أشتات

عن وائل حلاق: محاولة لفهم سوء الفهم

طالما كان الكاتب الإشكالي كاتبًا ينتمي إليك ويتحدثُ بلغتك ويعبر من منطلقكم الثقافي، إذ الأرضية المعرفية التي تتحدثان عنها وتنطلقان منها واحدة، ولكن تختلف وجهات النَّظر وتختلف أغراض الكتابة، وأدواتها.

إنَّ القراءة هي شكلٌ من أشكالِ سوء الفَهْم، ولربما نحن مدينون لسوء الفهم أكثر من صحَّة الفهم، فالمعرفة إن تنازعنا عليها انشطرت وتمزَّقت وتفرع بسبب ذلك مناحي كثيرة، يسهم النَّاس فيها بما تجود به قريحتهم.

إنَّ هذا التَّفاعل ينتمي إلى القراءة الواعية، إذ ينتهي الإنسان من طبيعته التي هي النِّسيان إلى طبيعة حيوانية تتمثل في الاجترار، أي أنَّ على الإنسان أن يكتسب طبيعة البقرة -بتعبير نيشته(1)- حتى تصبح القراءة فنًّا، وشكلًا جماليًّا، وتنشعب منها معارف وعلوم، فهنا يتوقف النسيان ويبدأ الاجترار واستجلاب كل المعارف في سبيل القراءة.

إنَّ لكل شيء ضريبته، وضريبة الكاتب ليس في سوء الفهم الذي يناله -لأن عليه أن يتقبل هذا النوع من التفاعل مع النص- وإنما ضريبته في التجني ومجاوزة الحد، والتَّخلي عن الخلق في سبيل رفض ما يقدمه الكاتب، فهذا النوع وإن أثمر معرفة إلا أن ما يشوبها من مرض وغرض قد لا يمنحها شرط البقاء.

إن التفاعل مع الكتاب كالشَّك فيه والتبجيلِ له، نقدهِ والحفاوة به، نشرهِ ومنعه، وكثيرٍ غير ذلك يسهم في تحريك العقول وتثوير النفوس، إذ لطالما كان هذا هو أهم محفز لإنتاج المعرفة ونشرها.

لربما لا يكون القارئ ذا إنتاج ما لم يكن ذا هم، فالقارئ لأجل القراءة مهما كان نهمه لا يرجى منه نتاج مدهش حتى يشتبك ويرزقه الله بطاردي النوم ومقلقي الروح، وجالبي الهم= أي القراء بكل أشكالهم.

نعود ونقول: إنه لا يمكنك أن تتفاعل مع شيء لا عهد لك به ولا فكرة لك عنه، فكثيرًا ما عبرت على البشرية عقول كانت مغتربة عن واقعها لأنها لم تتحدث معه ولم تشتبك به.

إنَّ وائل حلاق من تلك العينة من الكتَّاب الإشكاليين، ونحن هنا إنما نحاول جهدنا في فهم أسباب سوء الفّهْم، مختصرين قدر الإمكان، ونحاول الابتعاد عن أي فريق، ولربما اقتربنا من ضفة حلاق لسببِ الكتابة وليس رغبة في التَّحيز، فليعذرنا القارئ.

الفخ

تتجه غالب كتابات حلاق إلى تراثنا الإسلامي أي أنه يكتب عن شيء مشترك بيننا، ولكن في الوقتِ ذاته يكتبُ لقومٍ آخرين فاضطر لتبسيطِ المعرفة إلى أقصى مدى، وهذا فخ بالنسبة للقارئ ذي الخلفية الإسلاميَّة؛ لأنه حين يقرأ له سيجد في بادئ الأمر كلامًا عاديًّا ينتمي إلى ممهدات العلوم التي اِطلع عليه منذُ زمن، فهو يُقبل أول الأمر على رجل ذي مكانة عالية في تخصصه في الغرب ثمَّ يتفاجأ ببعض الموضوعات التي يبتدأ بها كتبه فإذا هي لا تعطيه جديدًا، فحينها سيقرأ قراءة سريعة متكلًا على ما لديه من سابقِ خبرة، هذه القراءة السريعة التي قد يتبعها عدم اهتمام وتململ سريع ستجعله عرضة لانصرافه عن الأفكار التي تأتي في ثنايا كلامه.

تلك الأفكار الإشكالية، ستكون عرضا لأن تتسلل من بين يديك لأنك كنت متكلاً على ما عندك.

صعوبة الفهم

هناك شيء آخر يجعل تلكَ الأفكار تتسلل من بين يديك، هو تشعب طرق دراسة الموضوع أي أنه لا يعالجه من منظورٍ واحد، بل من اتجاهات متعددة، وحينها قد لا تجد نفسك مضطرًا للرجوع من جديد للقراءة ولا لمواصلتها ومحاولة فهمها وذلك لصعوبة الأمر، فأنت بين ملل وردة فعل محبطة وبين طريقة متشعبة في تناول الموضوع، ولهذا نجد بعضهم يقول لم أفهم ما الذي يريده حلاق، ولعلَّ هذا أحد تلك الأسباب التي تجعل بيننا وبينه مسافة، ولكن لماذا هذه الصُّعوبة؟

لا أعني صعوبة اللغة، وإنما الصُّعوبة في الدراسة.

سبب الصعوبة

يرجع السَّبب في صعوبة الفهم إلى أنَّ وائل حلاق متأثر كما يبدو لي بالنَّظرية الوظيفية لـ تالكوت بارسونز وهو عالم اجتماع له نفوذه في علمِ الاجتماع الأمريكي، وهذه النَّظرية صعبة ومتعددة المعالجات كما وصفها إيان كريب -وهو أحد علماء الاجتماع- بنظرية الملفات أي أنك حين تعالج ظاهرة ما باستخدام هذه النَّظرية فأنت ستبدأ بفتح مفهوم وهذا المفهوم يفتح مفاهيم أخرى، وهكذا، حتى أنكَ لو أردت الالتزام بتلك النظرية لتعددت طرق المعالجة بشكل يصعب عليك عده(2).

الصراعات

يعد طرح حلاق مختلفًا عن الطَّرح السَّائد، أي أنه لم يأتِ ليعزز جبهة ما، وإنما أراد إعادة فهم تلك الموضوعات المتصارع عليها، وكان طرحه إشكاليًا، فكل رماه على خصمه، وهكذا صار محل رفض مزدوج لأنه دخل بشكل يريد فض الأيدولوجيات المتصارعة في الساحة الإسلامية ويعيد فهمها وتفهيمها، ولكن الصَّوت صاخب، ولذا يحق له أن يقول أنَّ القارئ العربي لم يفهمه جيدًا كما فهمه القارئ الغربي، وليس هذا تبخيسًا كما أظن، ولكن السَّبب في ذلك أن طرح حلاق حينما ينزل في التداول الإسلامي فهو ينزل على ساحة محتدمة فبالتالي لا يقرأ له بروية وإنما بريبة.

أمَّا الغربي فهو لا يعنيه هذا الصراع فليس عنده أي مشكلة نجح أحدهما أو خسر كلاهما، أما العرب فيرونها معركة وجودية فلا شك لن يكون محل ترحاب إلا عند الذين أرخوا سمعهم وابتعدوا عن دائرة الصراع ولم تتكون معرفتهم نتيجة لصراع، بل كانت عملية واعية متأنية.

إذن هذا الصراع سبب صورة ذهنية مسبقة عن حلاق صارت حجابًا منيعًا لدى بعضهم ولربما ألقت بشيءٍ من ظلالها على البعض الآخر، ولا يوجد قارئ يأتي من خلفية بيضاء.

أسباب شخصية

بعض الذين رفضوا حلاق إنما كان سبب رفضهم له راجع إلى كون القبول به يعني التخلي عن مشروعهم الذي نسجوه، فكان قولهم مليء بالأغراض وحظ النفس، لذا كانت الاتهامات سريعة.

فحين يقول حلاق إنَّ الدولة الإسلامية مستحيلة وذلك لأن نموذج الإسلام الأخلاقي يتعارض مع نموذج الدولة الحديثة التي ينشدها رواد الإسلام المعاصر، فستجد من يرفضه إنما رفضه لأنه قام ببناء فكره على تنزيل أو شرعنة مفهوم الدولة الحديثة ليصح تنزيله على الإسلام، فإذا وافق حلاقَ فحينها يفقد مشروعيته الفكرية وجهده العلمي الرصين الذي بذله.

ولذا فلا بد له من مخالفته بل والحط منه ما أمكن، لأن نموذج الدولة الذي نشده وبنى عليه مشاريعه سيتهاوى بين يديه وحينها لا مبرر لمشروعه، فلزاماً عليه أن يحمي ما بناه ولو على حساب الآخر.

وهناك جانب آخر، وذلك أنه إذا قال ذلك القارئ أنَّ حلاق على غلط فيلزمه بيان ذلك مفصلا، وحينها سيشعر أنه سيقع في فخ الإعلاء من شأن الدولة الحديثة؛ إذ النقاش في هذا المضمار محفوف بالمخاطر، فلا ننسى أن الدولة الحديثة نشأت في صراع على العلمانية، فقد لا يسلم من هذا المنعطف الذي قد يكلفه الكثير، فلذا كانت الإساءة الشخصية أقصر الطرق، وخصوصاً حين يعتمد على ما حققه من جماهيرية تعطيه شرعية القول كما يريد.

هذا المأزق سيهربُ منه أيضًا ويكتفي بالدخول في النيَّات والتسفيه ونحو ذلك، كما قد رأينا.

ختامًا:

هذا المقال الذي هو حديثٌ عابر ومحاولة لتلمس بعض أسباب سوء الفهم، فإني هنا لستُ لغرض الوقوف في صفِّ أحد فجميعهم لهم فضل على المعرفة العربيَّة المعاصرة.

ولا بدَّ من إعادة التنبيه، أنه طالما كانت اِختلافات ذوي العلم مورد علم ثمين، تُنثر فيه بدائع من العلم وروائع من الحكمة، فإذا نظرتَ إلى خلافهم بهذا المنظور تجنبت كثيرًا من تجاوزاتهم وقبضت على كثير من العلم الوافر.

وفي الأخير إذا تصدرت لنقد ظاهرة لها تاريخها العميق على مستوى الأفراد والممتد في التاريخ، فلا تظن أن تاريخ الظاهرة بما فيه من جلال وبهاء، وبما تعاقب عليه من عقول ودول، وسفكت في ثناياه الدماء والمداد، سوف يقف هذا التاريخ بين يديك خاضعا طائعا مسلما لك كل ما تقوله!

إن كنت تعتقد ذلك وأنك لن تجد مقاومة فتوقف فأنت لست ناقداً، أنت ساذج.

الهوامش:

  1. ميشيل فوكو، المعرفة والسلطة ص 7.
  2.  النظرية الاجتماعية من تالكوت بارسونز إلى هابرماس، إيفان كريب ص61 وما بعدها.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. أحسنت
    فعلاً كلما كانت الحصيلة الثقافية قليلة كلما وقع القارىء لحلاق في الفخ، كذلك دخوله في دوامة أفكاره لحد الملل من مواصلة القراءة …
    كل الشكر والحب أخي العزيز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى