أشتات

فترات الانتقال: تخلية حضارية

بات معلومًا لديَّ الآن، وبشكل أكثر يقينية، بعد سنوات من التَّأمل في البيئةِ العربية، التي كانت عليها الجزيرة العربية، بداية القرن السَّابع الميلادي- الأسباب الموضوعية والذَّاتية التي أهلت تلك البقعة من الأرض، بجغرافيتها وإنسانها، لتكون المهاد الأجدر لولادة حضارة بشرية، ستكون -بشهادة المنصفين- هي الأعظم أثرًا في مسار التَّاريخ الإنساني والحضاري في العصور اللاحقة، وستؤسِّس في قابل أيامها إمبراطوريات ودولًا وممالك، يكاد يغطي سلطانها ما سطعت عليه الشَّمس، على مدى قرون عديدة!

ولستُ معنيًّا هنا بالحديث عن الموقع الجغرافي الحصين، الذي وفرته ظروفها المائزة، كالصحاري المبيرة التي تتوسطها، والجبال المنيعة التي تحيطها، والبحار الممتدة التي تطوقها..

وإنما سأسلطُّ الضوء على ما امتاز به إنسانها من سمات جعلته محط العناية الإلهية، ليظفر بشرف تحمل أعباء التَّأسيس للبنى المادية الأولى لذلك الصَّرح الشَّامخ، القائم على شهادة توحيد الخالق الحق، وتحرير المخلوق من سلطان آلهة الزَّيف!

وأول ما سيلمحه المتأمل في تلك الحشود المتناثرة في أنحاءِ الجزيرة، من أقصاها إلى أقصاها، هو تحررها من أي عقال عقدي أو فلسفيٍّ ناظم، يأطر جموعها، أو نظام قامع يشلُّ حركتها.. شأنها في ذلك شأن المهور البرية التي لم يوطئ صهواتها فارس ولم يشد لجامها سائس.. فهي والريح في تلك الفضاءات الفسيحة في سباق حتى يوقف تلك التيار، ويوقف هذه انتهاء الرغبة!

إذن، فلم تكن ضربة لازب، اختيار هذه البقعة بالذَّات، لتكون هي “المِيدَةُ” التي سيقوم عليها بناء الإسلام الأول.. وإنما كانت واحدة من معجزات هذه الرسالة الخاتمة، في أنها قامت على الاصطفاء؛ وحيًا ورسولًا، وأمَّة، وأرضًا.

فإطلالة عجلى على خارطة الجزيرة من جهاتها الأربع، توقفكَ على هذا الفراغ الحضاري، الذي يهيئ الأرض لاستشراف أي مولودٍ حضاري، يمكن أن يسطع على الأرض التي غدا حظها بين الحضارات المحيطة، حظُّ الأيتام من موائد اللئام!

حيث لا وجود لدول قوية، لا في جنوبها، الذي شهد عبر تاريخه الطويل دولًا عظيمة، ربما فاقَ بعضها في عظمته إمبراطوريات فارس والروم وغيرهما، كتلك التي يصور القرآن الكريم طرفًا من الأسباب التي بوأتها تلك المنزلة، في هذا النَّص الوجيز عن ملكةِ بلقيس وعرشها: {وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم}.

هذا الجنوب الذي كان بتلك العظمة في عصور زهوه، أضحى قُبيل البعثة متشرذمًا ضعيفًا، لا يستطيع أن يقف في وجه بعض الطامعين الذين حكمهم دهورًا.. ما دفعَ بعض أبنائه للاستعانة بالفرس لينتصر بهم على الأحباش!

ومثلما كان الوضع في جنوب الجزيرة العربية كان في شمالها، حيث تقلَّصَ نفوذ الدول التي دشنت أولى دساتير التَّحضر الإنساني، لتصبح عبارة عن مفارز حماية لنفوذ فارس والروم!

وأما وسط الجزيرة العربية، فلم يشهد عبر تاريخه المعروف، ما يمكن أن يُطلق عليه وصف “دولة”، وربما عاد ذلك لانعدام وجود مصادر مائية وفيرة، تكفي لتنْزرع حولها حضارات، ترتقي بالقبيلة المهاجرة إلى الدولة المستقرة.

هذا الوضع المتشظي، في هذه البقعة المركزية من الأرض، المتحرر من أي أنماط قيمية أو قانونية جمعية ضاغطة، كانت واحدة من أسبابه الجوهرية عدم وجود قوى مركزية قاهرة، يكون في مكنتها طحن الجماهير، عبر أدوات القهر التي تمارسها الدول القوية المستقرة عادة، ثمَّ تقوم بطرْقِها وسحبها عبر سنِّ قوانين استبدادية، تجعلها صالحة لسوق الرق والسخرة، على ما يشتهي الملأ!

وخلو الذِّهن (كما كان الحال مع إنسان الجزيرة العربية) من أي مقررات ناظمة اجتماعية أو دينية أو تراثية أو أدبية، أو حتى أساطيرية، مؤطرة، كتلك التي كانت سائدة في الإمبراطوريات الكبرى المحيطة بالجزيرة، كفارس والروم أو الصين والهند؛ والتي كان إنسانها عبارة عن ترس في آلةٍ عملاقة، تحكمها الأديان والقوانين، ويضبط إيقاعها التراتب الطبقي، وتشل حركة تفكيرها الأساطير..

إن ذلك الوضع الذهني الذي كان سائدًا في الجزيرة العربية قبيل انبلاج فجر الإسلام، كان بما يمتاز به من حرية تصل حدَّ الفوضى، في كل شيء- كفيلًا بأن يحرر الفرد من التَّصرف وفقًا لروح القطيع، ما يؤهل صاحبه لاتخاذ موقفٍ متحرِّر؛ وفقًا لما تمليه عليه القواعد العقلية والمنطقية، التي يقضي بها عقله ومنطقه الخاصان؛ بمعزل عن ضغط التأثير الذي يحدثه ذلك الإملاء الفوقي، أو الوقوع تحت تأثيره غير المنظور.

أزعم أنَّ هذا الفضاء الفسيح من الأرض، الذي يمنع أو يبطئ الاتصال بالأمم الأخرى، ويقلل من فاعلية التَّأثر بعقائدها وفلسفاتها المعمَّقة، التي تقدم رؤية شاملة لتصور الإله والكون والإنسان، والعلاقات التي تنشئها تلك العقائد والفلسفات بين الإله (بحسب تصور كل منظومة عقدية أو فلسفية وبين الكون والإنسان).. والفضاء الفسيح من الحرية، الذي يمنحه غياب سلطة مركزية تعمل على صهر الأفراد وتنميط طرائق تفكيرهم.. جعلا من إنسان الجزيرة العربية منفتحًا على الدعوة الجديدة سريع التأثر بدعوتها المتسقة مع فطرته التي تأرز إلى التَّحرر من العبودية، وإعلاء القيم الإنسانية النَّبيلة، والتضحية في سبيلها.. وعشقه للجمال الفطري البعيد عن تزوير المدنية…!

كل هذه القيم التي هي جزء أصيل من مكونات هذا الإنسان.. وجدها في هذا الدِّين.. فكان كما قال شاعرهم:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فوافق قلبا خاليا فتمكنا

لقد تمكن حبُّ هذا الدِّين الجديد من تلك القلوب، حتى ملأ عليها شغافها، ولم يدع فيها شيئًا من شوائب ما قبله من الترهات، التي لم تكن ترقى ليطلق عليها وصف “دين”.. ذلك أنها عقائد سطحية، لا تقوم على أي أساس منطقي أو عقلي.. تلحظ ذلك جليًّا من خلال الارتباك الذي بدا على أكابر قريش وزعمائها وهم يدافعون تأثير هذا الدِّين على أنفسهم وعلى أتباعهم.. فتقرأ من بين تلك الحجج:

– “تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرَفَ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ (متساوين)، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ (1).

– {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا واحدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5)!

– قالَ رسولُ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لعمِّهِ: “قل لا إلهَ إلَّا اللَّهُ أشهدُ لَك بِها يومَ القيامةِ، قال: لولا أن تعيِّرني قريشٌ: إنَّما حملَه عَليهِ الجزعُ، لأقرَرتُ بِها عينَك”(2).

025 فترات الانتقال: تخلية حضارية

نموذج عابر للأمم

إنَّ المتأمل للمعجم القرآني، وهو يصف بني إسرائيل، في الفترة المصرية، يجده مختلفًا عن المعجم القرآني الذي رافق بني إسرائيل، في مرحلة التِّيه، وهو ما يمكن تسميته بـ: “المرحلة الانتقالية” بين الحكم الاستبدادي ومرحلة بناء الدولة.

فالمرحلة المصرية، كانت مرحلة استضعاف {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ  إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} (القصص:4)، وبالتالي فإنَّ القرآن الكريم، لم يركز كثيرًا على جوانب الخلل في بني إسرائيل، بقدر ما ركز على مظلوميتهم، وشنع على عدوهم، ووعدهم بالنصر والتمكين، {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (القصص:5-6).

هكذا جاء الوعد الإلهي بنون العظمة، التي تجعل أضعف الضعفاء يركن إليه، فيقف لأعظم الجبابرة شامخًا بهذا الوعد مطمئنًا إلى صدقه.

كان هذا الوعد القاطع هو السبيل الوحيد لإخراج تلك النفوس من سجون ذلها، قبل أن تخرج الأبدان من البيوت التي أدمنت فيها الذل واستمرأت المهانة.

غير أن سمات الخطاب القرآني التي صورت بني إسرائيل في المرحلة الانتقالية بدت مختلفة.. فالخطاب القرآني الآن توجه لاستئصال الداء الذي ضرب بأطنابه في جذور القلوب.. وكأنَّ نزول بني إسرائيل الصحراء، حيث الفضاء الفسيح، الذي يملأ الرئتين بالهواء الطلق، ويتيح للحواس أن تتحرك بعيدًا عن الجدران العالية والأسوار المنيعة.. وبمعزل عن سلطان القهر والكبت الذي يحد من كل شيء، بما في ذلك حركة الأماني التي تنحشر في الصدور، خشية أن تفضحها الألسنة أو تشي بها العيون!

كأنَّ هذا الفضاء الفسيح مكانٌ لإعادة ضبط النُّفوس على دين وخلق وعقل الفطرة.. هنا في هذا المكان الفسيح البعيد عن كلِّ سلطة إلا سلطة الضَّمير، يجب أن تطفو إلى السَّطح كل العلل والأدواء الدفينة التي تشربتها النفوس تشرب الشجر عصارة الأرض، حتى ليغدو الموت أحيانًا أسهل في أعين هذه النفوس من التغيير!

ولقد كانت صحراء التيه هذه، أعظم مغسلة لهذه الأمة، كثيرة الأنبياء، من أدرانها التي أورثها إياها مخالطة الوثنيين الفاسدين وتسلطهم عليها.

0258 فترات الانتقال: تخلية حضارية

صحراء النقاهة والاستشفاء

والقرآن الكريم يصور هذه المعالجة التي بدأت عقب معجزة خروج بني إسرائيل من البحر مباشرة.. فالجماهير التي خرجت للتو من تحت سلطة المستبدين.. متشبعة بأخلاقهم، ممتلئة بطرائق عيشهم وإدارتهم.. ينخرها دود الفساد نخره الثمرة السَّليمة، التي تسرب إليها من المعطوبة- هذه الجماهير تطلب من نبيِّ الله الذي أخرجهم الله بالمعجزة التي أجراها على يديه، أن ينسخ لهم آلهة متجسدة على شاكلة تلك الآلهة التي كان يعبدها مستعبدوهم!

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138)

ولا تأخذنك الدهشة وأنت ترى بعض الشعوب التي ضحت بالنفس والنفيس للخلاص من مستعمريها أو ظالميها، تنتشر فيها الفوضى، في كل اتجاه.. فتثور في الوقت نفسه على الرذيلة والفضيلة دون تمييزٍ بين حقٍّ وباطل!

فلقد كان أول طلب لبني إسرائيل، طلبًا لا يمتُّ للدِّين ولا للعقل ولا للمنطق بصلة، {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138).. إنها فوضى الحرية التي تفتح جميع الأفواه، بكل ما يعن لها أن تقوله!

وستبلغ الفوضى ذروتها في عقول هذا القطيع التائه، على شكل انقلاب ديني كامل على دين التوحيد، وسيكون هذا الانقلاب واحدًا من أشد الشَّواهد على التأثير البالغ الذي تركه الواقع الثقيل، الذي ثارت عليه الجماهير المندفعة بغير وعي!

لقد طاشت العقول بهذه الفتنة القرعاء حدًّا كادت معه هذه الجماهير الغوغائية أن تفتكَ بنبيِّ الله الذي أخرجهم الله به وبأخيه من نار الظلم وموج البحر! {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف:105).

ولأن نبي الله موسى عليه السَّلام، كان قد قرأ وعد الله بإنجاء بني إسرائيل وتمكينهم في الأرض، فقد تهيأ لمواصلة السير باتجاه هدفه الأسمى: فتح الأرض المقدسة.. فتوجه بالأمر لقومه بالأمر بدخولها.. وربما لمح في عيون القوم ما جعله يردف الأمر بإخبارهم أن الفتح لن يكون بمعزل عن نصر الله وتأييده بالمعجزات التي عهدوها ترافقهم منذ شق لهم البحر وأسقاهم من الحجر!

– وفي هذه الآيات من سورة المائدة صورة مكثفة للحالة التي يبدو عليها دعاة الحق والحرية، وهم يعالجون شؤون المجتمعات التي صنعها الاستبداد على عينه ويده ورجله.. هم يدفعونها بالإيمان لتحقيق أهدافها، وهي تتقاعس بما حملته من زينة وأدواء الأنظمة والمجتمعات التي سحقت فطرتها عن دفع ضريبة الحرية..

وإن القرآن الكريم، وتجارب المجتمعات في الماضي والحاضر لتوقفنا على حقيقة أنَّ الاستخلاف والتمكين لا يمكن أن يمنحا للأمم المتقاعسة أو الملوثة بفساد الأنظمة التي ثارت عليها.

وإنَّ القدر لن يضع مفاتيح النَّصر والتأييد والمستقبل في أياد مملوءة من زينة الفساد، وقلوب ضنينة على التضحية، وأكف ترتعش من مواجهة الباطل..

وإنَّ الوطن المؤمل أن يكون قاعدة الحق والخير، لابد أن تُخلق له أمة بمواصفات مختلفة عن الأمة التي خالط الذُّل شغاف قلوبها..

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.

وإنَّ للقدر حكمه الذي يقضي أنَّ الزَّبد لابد أن يذهب جفاء.. حتى ولو كان جيلًا بأكمله.. وأنَّ الذي يبقى هو الذي ينفع النَّاس:

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد:17).

وحين تجلت في هذا الجيل المخذول، هذه الأخلاق التي تشكل خطرًا على بيئة المستقبل المأمول، كان لابدَّ من انبساط فترة الانتقال في صحراء التِّيه، لإعادة صياغة أمة حرة، تكون حرية بوراثة الأرض، التي كتبها الله للصَّالحين من عباده: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105).

والحقيقة التي ينبغي لدارس التَّاريخ والمشتغل بقضايا النَّهضة والمتأمل لسيرورة التَّاريخ في القصصِ القرآنيِّ أن يستخلصها مما سبق، أنه: كما أنَّ سنن السُّقوط لا تخاصم أحدًا أخذ بأسباب القوة، فإن سنن النهوض لا تحابي أحدًا فرطَ بها.. ولئن كان صلاح الأفراد عنصرًا مهما في الحفاظِ على البنية الاجتماعية، فإنَّ صلاح الآلية الأخلاقية والقانونية التي تدير المجتمعات لا يقل أهمية، عن صلاح الأفراد، في النُّهوض بالمجتمعات، وتجاوز الصعاب التي تعترضها، واستعادة الكيانات التي قد تعرضها بعض الأحداث لخطر التحلل والزوال.

الهوامش:

  1. ينظر: ابن إسحاق: السير والمغازي ص189، 190، وابن هشام: السيرة النبوية 1/315، 316، والبيهقي: دلائل النبوة 2/206، 207.
  2.  صحيح مسلم (1/ 55).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى