضوحًا، وأسهلها تمييزًا، وتشكل بالنسبة لنا نقطة انطلاق مثالية لفهم انعكاسات هذه الفردانية على المجتمعات الحديثة.

انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة 2 عن انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة

حداثة، رأسمالية، عرض وطلب

لا تعدو السُّخرية من اشمئزاز النساء اليوم من الملابس الموحدة والمتشابهة، بل وتقاتلهن إن وجدن أخرى ترتدي ما يشبهها، لا تعدو كونها نكات ساخرة لا تخبر كل الحقيقة، إلا أنَّ النكات -في نهاية الأمر- ليست منعزلة عن واقعها كما نفضل أن نتصورها، بل هي نتاجه المباشر، وتظهر دائمًا في سياقات محلية تعني مجتمعاتها، ولا يبدو لي من المنطقي تجاهلها تمامًا. للمظهر الخارجي ثقله في حضور المرأة وفرصها في الوجود ذاته، هكذا كان الأمر منذ آلاف السِّنين، فالأجمل أوفر حظًّا في الرجال وما يأتي معهم من حماية ورخاء. إلا أن الآلة الدعائية الضخمة نجحت في استغلال هذه الحاجة النسائية للجمال بصورة غير مسبوقة، وإذا ما أضفنا الفردانية إلى المعادلة (ما يعني أنَّ المنافسة تخطت خلفيتها البيولوجية إلى تلك الاجتماعية والنفسية الناتجة بشكل مباشر عن الفردانية)، فإننا نحصل على طلب ضخم لا يتشبع السوق منه، تشتري النساء في المتوسط ملابس أكثر بكثير الرجال، وبالتبعية فأسعار الملابس النسائية كذلك أغلى منها مقارنة بالرجال (انظر الضريبة الوردية). تلبية هذا الطلب الكبير يتطلب تحديثًا مستمرًا وإنتاجًا سريعًا للغاية، وهو ما يعني أن لا وقت، ولا رغبة، في إنتاج أي قطع فنية جديدة. ما يميز الملابس الحديثة هو إمعانها في بساطة التصميم، ووحدة اللون للقطعة الواحدة، وهما ما يتيحان الفرصة لإنتاج أسرع وأيسر وأقل تكلفة وبالتالي ربح أعلى كذلك، ومن أجل تلبية الحاجة إلى التميز فإن التنويع لم يجد إلا أن يظهر في العامليْن اللذين ذكرناهما سابقًا: انحناءات الجسم وما يظهر منه. فالخيارات الآن أمام المصممين تنحصر غالبًا في: أي جزء من الجسد سنظهر، وكم تحديدًا، وأين سنضع الانحناءات؟ هل هو صدر مفتوح؟ إلى أي حد ستكون التنورة قصيرة؟ هل نكشف الظهر، أو نجعل الرداء شفافًا؟ هل نضع ثقوبًا في البنطال، أم نقصّر القميص؟ ربما من الأفضل ترك الأكتاف مكشوفة؟ أي جزء سيكون فضفاضًا وأي جزء ملاصق للجلد؟ ماذا لو وضعنا هذا التصميم لمواسم الموضة الفلانية ووضعنا نقيضه في المواسم التالية؟

الحقيقة هي أنَّ القطع المنتجة بحد ذاتها رديئة للغاية، ليس فقط في جودة الإنتاج وإمكانية الاستدامة، بل وأهم من كل شيء فإنها تفتقر لأي إبداع فني، ولا روح فيها، وكما أسلفنا، لا تناسب كل النساء، إلا أنها كل ما بالإمكان إيجاده، وكل ما يتم الترويج له، وبإمكان الدعاية أن تجعل من الفحم ألماسًا ما دام هي تصنع شعورًا دائمًا بالنقص والحاجة عند أهدافها، وتجعل من إنتاجها الطبيعي والعادي في مخيلة الناس. لا أريد الإسهاب في الحديث عن كم هذا النقص المسيطر على نفسيات النساء مربح للغاية للشركات، وكيف أن هذه التصاميم تجلب حاجة أكبر لمنتجات أخرى للرعاية بالبشرة وإزالة الشعر وإخفاء العيوب وإنقاص الوزن، بالإضافة إلى قطع لا بد من أن تكمل الستايل الموجود…إلخ. الأمر ذاته موجود لدى الرجال بالطبع، الثقافة الفردانية واحدة، إلا أنَّ الحاجة للمظهر الخارجي أقل عند الرجال بالطبع، وهو ما يعني نوعًا مختلفًا من التميز الفردي يظهر في امتلاك السيارات مثلًا، ولكنه أقل حضورًا في عالم الملابس. حتى في العالم التقليدي، كما هو الأمر في شمال اليمن -مثلاً- يرتدي الرجال الثوب ذاته دون البحث عن أي تنويعات، بينما يظهر التمايز في الجنبية، بقيمتها وأصالتها وإتقان صنعها، بكم تجعلهم مهيمنين، لا بكم تجعلهم جميلين، والوضع في حضور الفردانية الحديثة أشد تطرفاً بالطبع. ربما تكون البدلة الرسمية بربطة العنق هي آخر ما تبقى من الزي الثقافي الغربي الموحد والأنيق. بإمكان كل الذكور، في كل الأعمار، وبكل الأحجام، أن يبدو مهمين وجادين وجذابين في البدلات الرسمية، وإن كان حضورها يقل يومًا عن الآخر حتى في سوق العمل. إلا أنَّ الرجال -عمومًا- يرتدون الأشياء ذاتها، قميص وبنطال، ربما يكون شعار شركة ما أو شخصية من عالم الفانتازيا هو ما يميز قميصاً عن الآخر، ربما قلنسوة تغطي الرأس أو ياقة حول الرقبة، لكن التنويعات محدودة، وحتى الألوان، والطابع العملي هو الغالب في تصورات الرجال عن الملابس، وهو ما يجعلهم مصدومين حين يرون إحداهن ترتدي تنورة قصيرة للعمل والحفلات حتى في أشد الأجواء برودة.

ربما يكون المثال الأخير في هذا السياق هو الأقدر على إسناد النقطة التي نتحدث عنها، وتحديدًا الإشارة إلى المشاهير في حفلات توزيع الجوائز. الحقيقة أننا لا نظن بإمكان أيٍّ كان ارتداء الملابس الغريبة والمقززة التي تظهر في عروض الأزياء الأكثر جنونًا، حتى نراها فوق ممثلة أو مغن. المشاهير هم رموز الفردانية في العالم الحديث، بكل ما للكلمة من معنى، ذلك أن مركزتيهم ليست وهمية، بل هي حقيقية تؤكدها لهم -على الأقل- الكاميرات الطائفة حولهم، تسبيح الملايين بحمدهم، وفي تلك المناسبة بالذات فالجوائز أهم تعبير عن كل هذا. وحين تكون المركزَ الأكثر سطوعًا فلا بد أن تكون الأكثر تميزًا كذلك، وأي طريقة أسهل لجذب الانتباه من قصة شعر غريبة أو ملابس لا منطق خلف تصميمها، وهذا التركيز على المظهر فعال وناجح إلى أبعد الحدود. رونالدو الظاهرة (البرازيلي) أدرك -فجأة- مدى أهمية المظهر في جلب الأنظار بعد قصة شعره المميزة في عام 2002، بسببها توقف العالم عن الحديث عن إصاباته وأدائه وبدأوا يتحدثون عن قصة شعره، كان هذا مفيدًا بالنسبة له إذ جلب كأس العالم الخامسة لبلاده، ولكن الفائدة ذاتها لا تنطبق على غيره بالضرورة.

انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة 4 عن انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة

أنا أرقص، إذاً أنا أكون

الأزياء ليست التَّعبير الوحيد عن الفردانية الغربية بالطبع، ولكن التركيز عليها -كما أسلفنا- نابع من كونها الأكثر ظاهرية، والأسهل ملاحظة واستنتاجًا، إلا أنَّ الرقص ربما يكون أشد ضراوة في تعبيره عن التَّفرد. لا يمكن اليوم الإشارة إلى رقصة ما باعتبارها كندية أو فرنسية مثلًا، ولا يمكن دفع غريبين في ساحات روما ليؤديا الرقصة ذاتها. لطالما كان الرقص في أصله طقسًا دينيًّا/اجتماعيًّا، تعبير عن الوحدة المجتمعية، وانهمار العاطفة في حركات الجسد، وانسجام المجموعة في الواحد، وهو ما يعني أن الجميع -في نطاق جغرافي/ثقافي ما- يتعلم الرقصات ذاتها، ويؤديها مع أيٍّ كان، ويستمتع بها كما يستمتع الجميع، في الأعراس والأفراح والأعياد أو حتى دونما داع أو مناسبة. لا يزال بإمكاننا، وإن بصورة محدودة مقارنةً بما كان عليه الأمر قبل قرن، أن نرى غريبين في اليمن، أو تركيا، أو أثيوبيا، أو الهند يؤديان الرقصات ذاتها، دون سابق تنسيق، ولا يزال بإمكاننا الإشارة لتلك الرقصات بهوياتها الثقافية، بل وبهويات ثقافية ضيقة ومحدودة كما هو حال “البَرَعْ” بتنوعه بين اليافعي والهمداني واللحجي والصعدي، كمثال على رقصة يمنية واحدة بتفاصيل غنية. الوضع اليوم مختلف تمامًا، والرقص بشكله الحالي يُعرّف باعتباره تعبيرًا عن الذَّات، بل هو ربما أنقى صور التعبير عن الذات، وبهذا فهو بحث دائم عن التميز، وابتكار دائم لكل ما هو مختلف وجديد.

لم يقدم أي شيء خدمة للفردانية في عالم الرقص أكثر من تطبيق TikTok، فبعد أن كانت الرقصات تتغير كل عقد أو أكثر (حتى في المجتمع الأمريكي ذاته) مع تجدد الموسيقى وتغير الصيحات خلال القرن الماضي، صرنا اليوم أمام انفجار مهول للرقصات احتل وسائل التواصل الاجتماعي. كل فرد يخترع حركاته الخاصة، الخالية من المعنى والرمزية كما هو طبع الرقص الديني/الثقافي، وكل فرد يؤدي بهذا رقصته الخاصة، وربما يكون في هذا مبالغة ما، إلا أنني لا أرى هذا في معزل عن الفردانية في عالم الملابس، خصوصًا حين ننظر إلى الفروق بين الجنسين سواء في عالم الثياب أو رقصات التك توك. تتعدى انعكاسات هذه الفردانية تطبيقات وسائط التواصل الاجتماعي إلى أرض الواقع، بإمكان حشدٍ غفير في حفلة في “ميامي” أو “برلين” أن يرقصوا في الوقت ذاته، وعلى النغم ذاته، دون أن يشبه تحرك اثنان بعضهما، يرقص الناس -في هكذا حفلات- مع بعضهم دون أن يرقصوا مع بعضهم، كل في عالمه الخاص، وكل يعبر عن ذاته، عن تميزه، ويصرخ بأن لا شيء آخر يشبهه.

لمن كل هذي العدسات... تغني وتشدو لمن؟

نحن أمام حشود بشرية جائعة لتحقيق الذَّات، لإشباع رغبات الذَّات، ولتأكيد تميز الذات، ولم تكن وسائط التواصل الاجتماعي سوى هدية الرأسمال لهذا الجوع الهائل. شاهدت مؤخرًا فيلمًا قصيرًا أنتجته شابة أمريكية عن سقطرى في زيارة قريبة، ولا أظن بإمكاني إخفاء انزعاجي من أنَّ غالبية الفلم لم يخل منها هي، كانت هناك، في كل مشهد ومع كل نغمة، فوق كثبان الرمل وتحت سطح الماء، وأهم من كل شيء في مركز العدسة، وبدا لي لحظتها أنَّ سقطرى بعنفوانها جانبية أمام تجربة الشابة وحضورها. هي ليست الوحيدة بالطبع، مكنتنا كاميرات السيلفي من احتكار الصورة في الذات، لم يعد بإمكان أحدهم أن يلتقط صورة للمكان والحدث والزمان، لا بد أن يكون وجهه جزءًا منه، ولا بد من تجاوز قيود عوالم “ما خلف الكاميرات” التي كبلت الناس قبل عالم الهواتف الذكية.

ما قيمة صورة لا أكون أنا مركزها؟!

الظواهر من هذا النوع صادمة، بالنسبة لي على الأقل، لا يستطيع أحد اليوم مشاركة فيديو أعجبه، لا بد أن يقلد صانعه في حركات جسده ونبس شفاهه، إذا ما صدرت أغنية ما فلا بد من أن تنهض المراهقات للرقص، وتبدأ أخريات في تحريك شفاههن وذرف دموعهن ليبدو أنهن من اختلق كل ذلك الكلام، وحين يريد أحدهم أن يرينا مقطعًا أعجبه، فلا بد أن نشاهد تفاعله كذلك، من المهم للغاية أن نعرف أين يجب أن نضحك وأين ننصدم، ويهمنا للغاية أن نعرف ما أعجبه تحديدًا. يصل الأمر إلى تصوير الكثيرين فيديوهات مهينة للذات، خطيرة، مقززة، سخيفة، بل وفيها استغلال للكوارث المأساوية لكسب التفاعل والتعاطف، لا فرق، المهم -في نهاية الأمر- أن أكون “أنا” في مركز الكاميرا، أن يراني الآخرون، وأن أستطيع أن أكون مركز الكون ولو لثلاثين ثانية ريثما يحرك أحدهم إصبعه على الشاشة ويبحث عن آخر مهووس بذاته.  ربما يكون مفيدًا أن أذكر هنا قناة على اليوتيوب باسم “@joeybtoonz” تمثل بمجهودات صاحبها تلخيصًا جيدًا لهذه المرحلة في التاريخ البشري.

انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة 5 عن انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة

عالم لا يشبهني... لا يهمني

كل هذه الفردانية مرعبة، لا يهمني هنا كثيرًا الحديث عن الصوابية والأخلاقيات وثنائيات الخير والشر، ولكنها مرعبة في سرعة حضورها وقوته غير المألوفين، والمرعب أكثر من كل شيء هو طيف العمى الذي تولده هذه الفردانية. يعجز الفرد في هذا العالم الجديد عن تخطي ذاته حين ينظر إلى الآخرين -هذا إن نظر إلى البعيد أصلاً- ويؤمن بقناعة تامة بأن لا شيء أهم مما يرغب فيه الآن، ولا شيء آخر صواب في هذا العالم سوى ذاك الصادر من ذاته. يفشل الإنسان الحديث اليوم في فهم مظاهر اجتماعية تتجاوز الفرد إلى ما هو أعمق تركيبًا وتعقيدًا. خذ مثلًا تعامل المعالجين النفسيين في أوروبا مع مرضاهم القادمين من العالم العربي، ثمة فجوة هائلة بين ما اعتاد المعالجون عليه في مجتمعاتهم وما هو كائن في أعماق مرضاهم؛ إذا ما واجهت مشكلة مع عائلتك أو اختلفت معهم، فلم لا تقطع علاقتك بهم وتعبر عن رأيك بكل صراحة؟ حريتك وسعادتك الشخصية أهم. لماذا تدرس الهندسة والطب إن كان شغفك الموسيقى أو اللغات؟ اتبع شغفك، سعادتك الشخصية أهم.

لا يعي هؤلاء المعالجون -رغم اختصاصهم في فهم النفس البشرية- تعقيد العلاقات المجتمعية وتأثيرها على أفراد هذه المجتمعات، أدوار هؤلاء الأفراد ومسؤولياتهم تجاه أهاليهم، قيمة ومكانة العائلة في وعي الفرد، والارتباط الذي لا يمكن الانفصال عنه بهذه السهولة بهذه المنظومة المجتمعية التي لا تخدم الفرد دائمًا، ومهما أثقلته سيجد نفسه منتميًا إليها وغير قادر على تجاوزها دون أن تنهكه. والوضع ليس أهون خارج مجال الاختصاص، الحجاب الإسلامي كمثال هو ربما الأكثر جدلية في أوروبا اليوم -بما ينتج عنه من تصورات وأساليب تعامل متنوعة- ينطلق في جدليته من هذه الفردانية المدعومة بالمركزية الأوروبية. لا يفهم الأوروبي اليوم كيف بإمكان كل النساء أن يرتدين الشيء ذاته، ألّا يرغبن في إبراز مفاتنهن في العلن، وكيف بإمكانهن ألا يرتدين ما ترتديه النساء في أوروبا! لا يستوعب الغربي ما يعنيه أن تقول امرأة أنها لم تفكر في الحجاب يومًا كشيء خارجي منفصل عنها، هو بالنسبة لفئة كبيرة من النساء مُسلّمة كغيرها، تقليد اجتماعي، شيء ما يرتديه الجميع، وهو بهذا طبيعي، وأي تعقيد في علاقة المرأة المسلمة بالحجاب لا يتم أخذه في عين الاعتبار في خطابات المظلومية والاضطهاد التي تصدّر ليل نهار.

وجهان لعملة واحدة

بالطبع لا يتعلق الأمر في هذه الحالة بالفردانية فحسب، نظرة الأفراد والدول تجاه العالم المحيط مصحوبة بتركيبة من الأيدولوجيات والتحيزات والظروف التي تتغير وتتأرجح هي بدورها، والفردانية بطبيعة الحال جزء من هذه التركيبة يرتبط بأجزاء أخرى في علاقات سببية وغير سببية. الفردانية -مثلاً- تبني نفسها على مفهوم الحرية الحديث، وتستمد وجودها من درجة ما من الرخاء الاقتصادي، والعكس صحيح كذلك. الحرية تعني -بأبسط تعريفاتها- انعدام القيد، أي -في هذا السياق- قدرة الفرد على/حق الفرد في التصرف والتعبير والتفكير بالطريقة التي يراها مناسبة، وهذا -في وجود الفردانية- يعني أن القيم والمعايير التي يتم تقييم الأفعال والأفكار بها نابعة من الفرد ذاته، لتتوسع الحدود التي تقيد عندها الحريات من نطاق الاتفاق المجتمعي، إلى المحظور القانوني، وحتى هذا قابل للتغير والتوسيع. الجدال الأكبر في الولايات المتحدة اليوم يحوم حول قضية الإجهاض، وكله يتعلق بإتاحة القانون للإجهاض من عدمها، ومن الممكن ملاحظة كيف أن خطابات الطرفين المتجادلين في هذه القضية نابعة من منطلقين مختلفين، كلاهما يقف على النقيض من الفردانية التي نتناولها هنا. وأعني بهذا أن الخطاب المحافظ يبني غالبية حججه على الدين والأخلاق في تبرير منع الإجهاض، مؤكدًا على أن مصير الفرد (في هذه الحالة كل من الطفل المحتمل والأم) خاضع بطريقة أو بأخرى للنظم المجتمعية الجامعة، أما على الجانب المقابل فيلجأ الليبراليون أكثر من أي شيء إلى حجة “هذا جسدي، وهذا خياري” انطلاقًا من أحقية الفرد في اتخاذ قرارات تتجاوز أي نظم أخلاقية يدعو إليها الطرف المقابل. لا يهم ما يقوله الآخرون، ولا ما يفكرون فيه الآخرون، ولا حتى النقاش حول ما إن كان ما ينمو في الرحم -قانونيًّا وأخلاقيًّا- طفلاً حتى. يرجع كل شيء في نهاية الأمر إلى خيارات الفرد وتفضيلاته، وبهذا بإمكان الفرد أن يعتمد على مركزيته في إصدار أحكام مطلقة على أفعاله؛ من يؤمن بالإجهاض فليفعل، ومن لم يؤمن به فليدع الرضيع يعيش.

عالمية الفرد وفردانية العالم

تتسلل هذه النَّظرة الفردانية إلى عقولِ الجميع بفعل العولمة المهولة وانفجار ثورة المعلومات المتاحة، ويتغير العالم بالطبع. تتأثر أمم أكثر من غيرها كذلك، خصوصًا تلك التي عانت من الاستعمار والسيطرة الغربية، وإن كانت طبيعة هذه التغيرات تختلف من مجتمع لآخر. مجتمعات شرق آسيا -كوريا الجنوبية أكثر من غيرها- تعيش بين متناقضين. تظهر الفردانية هناك نتيجة تبعية ثقافية/سياسية/اقتصادية بالولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والنمو الاقتصادي الهائل، ودرجة جيدة من الحريات، تظهر في جزئيات معينة في نمط الحياة وتغيب عن غيرها، من ثقافة الموضة والرقص الذين ذكرناهما سابقًا، ووصولًا إلى ثقافة العزلة المجتمعية التي يفضل بسببها الأفراد البقاء وحيدين والتخلص من أعباء العائلة والأطفال، بل -وكما هو الأمر في اليابان- تنتج مجتمعات من أفراد منعزلين تمامًا عن محيطهم، بالكاد تلعب العائلة أي دور في حياتهم، ناهيك عن بقية المجتمع. إلا أن هذه المجتمعات لا تزال تحافظ على بعض البنى التقليدية التي تربط أفرادها ببعضهم، ولا يزال مفهوم الحرية الفردية لم يصل لحدود الحرية في مفهومها الغربي.

مثال جيد في هذا السياق هو لاعب كرة القدم “سون” الأنجح والأشهر في تاريخ كوريا الجنوبية، إذا أنه -رغم وصوله سن الثلاثين- لم يتزوج أو ينجب بعد، بخلاف حال غالبية لاعبي كرة القدم اليوم، انصياعًا لرأي والده الذي يرفض تمامًا التزامًا كالزواج والأبوة قد يشتت اللاعب عن طموحه. بالطبع فإن “سون” الابن له علاقات عابرة مع مشهورات كوريات، إلا أنه يؤكد أنه يتفق مع والده في رأيه هذا، وهو تمامًا مما نتوقعه منه؛ فرأي المجتمع -في الأنظمة التقليدية- هو رأي الفرد، والغلبة له عادة، بخلاف المجتمعات الفردانية التي الرأي فيها للفرد، بل ورأي الفرد هو رأي المجتمع. الأمر يتجاوز حياة لاعب الكرة إلى ما هو أشمل كسياسات الحكومات شرق الآسيوية للسيطرة على فيروس كورونا، إذ أن سياسات صارمة كتلك التي تتضمن التعقب والحظر الكامل والتدخل المباشر والصريح للدولة في حياة المواطنين لاقت رفضًا هائلًا في أوروبا، واستهجانًا حتى ممن اتبعوا إجراءات الحماية القانونية المخففة، بينما كان الرفض ثانويًّا وغير موجود نسبيًّا في شرق آسيا إذا ما قارناه بأوروبا.

اليمن على الجانب المقابل لا تزال لم تتأثر بهذا الشكل بعد، ربما تكون الطبقة الغنية وفئات من الطبقة المتوسطة هم الوحيدين الذي تأثروا بموجة الفردانية، غالبًا تحت تأثير العولمة والرخاء المادي اللذين كانوا أوفر حظاً بتمتعهم بهما. مفهوم حرية الفرد في اتخاذ قراراته والتعبير عن ذاته خارج الإطار المجتمعي لا يزال غريبًا، بل ومستهجنًا، لدى غالبية فئات المجتمع، وفي مختلف مناطق البلاد، وربما يكون أكثر في حالة النساء منه مقارنة بالرجال. ليس وكأن الفردانية تؤثر على النساء بشكل أقل أو أكثر من الرجال، لكن وباعتبارها تعبيرًا عن الذات، فهي تتطلب وسائل هذا التعبير، وهو الترف الذي لا يملكه غالبية المجتمع من جهة، والنساء أكثر في الجهة المقابلة. كل شيء قابل للمساءلة: قصة الشعر، نوع الملابس، أنواع المجوهرات، طريقة الكلام ومحتواه، الصور والزينة، الصحبة، وجهات التنقل. الأمر يصل إلى التأثير، بشكل لا واعٍ أحيانًا ومباشر أحيانًا أخرى، على خيارات الفرد المصيرية فيما يتعلق بمن يتزوج، وماذا يدرس أو ما إن كان سيدرس أصلًا؟ وماذا سيعمل؟ وأين سيعيش؟ وبهذا فالفردانية ذاتها لا تزال قابلة للمساءلة داخل إطار المجتمع اليمني، والخيارات الفردية، مهما كانت خلفياتها، تتعرض للتقييم المجتمعي بصورة دائمة، حتى حين يكون الفرد خارج نطاق المجتمع، مغترباً في بلاد بعيدة، ويعيش حياة منفصلة تماماً عن كل شيء يعرفونه.

انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة 6 عن انعكاسات الفردانية على المجتمعات الحديثة

خاتمة:

لا شيء ثابت في نهاية الأمر، والفرد يصير أقوى كل يوم، وأكثر رغبة في الظهور، ولا يتجلى هذا اليوم أكثر مما هو في الطريقة التي تنظر فيها المجتمعات الغربية إلى آراء ومعتقدات الأفراد، بإمكان الفرد في العالم الحديث أن يعلن تحوله إلى الجنس الآخر دون تقديم أي تبريرات أو الانصياع لأي معايير خارجية بغض النظر عن مدى وجاهتها. ينطلق المجتمع في توصيفه وتعامله مع هذا الفرد بناء على ما يراه هو عن ذاته، فالضمائر التي يختارها لنفسه هي ما يجب مخاطبته به، والهوية التي يدعيها هي ما على الجميع الاعتراف به، فما يراه الفرد -بهذا- حقيقة مطلقة لا تستوجب أي مساءلة، حين يقول أحدهم أنا امرأة، فهو امرأة بالفعل، وسيعاقب -قانونيًّا ومجتمعيًّا- من لا يقبل بهذه الحقيقة.

يذكرني كل هذا بقصة قرأتها في مجلة للأطفال (غالبًا في العربي الصغير) ووجدتها لاحقًا بتنويعات كثيرة في أدبيات مختلف الثقافات. مفاد القصة أن ملكًا مهووسًا بالثياب والتباهي بثروته جاءه حائكان قبل احتفال كبير في المملكة. وعد الحائكان الملك برداء لم يعرف البشر مثيلاً له، هو الكمال في فن النسيج والحياكة، رداء من خيوط الشمس والقمر بالذات، قمة النقاء فلا يعجز عن الانبهار بجماله إلا من ليس بابن أبيه أو قليل العقل وخسيس الصفات. أعجب الملك بعرضهما بطبيعة الحال، ووفر لهما كل ما طلباه، وبدأ الرجلان العمل في غرفة ضخمة كانا قد طلباها لأن نوافذها لا يحجب عنها الشمس ولا القمر. بدأ الملك -بعد أسبوعين- في إرسال وزرائه لتتبع سير العمل، إلا أن الجميع كان يتفاجأ حين يرى الحائكين يعملان في الفراغ، لا شيء أمامهما إلا آلة النسيج والهواء، والكثير من الإبر على شفاههم وفوق القبعات على رؤوسهم، إلا أن أحدًا لم يتفوه بكلمة خشية أن يكشف الناس كونهم أحمق وأدنس من أن يروا رداء بذاك الجمال، رداء من خيوط الشمس والقمر، وما كان لهم إلا أن يعودوا واصفين جمال وعظمة الرداء في حضرة الملك. حتى الملك ذاته، في اليوم الموعود، حاول إخفاء صدمته حين قدم له الخياطان الرداء ولم يستطع أن يراه، وهو إذ لم يرد أن يقلل منه وزرائه الذين أكدوا له أنهم رأوه حتمًا، إذ أبدوا إعجابهم الشديد بروعة الرداء، فقد اكتفى بادعاء أنه رآه هو كذلك، وبدأ ينهمر عليهما -مفتونًا بإبداعهما- أكياسًا من ذهب وفضة. ألبس الحائكان الملكَ الرداء، وخرج الملك ليتباهى أمام الملأ المنتظرين بفارغ الصبر، وكلما سمع آهات الإعجاب والانبهار قلّ توتره وزاد عجبه، وظن أنه كان مخطئًا لشكه في الحائكين لولهة، فحتى إن لم يره هو فعلى الأقل سيراه الناس، ولمَ تُلبسُ الثياب إلا للناس؟ وقبل أن يخطو الملك خطواته الأخير عائدًا إلى قصره لم يكن منه إلا أن سمع طفلاً يصرخ بين الحشود: “ولكنني أرى الملك عاريًا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى