أشتات

فوكو والجابري: بؤْس المنهج

تحتَ هذا العنوان، ألاحظُ الفروقات المنهجية بين حفريات فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء)، وبين “حفْريات” الجابري في مشروعه (نقد العقل العربي), لاسيما الكتابَيْن الأولَين منه (التَّكوين، والبِنية).

اخترتُ فوكو؛ لأنَّ الجابري اعتمد طريقته في التَّحليل والكشف وجعل منها منهجًا صارمًا “يضيء” به عتمة التُّراث العربي و “يفكِّك” تشابكاته.

 

ماهي طريقة ميشيل فوكو؟

باختزالٍ شديد:

في (الكلمات والأشياء) ليس ثمَّة منهج. إنما تأمُّل الظاهرة (رؤية العالَم) وجعلها تفصح عمَّا لم تقله، وذلك بالكشف عن تاريخيتها من جهة، وبفضح بنيتها المعرفية الخفية من جهةٍ ثانية، وأخيرًا رصْد القطيعة الكاملة مع الرُّؤية السَّابقة لتحل رؤية مختلفة جذريًا عن سابقتها. هذه الابستيمة (البنية المعرفية) التي يدرسها فوكو هي التي تؤسِّس، في نظره، اللغة والاقتصاد والبيولوجيا داخل الثَّقافة الغربية.

يبدأ فوكو من القرن السَّادس عشر، ويحدد طبيعة المعرفة بأنها “نثر العالم”(1)، في هذه الفترة “يلعب التشابه دور الباني في المعرفة الغربية” ويتمفصل داخله أربعة أشكال جوهرية.

 

أربعة أشكال جوهرية للبُنية المعرفية في القرن السادس عشر:

1- التوافق وفيه “تتلاءم الكائنات المختلفة بعضها مع بعض، فالنَّبات يتواصل مع الحيوان، والأرض مع السَّماء، والإنسان مع كل ما يحيط به (…) إنَّ العالم هو «التلاؤم» العالمي الكلي للأشياء”(2) .

2- الشَّكل الثاني من التشابه هو المنافسة “الوجه منافس السَّماء، كما أنَّ عقل الإنسان يعكس، بشكل غير كامل حكمة الله، العينان تعكسان الشمس والقمر،.. وبهذه العلاقة من المزاحمة تستطيع الأشياء أن تقلِّد بعضها من أقصى العالم إلى أدناه دون تسلسل أو تقارب: بالتكرار في المرآة يبطل العالم المسافة الخاصة به “(3) .

3- التماثل أو القياس “فيه يتراكب التوافق والتنافس (ويعمل على تأمين) المجابهة الرائعة للمتشابهات (…) ويتحدث عن الضَّوابط والروابط والصلات.. فمثلًا قياس التَّماثل بين النبات والحيوان”(4).

4- الشَّكل الرابع من التشابه يتم بلعبة التعاطف “إنه يقوم بوظيفته في حريةٍ كاملة في أعماقِ العالَم. يطوفُ في برهة أشد الأمكنة اتساعًا: ومن الكوكبِ إلى الإنسان الذي يحركه، يسقطُ التَّعاطف من بعيد كالصَّاعقة.. إنَّ له القدرة الخطيرة على جعل الأشياء متطابقة بعضها مع البعض الآخر”(5) دون علاقة بينهما.

هذه هي البِنْية المعرفية للقرن السَّادس عشر، بصورة مقلَّصة جدًا،  والتي كانت تربط جميع جوانب المعرفة، وفوكو يورد أمثلة على ذلك، بطريقة إلماعية أنيقة. إنَّ عالم التشابه يحمل توقيع الله بالضرورة، وتلك هي العلامة التي تساعدنا على المعرفة.

هذه الرؤية شبيهة جدًا برؤيةِ العرفان (الرؤية الأساطيرية السِّحرية الخاصة بالشيعة والصوفية) كما ضبطه الجابري، ولكن حين نتأمل بشكلٍ أعمق نجد أنَّ هذه الرؤية تمتد إلى الحقلين الآخرين (البيان والبرهان)، وإن بصورة “معقلنة” إلى حدٍّ ما. وسنرى طبيعة هذا العقل الذي طالما أشادَ به الجابري.

مع حلول القرن السَّابع عشر تكون الكتابة قد “كفَّت عن أن تكون نثر العالم (…) لم تعد الكلمات تطبع الأشياء (كما كانت في الرؤية السحرية السابقة ) بسمتها(…) لقد انطوت الكلمات لتوها على طبيعتها كشارات”(6).

جاء الفكر الكلاسيكي (القرن السَّابع عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر) واستبعد، كليًا، “التشابه كتجربة أساسية  وندَّد بها كخليط غامض يجب تحليله بمفردات التطابق والاختلافات والقياس والنظام”(7). لقد حلَّ التَّحليل محل التراتب التماثلي. “إنَّ اللغة تنتقل من وسط الكائنات لتدخل في عصر الشفافية والحياد الخاص بها “(8) .

حلَّ النِّظام القائم على المقارنة والمقايسة وردّ الأشياء إلى أصولها الأولى (منهج ديكارت) محل التأويل الذي كان سائدًا قبل القرن السَّابع عشر.

أصبحنا أمام عقلانية لا ترحم “لقد أخلى الشرح (السَّائد في القرون الوسطى) المكانَ للنَّقد”(9).

لنا أن نقارن هذا التحول الكبير في الفكر الأوروبي، والذي لم يتم إلا بإحداث قطيعة جذرية مع الرؤية السَّابقة له، بـ”القطائع” المعرفية التي يرصدها الجابري في الثقافة العربية الإسلامية، وسأبرز المقارنة في نقاط:

أولًا: فوكو يحفر في النِّظام المعرفي لحقبةٍ بأكملها (القرن السَّادس عشر، العصر الكلاسيكي) ويرصد تمظهراته في كل تجليات المعرفة (الإنسانية والطبيعية)، ويكشف عن طريقة رؤيته للعالم، التي هي رؤية تلك الحقبة.

في حين الجابري يرصد آليات النِّظام المعرفي لكلِّ حقْل من الحقول المعرفية الثلاثة ضمن اللغة فقط  (البيان، العرفان، البرهان) في الحضارة الإسلامية من القرن الثَّالث الهجْري إلى حدود القرن الثَّامن الهجري.

 

ما الفرق بين رصْد النِّظام ورصد آلياته؟

في الأول نعرف نظرة العالم بالنسبة لعصر تاريخي محدد؛ نظرة تلف الجميع ضمنها، أمَّا مع الآليات فلا نعرف نظرة العالم لحقبة تاريخية بل و لانعرف نظرة العالم لحقل معرفي محدد، فكل ما يقوله لنا الجابري هو طرق اشتغالهم، وقليلًا ما يحدثنا عن نظرتهم إلى الأشياء، ولكن ضمن الحقل الخاص, هكذا في عملية تقطيع وفصل داخل الزَّمن الواحد.

ثانيًا: فوكو ينقلنا من عصرٍ إلى عصر مختلف جذريًا (من المعرفة السحرية القائمة على التشابهات، إلى المعرفة التحليلية القائمة على التمييز والملاحظة المعتمدة على منهج المقارنة بشقيه التقسيمي المقايساتي والتَّنظيمي أو النِّظام الذي يبدأ من الأبسط وصولًا الى الأعقد)  تحت مفهوم القطيعة المعرفية. أي أنها تتغير رؤية العالَم لأمةٍ بأكملها على نحوٍ حاسم.

بينما الجابري يحاولُ إيجاد قطيعة معرفية تمثَّلت في اشتغالات المدرسة المغربية الأندلسية، هذه القطيعة حدثت مع علوم المشرق! فعلوم الأندلس، لاسيما الحقل البياني والبرهاني،  (لأنَّ العرفان كان موضع تنديد في كل سلسلة نقد العقل العربي وبوجه أيديولوجي صلف) أحدثت قطيعة مع البيان والبرهان كما هو في المشرق.

 

المدرسة المغربية الأندلسية

يقول الجابري:” ذلك أنه إذا كان الغزالي يجسّم لحظة الأزمة في الثقافة العربية الإسلامية [حيث تشوهت، في رأيه، الحقول المعرفية الثلاثة على يد الغزالي].. فإنَّ ابن رشد يجسّم لحظة التجديد في نفس الثقافة (وهو تجديد) على صورة فلسفة برهانية أرسطية خالصة”، “فهكذا إذا كانت لحظة الغزالي تجد نقطة بدئها في ابن سينا[وهذا الأخير، بنظر الجابري، انتصر للّاعقل بواسطة العقل، ومشروعه يرجع في أصله إلى نزعة فارسية!]، فإنَّ لحظة ابن رشد تجد نقطة انطلاقتها في ابن حزم “، وقد بلغ “الطموح إلى إعادة تأسيس البيان بصورة يتجاوز أزمته الداخلية مع ابن حزم، لتبلغ قمته على مستوى أصول الدِّين مع ابن رشد وخطابه الجديد حول «مناهج الأدلة»، وعلى مستوى أصول الفقه مع الشاطبي وخطابه الجديد كل الجدة، حول «مقاصد الشَّريعة»، كان هذا في المغرب والأندلس”(10). وسوف يشير في نفس الصفحة إلى ابن تيمية كـ “مؤسِّس” في ميدان علم الكلام، وفي كتابه العقل الأخلاقي العربي يفرد للعزِّ بن عبد السَّلام حيزًا واسعًا كمؤسس لـ” أخلاق المصلحة”، ذلك أشبه برد اعتبار للمشارقة، لكن في العمق أيضًا يعكس الجابري أيديولوجيا سُنّية صميمة.

 

هل تقاطعت علوم المغرب والإندلس جذريًا مع علوم المشرق؟

لنتحقق من صدق دعاوى الجابري بأنَّ علوم المغرب والأندلس قطعت “جذريًا” مع علوم المشرق (وهذا طبعًا على صعيد المنهج، وإن كان الجابري يصل به إلى حدِّ القطيعة في الرؤية)، وإعادة تأسيسها بمنهجية “عقلانية ” ونسأل:

ماذا أسفرت هذه القطيعة؟ هل أنتجت رؤية مغايرة للعالَم؟ هل نقلت الثقافة والوعي من مرحلة إلى مرحلة مختلفة كليًا ؟ على الجابري أن يخبرنا.

سوف يطوفُ بنا، مسحورين، في أكثر من ألف صفحة، ليرينا هذه “القطائع”، وما من قطيعة أصلًا.

لنا أن نتصور مدى الخداع المعرفي الذي يمارسه الجابري حين نعرف، ويعرف هو أيضًا، أنه لا شيء تغير. فابن حزم والشاطبي واصلا المنهجية الأصولية والكلامية في خطوطها العامة، وفي أصلها، وفي جانب كبير من تفصيلاتها، ضمن الحقل البياني القائم على اللغة العربية وقياس الغائب على الشاهد، كما هي الحال لدى المشارقة. ومثله فعل ابن رشد وأساتذته في الحقل البرهاني.

ما حدث هو استغناء عن بعض الأدوات وإدخال أدوات “منطقية أرسطية” كانت غائبة عن المشرقيين، وأيضًا إضافة بعض التأويلات التي لم تكن سارية في المشرق (كأن يرفض ابن رشد مبدأ التجويز (لغير النَّبي)، ويقول بالسببية المطلقة (مع جواز تدخل اللطف الإلهي)، وطبعًا مستندًا إلى أرسطو، ومستدلًا بالآية الكريمة (سنَّةَ الله التي خَلَت من قبْلُ ولن تجدَ لسنَّةِ الله تبْديلًا) استدلالًا اعتباطيًا مغرضًا ومنتزعًا من سياقه النَّصي؛ فالآية لا علاقة لها بالكون إنما تخبر عن طريقة الله في معاقبة الأمم السَّابقة، ولكن الجابري لن يكفَّ عن الاستشهاد بها في أكثر من موضع في تحليله “النَّقدي” مكررًا تعسفية بن رشد وقسره للنصوص)، هذه الإضافات الأندلسية وأشباهها سيرفعها الجابري إلى مستوى القطيعة. يا لها من جسارة على التَّاريخ المعرفي لا تأتي إلا من دوغمائي يتَّسمُ بالعناد!

هنا تبرز عقدة المنهج، وتبرز الشوفينية الفجَّة؛ حيث المغرب استطاعت إحداث قطيعة معرفية أخيرًا! وعصر التَّدوين الجديد الذي يبشر به الجابري هو إعادة إحياء وتشغيل تراث المدرسة الأندلسية. (لا ننسى تحقيقات الجابري لكتب بن رشد، وتقديماته الطويلة لها).

ثالثًا: فوكو يدرس النُّظُم المعرفية دون مسبقات منهجية، وما يفعله هو جعل النِّظام المعرفي يفصح عن جوْهره وليس عن آلياته.

في حين نرى الجابري يقوم بالدراسة وَفْق مقتضيات المنهج؛ لهذا, تعثَّر كثيرًا، وتعسف في التأويل، وأظهر ضيقًا شديدًا في النظرة، وأغرق نفسه وقارئه في تحليلات صمَّاء حول الآليات؛ كل هذا لكي يظهر وفاءه لمنهج القطائع، رغم ادعاءاته أنه يُبَيّئ المنهج. والحق أنه يلتزم به ويُطوّع الظاهرة.

إنَّ ظاهرتنا الثقافية لا تتناسبُ مع منهجية فوكو في رصْد القطائع؛ لأنَّ وعينا العميق لم يشهد تحولًا جذريًا بعد، ونحن الآن نعيش عوالم ثقافية متداخلة ومعقَّدة: التُّراث والحداثة في مظهر خليط، ورؤيتنا للعالم مزيج من الأسطورة والعلم المنبثق من العقلانية الأوروبية، ولا نكاد نلمح الفروق بينهما، الأمر الذي يجعل دراساتنا تلفيقية ونزاعية منذ الأفغاني حتى اليوم، وبالتالي لا ننتج معرفة بل أيديولوجيا.

إنَّ الحقبة التي درسها الجابري وقسَّمها ترجع إلى أصل نظام معرفي واحد، هو أشبه بذلك الذي رصده فوكو وهو يتأمل القرن السَّادس عشر. إنها رؤية للعالَم تعتمد على التشابهات (الجرم الصغير يعكس الجرم الكبير) تلك الرؤية الأساطيرية للنُّظم المعرفية الثلاثة، ولم يفعل العرفان سوى أنه جعلها سافرة وواضحة، بينما البياني والبرهاني امتزجا بثقافة يونانية هجينة، وهكذا كان تجليهما مسخًا شديد الادعاء.

المشارقة والمغاربة أبقوا على المعجزات وجَوَّزوا “خرق العادة” وآمنوا بإله شخصي مفارق، وأثبتوا الركائز الدينية الثَّلاث (التَّوحيد، خلق العالم، البعث) تلك التي تجعل من المرء مسلِمًا، في نظر بن رشد، وهناك ثلاثة مستويات لتأويلها (البرهاني للفلاسفة، والحجاجي للمتكلمين، والخطابي للعامة). كل هذه المعالم هي، في جوهرها، لاعقلانية خالصة. ولا يبقى إلا التسليم الغيبي وهذه مسألة تقع خارج حدود العقل، ولا يفهمها إلا القلب والشعور، وتلك خطة “العرفان” الأوروبي في انقاذ المطلق خلال مرحلة الحداثة (لنتذكر باسكال وشلاير ماخر وكيركغارد).

رابعًا: فوكو يدرس البِنية المعرفية لكلِّ عصر بغرض تفكيكها وفضح سلطتها، وبالتالي إبراز تجاوزها. عملُ فوكو يدخل ضمن التقليد النقدي الأوروبي الرافض لكلِّ سلطة.

 

قطيعة الثقافة الغربية المعرفية مع العصر الكلاسيكي:

وهكذا, ما لبثت الثقافة الغربية أن شهدت مع ستينيات القرن الثَّامن عشر، قطيعة معرفية جذرية مع العصر الكلاسيكي (عقلانية القرن السَّابع عشر والتنوير)، حدثت بفضل فلاسفة وكُتَّاب مضادين للنزعة العقلانية والعلمية التي هيمنت في الحقبة الكلاسيكية.

الثقافة الغربية المعرفية في العصر الكلاسيكي

كانت هذا القطيعة فاتحة لبنية معرفية جديدة قائمة على مركزية الإنسان، ولكن داخل التاريخ والثقافة. من هنا بدأت الرومانتيكية وهي حركة تمجد الذات الفاعلة الحرة أيًّا كانت طبيعة هذا الفعل، يكفي أنه ناجم عن اختيارها وإرادتها. ومن هنا سيبدأ الاهتمام بالتَّاريخ وبالثقافة والتراث القومي، وبالروح الكلية لأمةٍ ما، جاء هذا مع كتابات الألمان (هامان، هردر، شيلر، فيشته، هيغل) ليعم لاحقًا، القارة كلها. وهنا سيظهر الإنسان السيد على كلِّ شيء، والكيان (شعب، دولة) الذي يمكن أن تتجسد فيه الروح المطلق. في ظل هذه المرحلة الجديدة ولدت الكولونيالية (الاستعمار) وإرادة الهيمنة على الشعوب الأخرى.

وفي هذه المرحلة أيضًا ستحظى الكلمات بذاتٍ مستقلة؛ فلاهي منغمسة في العالم (الرؤية الأساطيرية) ولا هي تمثيل للفكر (الرؤية الكلاسيكية ) إنما هي “روح” متفردة تفصح عن هموم ومطامح وتراث أمة، ستأخذ شكل “السَّكن” بالتعبير الهايدغري.

هذه الرؤية تضعنا على عتبة مابعد الحداثة، والتي يتم تفجير وبعثرة كل شيء، ويتم إعلان النهايات والميتات الكبيرة (موت الميتافيزيقا، موت الإنسان، نهاية التاريخ، نهاية اليوتوبيا، موت المؤلف، موت المنهج، موت النص،.. ).

هذه الدراما الهائلة في تاريخ الثقافة الأوروبية، لامثيل لها في ثقافتنا. وما يفعله الجابري هو تنصيب “العقلانية الأندلسية” سلطةً يجب الانضواء تحتها والانطلاق منها ومن ثمَّ تطويرها.

 

ما هذه “العقلانية”؟!

– ليست إلا العكوف بانهزامية كاملة  لمتون أرسطو المترجمة بهجانة من السريانية وليست من الأصل اليوناني. إن ابن رشد مجرد شارح، أي أنه يسجِّل، بجلاء، انتماءه لعصر الشروحات، عصر الإيمان المطلق بالنَّص، وأنه مودع سر العالَم؛ نص أرسطو هذه المرة.

العقل البرهاني الأندلسي يؤمن بكلام الفلاسفة السَّابقين دون شرط، ويراه صادقًا وحقيقيًا ولا يحتاج إلى الفحص والتأكد. هذا “العقل” خاضع للرؤية السحرية للكلمة، ولا يختلف في البنية، عن العقل العرفاني.

هذا عكس العقل الديكارتي، المؤسس للرؤيةِ الحديثة للغرب؛ حيث الكلام يخضع للتحقق بواسطة التقسيم والمقايسة، وبالتالي فكل الحجج السَّابقة للفلاسفة إنما تؤخذ كتاريخ لا كعلم، كما يصرح ديكارت محذرًا من الخضوع لحجج أفلاطون وأرسطو.

هذا ما لم يفعله ابن رشد والمدرسة الأندلسية ككل؛ فقد ظل خاضعًا لأرسطو طوال حياته المعرفية، وذلك بشرحه وإبانة مقاصده، تماما كما يفعل البياني أو العرفاني وهو يفسر القرآن أو الحديث أو متن من المتون. هنا أيضًا نلتقي بذات البنية المعرفية الواحدة، ونفهم أيضًا كم كان الجابري يضللنا.

يقول الجابري: غادر مشروع ابن رشد نحو أوروبا واستلهمت منه نهضتها العلمية، بينما إهماله في الثقافة العربية كان بمثابة انطفاء لها وموتًا. يروم من هذا التحسر،  إعادة بعث بن رشد وحاجتنا الضرورية إليه اليوم.

طبعًا يجهل الجابري أنَّ ابن رشد كمؤثر، بشروحاته،  في الفكر اللاتيني تمَّ تجاوزه وتجاوز كل الرطانة اللاهوتية التي سادت في العصور الوسطى، وبالطبع البدء برطانات جديدة، لكن في ظل الغياب المطلق لابن رشد ولكل طروحات الفلسفة الأرسطية المسيحية.

إنَّ (نقد العقل العربي) هو في مجمله، عمل أيديولوجي متحيز لرؤية بعينها (العقلانية الأندلسية، والتي تفيد، بزعمه، في تأسيس عقلانية عربية معاصرة).

يكاد مشروع الجابري يتلخص في الاشتغال المتمترس خلف عقلانية طللية عفى عليها الزمن، وهذا ما يجعله محدودًا ومغلقًا بلا أي أفق.

الهوامش:

  1. ميشيل فوكو, الكلمات والأشياء, ترجمة: مطاع صفدي وآخرين, مركز الإنماء القومي, لبنان – بيروت,1900, ص39.
  2. المرجع نفسه, ص40.
  3. نفسه, ص41.
  4. نفسه, ص39.
  5. نفسه, ص44.
  6. نفسه, ص60- 61 .
  7. نفسه, ص65.
  8. نفسه, ص68.
  9. نفسه, ص86.
  10. محمَّد عابد الجابري, بنية العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 2009, ط9,  487-488.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى